الملخص
تُعدُ جریمة البغاء من أشدِ الجرائم الجنسیة خطورةً وأکثرها تصدیعا للأخلاق والنظام العام، ولمَ لا وهی تجعل من عِرض الإنسان وهو أغلى ما یملکهُ بمقامِ السلعة التی تباعُ وتشترى فی سوق الرذیلة والفسوق بثمنٍ مادیٍ بخسٍ أو إشباعِ لذةٍ عارضةٍ لآدمیٍ إنساقَ وراءَ شهواتهِ وغرائزهِ البهیمیةِ دون الالتفات لما تأمر بهِ تعالیم الدین ومبادئ الأخلاق الفاضلة، ورأینا أن المشرع الجنائی العِراقی قد عالج تلکَ الجریمة وما لهُ صلةً بها من خلال تشریع جنائی خــــاص، اِدراکاً منهً للخطورة التی یحملها کل مَنْ یُساهم فی المتاجرة بالأعراض على النظام العام الداخلی ، ناهیکَ عن آثارها السلبیة على مستوى المجتمع الدولی، الذی بدورهِ تنبهَ لتکَ المخاطر وحاول تضییق الخِناق على کل من لهُ دور فی تسهیل ممارستها، ولا سیما من یتعامل بتجارةِ الرقیق الأبیض، وذلک من خلال الاِتفاقیات الدولیة التی أُبرمت تحت مظلة الأُمم المتحدة، غیر أننا وجدناها وللأسف بقیت حبراً على ورق، ولم تُتَرجم إلى حقیقة على أرض الواقع ؛ بالنظر لعدمِ وجود رغبة حقیقة من قِبل الدول الکبرى، التی تهدف إلى تفکیک عُرى المجتمعات الإسلامیة واحدةً تلو الأُخرى، وأبرز دلیل على ذلک دعمها اللامحدود لنشر التقنیات الحدیثة التی تحتلُ الدور الأول فی التحریض على ممارسة السلوکیات اللاأخلاقیة.
الكلمات الرئيسة
الموضوعات
الجديد في البحث
تُعدُ جریمة البغاء من أشدِ الجرائم الجنسیة خطورةً وأکثرها تصدیعا للأخلاق والنظام العام، ولمَ لا وهی تجعل من عِرض الإنسان وهو أغلى ما یملکهُ بمقامِ السلعة التی تباعُ وتشترى فی سوق الرذیلة والفسوق بثمنٍ مادیٍ بخسٍ أو إشباعِ لذةٍ عارضةٍ لآدمیٍ إنساقَ وراءَ شهواتهِ وغرائزهِ البهیمیةِ دون الالتفات لما تأمر بهِ تعالیم الدین ومبادئ الأخلاق الفاضلة
أصل المقالة
السیاسة الجنائیة فی جریمة البِغاء -دراسة مُقارنة-(*)-
Criminal Policy in The Crime of Obscenity - Comparative Study
هاشم محمد أحمد عباس فاضل سعید کلیة الحقوق/ جامعة الموصل Hashem Muhammad Ahmad Abbas Fadel Saeed College of law / University of Mosul Correspondence: Lamia Hashem Muhammad Ahmad E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 5/5/2014 *** قبل للنشر فی 11/12/2018.
(*) Received on 5/5/2014 *** accepted for publishing on 11/12/2018.
Doi: 10.33899/alaw.2018.164613
© Authors, 2020, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
المستخلص
تُعدُ جریمة البغاء من أشدِ الجرائم الجنسیة خطورةً وأکثرها تصدیعا للأخلاق والنظام العام، ولمَ لا وهی تجعل من عِرض الإنسان وهو أغلى ما یملکهُ بمقامِ السلعة التی تباعُ وتشترى فی سوق الرذیلة والفسوق بثمنٍ مادیٍ بخسٍ أو إشباعِ لذةٍ عارضةٍ لآدمیٍ إنساقَ وراءَ شهواتهِ وغرائزهِ البهیمیةِ دون الالتفات لما تأمر بهِ تعالیم الدین ومبادئ الأخلاق الفاضلة، ورأینا أن المشرع الجنائی العِراقی قد عالج تلکَ الجریمة وما لهُ صلةً بها من خلال تشریع جنائی خــــاص، اِدراکاً منهً للخطورة التی یحملها کل مَنْ یُساهم فی المتاجرة بالأعراض على النظام العام الداخلی ، ناهیکَ عن آثارها السلبیة على مستوى المجتمع الدولی، الذی بدورهِ تنبهَ لتکَ المخاطر وحاول تضییق الخِناق على کل من لهُ دور فی تسهیل ممارستها، ولا سیما من یتعامل بتجارةِ الرقیق الأبیض، وذلک من خلال الاِتفاقیات الدولیة التی أُبرمت تحت مظلة الأُمم المتحدة، غیر أننا وجدناها وللأسف بقیت حبراً على ورق، ولم تُتَرجم إلى حقیقة على أرض الواقع ؛ بالنظر لعدمِ وجود رغبة حقیقة من قِبل الدول الکبرى، التی تهدف إلى تفکیک عُرى المجتمعات الإسلامیة واحدةً تلو الأُخرى، وأبرز دلیل على ذلک دعمها اللامحدود لنشر التقنیات الحدیثة التی تحتلُ الدور الأول فی التحریض على ممارسة السلوکیات اللاأخلاقیة.
الکلمات المفتاحیة: الجرائم الأخلاقیة، السیاسات الجنائیة المقارنة، القانون الجنائی.
Abstract
The crime of prostitution of the most sexual offenses dangerous and most Tsidiaa to morality and public order , did not a make it display rights , a most precious possession prestigiously commodity that is bought and sold in the market of vice and immorality invaluable material understatement or satisfy the thrill of casual Adami formats behind the desires and instincts bestiality without paying attention to what ordered by the teachings and principles of morality , and we saw that the legislature Iraqi criminal has dealt with the crime and its connected through criminal legislation particular , recognizing the seriousness carried by each of contributing to the trading of symptoms on the internal order , not to mention its negative effects on the community level international , which in turn alerted to tack risk and tried to clamp down on all of his role in facilitating the exercise, particularly handles the slave trade white , and through international agreements signed under the umbrella of the United Nations , but we found unfortunately remained ink on paper , did not translate to the fact on the ground; given the absence of a genuine desire by the major countries , which aims to dismantle the bonds of Muslim societies, one after the other , and the most prominent evidence of that unlimited support for the deployment of new technologies, which occupies the first floor of incitement to practice behaviors immoral.
Keywords: ethical crimes, comparative criminal policies, criminal law.
المقدمـة
أولاً/ التعریف بموضوع الدراسة:
ابتداءً نقول إن سبب ارتکاب الجرائم الماسة بالعرض والأخلاق یرجع إلى إصابة الغریزة الجنسیة باختلال یسمى بالتضخم الجنسی، بحیث یندفع المصابون بهِ إلى ارتکاب جرائم الاعتداء على الأعراض والأخلاق ولو باستخدام القوة، وهذا النوع من الجرائم یعد من أخطر الجرائم التی تهدد أمن المجتمع واستقرار النظام العام بعناصره الثلاثة، لا بل أن الفقه والقضاء الفرنسی الإداری قد عدَّا الآداب والأخلاق العامة العنصر الرابع من عناصر النظام العام، وکیف لا وهی تضاهی فی خطورتها جرائم القتل لا بل إنها تفوقها فی الخطورة وتشکل أحد أهم الأسباب التی تؤدی إلى وقوع جرائم القتل وساحات القضاء الجنائی تشهد بذلک، وقد اعتبرتها الشریعة الإسلامیة من اخطر الجرائم من حیث مساسها بالمجتمع؛ لذلک وتقدیراً من الشارع الإسلامی لهذه الخطورة فقد عدها من الجرائم العامة فهی لا تمس من تقع علیه فحسب بل تعدّ من الجرائم الماسة بکیان المجتمع لذلک فهی تعاقب على کل وطء محرم سواء أوَقعَ من متزوج أم غیر متزوج، أما القوانین الوضعیة فأنها ترى أن الجرائم الماسة بالعرض والأخلاق من الجرائم الشخصیة التی تمس الفرد الذی تقع علیه ولا تتحقق إلا إذا وقعت على فرد مرتبط برابطة زوجیة أو وقعت بدون رضاء صحیح من قبل المجنی علیهِ.
ثانیاً/ أهمیة موضوع الدراسة:
إن الحمایة الجنائیة بواسطة التجریم ثم العقاب هی سلاح ذو حدین فهو إن استُخدِمَ فی مَوضِعهِ الصحیح ووفقاً لضوابط قائمة على أُسس قانونیة دقیقة مستوحاة من المبادئ والقیم الدینیة الاجتماعیة التی یحرص علیها المجتمع الذی ستطبق علیه کان بالفعل حمایة، أما إن اتسمَ استخدام هاتین الوسیلتین بالإسراف أو بالقصور کما هو الحال بالنسبة للجرائم الماسة بالعرض والأخلاق العامة قبل الخاصة فإننا نکون فی الحقیقة أمام انتهاک لحقوق الإنسان فی أسمى شیء یعتز بهِ الإنسان وهو طهارة العرض ونقاؤهُ، وهو أمر طبیعی ونتیجة منطقیة لکون السیاسة الجنائیة لیست مجرد تصور فکری عبثی خیالی، بل إن السیاسة الجنائیة فی مجال التجریم والعقاب تقوم على أسس مستمدة من واقع المجتمع التی وجدت بالأصل للحفاظ على کیانه من التصدع والتحلل ولاسیما من الناحیة الأخلاقیة التی تشکل الأساس الذی یرتکز علیه بحثنا هذا والموسومبـ (السیاسة الجنائیة فی جریمة البغاء) "دراسة مُقارنة".
ثالثاً/ الهدف من الدراسة وأسبابها:
لا ریب أن الفوضى فی العلاقات الجنسیة أهم عامل من عوامل انهیار المجتمع وإهانةِ کرامتهِ، وبناءً على ذلک فقد وَجَدتُ من الضروری أن نطرق باب أحد أهم جرائم الأخلاق _ ألا وهی جریمة البغاء وما لهُ علاقة بها - کی نقف على حقیقة تلک الصلات غیر المشروعة التی تدنس الأعراض وتؤدی إلى تصدع الأخلاق وتدهورها ومن ثم إیجاد العلاج الناجع لها .
رابعاً/ نطاق الدراسة:
لا بد لنا من تحدید نطاق هذه الدراسة من ناحیتین/ الأولى: من ناحیة الجرائم التی تتعلق بموضوع دراستنا والتی تترکز ببیان السیاسة الجنائیة فی جریمة ممارسة البِغاء بصورةٍ رئیسة والجرائم الأخلاقیة المُسهلةِ لها والثانیة: من ناحیة القوانین محل الدراسة إذ ستنصب دراستنا بصورة رئیسة على أحکام القانون الجنائی العراقی النافذ والمعدل والقوانین الجنائیة المکملة لهُ فضلاً عن القوانین الجنائیة فی کل من مصر وفرنسا والأردن والسودان کلما وجدنا ضرورة لذلکَ .
خامساً / فرضیة الدراسة:
تقوم فرضیة موضوع الدراسة على محاولة إیجاد أجوبة ناجعة عن التساؤلات التی یمکن أن تدور حول الجرائم التی قد تصیب عرض الإنسان وکرامته، وکما یأتی :
1 . هل کانت العقوبات التی قررتها القوانین الجنائیة الوضعیة لهذهِ الجرائم متلائمةً مع خطورتها الکبیرة على المجتمع ؟ وهل کانت هذهِ العقوبات کافیة لتحقیق الردع العام وتأمین الحمایة الجنائیة اللازمة أم لا؟
2 . ما مدى القصور الذی وقع فیهِ مشرع القانون الجنائی الوضعی فی سیاسته الجنائیة التی عالج من خلالها الجرائم موضع الدراسة ؟ وإذا کان قد اعترى سیاستهُ القصور فما هو السبب؟
سادساً / منهجیة الدراسة :
سنعتمد فی کتابة موضوع دراستنا هذه على أکثر من منهج من مناهج البحث العلمی وکما یأتی :
1 . منهج تحلیلی : یقوم على استعراض النصوص القانونیة التی عالجت الجرائم موضوع الدراسة، ثم بیان الآراء الفقهیة التی طرحت حولها ومناقشتها للوقوف على الرأی الراجح منها، فضلاً عن الاستئناس بقرارات قضائیة تدعم وتعزز موقف التشریع والفقه الجنائی الوضعی والإسلامی قدر الإمکان.
2 . منهج مقارن : یقوم على بیان أوجه النقص والقصور التی شابت النصوص التی عالجت الجریمة فی القوانین الجنائیة الوضعیة محل المقارنة.
سابعاً / هیکلیة الدراسة:
من أجل اِعطاء صورة واضحة للأفکار الفلسفیة التی تقوم علیها السیاسة الجنائیة فی جریمة البِغاء وما یرتبط بها، ارتأینا تقسیم موضوع البحث على أربعة مباحث تسبقها مُقدمة، خصصنا المبحث الأول لبیانِ مفهوم جریمة البغاء والعلة من تجریمها، وترکنا الثانی للوقوف على الجرائم الأخلاقیة المسهلة للجریمة الأصلیة – البِغاء -، أما الثالث فقد تطرقنا فیهِ للجزاء الجنائی الذی قد یلحق بمن یُمارس الجریمة أو یُساهم فیها، ثم وقفنا فی الأخیر على البعد الدولی للجریمة، ثم وکأی بحث أکادیمی انتهینا بخاتمةٍ تتضمن أهم الاِستنتاجات والتوصیات .
تمهید وتقسیم :
تُعدُ جریمة البغاء من أشدِ الجرائم الجنسیة خطورةً وأکثرها تصدیعا للأخلاق والنظام العام، ولمَ لا وهی تجعل من عِرض الإنسان وهو أغلى ما یملکهُ بمقامِ السلعة التی تباعُ وتشترى فی سوق الرذیلة والفسوق بثمنٍ مادیٍ بخسٍ أو إشباعِ لذةٍ عارضةٍ لآدمیٍ انساقَ وراءَ شهواتهِ وغرائزهِ البهیمیةِ دون الالتفات لما تأمر بهِ تعالیم الدین ومبادئ الأخلاق الفاضلة، ومن أجل الوقوف على مدى نجاح السیاسة الجنائیة التی بنى علیها المشرع الجنائی أحکامه فی مواجهة هذهِ الجریمة من عدمها لا بدَّ لنا من أن نُعَرِجَ على مفهومها ثم المبررات التی تدعوا إلى تجریمها من عدمه ثم الأرکان التی تقوم علیها ثم بیان مقومات أهم الجرائم التی هی على صلةٍ وثیقة بممارسةِ البغاء ثم الجزاء الذی یلحق بمن تُسَولُ لهُ نفسهُ السقوط فی هاویتها مع الإشارة إلى الجهود الدولیة التی بذلت فی سبیل الحدّ قدر الإمکان من المخاطر التی جلبتها على الإنسانیة، وکما یأتی:
المبحث الأول
مفهوم جریمة البغاء
إن الوقوف على المفهوم القانونی والشرعی للسلوکیات التی تقومُ علیها جریمة المُتاجرة بالحریات الجنسیة فی القانون الجنائی أو بالعِرض فی الشریعة الاِسلامیة یتطلب منا أن نوضح تعریفها ثم العلة التی دعت إلى اِدخالها تحتَ طائلة التجریم والعقاب، وکما یأتی:
المطلب الأول
تعریف جریمة البِغاء
فی البدء نقول إن البِغاء فی کتب النحو یَنصرفُ معناهُ إلى قیام المرأة حرةً کانت أم أمةً بممارسةِ الزنى بشکل یتصفُ بالاعتیادِ من أجل جمع المال أکثر من قضاء الشهوة، وهی مهنة ممتهنة وعارٌ على من تمارسها. أما على صعید الفقه الجنائی والشرعی فقد تعددت التعاریف التی ساقوها لهذا المصطلح، حیث عرفهُ البعض بأنه: (إقامة علاقة جنسیة عابرة بین رجل وامرأة غیر متفقة لا مع القانون الوضعی ولا الإلهی، الغایة منها تحقیق مصلحة مادیة أو إشباع حاجة جنسیة غریزیة). فی حین عرفه آخر بأنه: (ضرب من ضروب الدعارة یحصل فیها الرجل على متعتهِ الجنسیة من امرأةٍ لا یُقیم معها طویلاً ولا یُکِنُ لها شعور الحب ولا حتى الاحترام، بل یتمتع معها جنسیاً مقابل ما یدفعهُ لها من مبالغ نقدیة أو نظیر خدمات مادیة معینة ) . فی حین نجد الفقه الجنائی العربی یکاد یجمع على التعریف الذی جاء فی أحکام محکمة النقض المصریة، والتی عرفتهُ بدورها على أنه إتیان الفاحشة مع کل من یشتهیهِا من الناس دون تمییز، وهذهِ الفاحشة إن ارتکبها الرجل فهی فجور وإن قارفتها المرأة فهی دعارة.
أما البغاء فی الشریعة الإسلامیة فیرادُ بهِ الزنى بالإماء لقاء أُجور معینة، وهو إن کانَ یَغلب فیما بین الإماء فإنه یکون أحیاناً فی الحرائر من النساء، لا بل قد یصل الأمر فی الغالب من الأحوال إلى وضع علامات فارقة تَدُلُ على امتهانِ الزنى واستقبال الرجال لأجلهِ، وهو الذی ذکرهُ ونهى عنه الله تبارک وتعالى فی کتابهِ العزیز بقولهِ ((ولیستعفف الذین لا یجدون نکاحاً حتى یُغنیهم الله من فضلهِ والذین یبتغون الکتاب مما ملکت أیمانکم فکاتبوهم إن علمتم فیهم خیراً وآتوهم من مالِ الله الذی ءَاتاکم ولا تُکرهوا فتیاتکم على البغاءِ إن أردنَ تحصنا لتبتغوا عرَضَ الحیاة الدنیا ....)).
وعلى مستوى التشریعات الجنائیة فقد مرت جریمة البغاء بتطورات عدیدة حتى وصل بها الحال إلى ما هی علیهِ الیوم، إذ ظلت هذهِ الأفعال الجنسیة تُمارس بعیداً عن مظلة التشریعات الجنائیة، لا بل أنها لا قت رواجاً واسعاً لا سیما فی فترة ما بعد الحرب العالمیة الأولى ؛ بسبب انتهاز القوادین الدولیین ما صاحبَ الامتیازات الأجنبیة من انفلات نتیجةً عدم وجود رقابة جدیة للموانئ فی دول الشرق الأوسط الکبیر ومنها الدول محل المقارنة، والتی بدورها مکنتهم من إدخال أکبر عدد من النسوةِ اللاتی یُمارسن الدعارة، الأمر الذی أدى إلى إضعاف تمسک عامة الناس بأخلاق وتعالیم الدین الإسلامی الحنیف، وبعد الحرب العالمیة الثانیة تنبه المشرع الجنائی لخطورةِ الآثار التی خلفتها هذهِ الآفة الأخلاقیة، وبدأ یَسُن قوانین جنائیة تُجرم هذهِ العلاقات الجنسیة العابرة وتعاقب علیها، حیث کافح المشرع العراقی هذهِ الجریمة الخطیرة من خلال إصدار قانون جنائی مستقل عن قانون العقوبات أسماهُ "قانون مکافحة البِغاء"، وقامَ بإلغائهِ أکثر من مرة إلى أن أستقر بهِ الحال على القانون النافذ حالیا وهو القانون ذی الرقم (8) لسنة 1988 ناهیکَ عن القرارات التی صدرت من مجلس قیادة الثورة المنحل بهذا الشأن والتی لا تزال نافذة إلى حد کتابةِ هذهِ السطور، وقد عرفَت المادة الأولى من قانون مکافحة البغاء العراقی النافذ البِغاء بأنه (تعاطی الزنا أو اللواطة بأجر مع أکثر من شخص). وما یلاحظ على مفهوم المشرع العراقی للبغاء أنه لم یقصرهُ على فعل الزنا بل شمل بهِ اللواطة وهذا یعنی أن البغاء قد یُمارس من قِبَلِ المرأة والرجل على حدٍ سواء، ویجب أن یقع الفعل مع أکثر من شخص وأن یکون لقاءِ عوضٍ معین ، وما یؤخذ على المشرع العراقی بهذا الصدد أنه قَصَرَ البغاء على العلاقات الجنسیة المأجورة، فی حین کان یُفترض بهِ إدخال أیة علاقة جنسیة تتصف بالاعتیاد مع عدم التمییز وإن کانت الغایة من إقامتها مجرد إشباع الشهوة الجنسیة لکل من یطلبها لیس إلا . أما قانون العقوبات السودانی النافذ فإنه لم یُعَرّفَ البغاء إلا إننا یمکن أن نستشف ما ینصرف إلیهِ مفهومه من خلال نص المادة رقم ( 154/1)، إذ إنهُ یَعُد داعراً کل من قام بممارسةِ صلاتٍ جنسیة فی بیوت الدعارة أو کان ذلک مقابل الحصول على کسبٍ ما، ، وکذا هو الحال فی قانون العقوبات الأُردنی النافذ والمعدل. فی حین لم یرد فی قانون مکافحة الدعارة المصری رقم (10) لسنة 1961 النافذ أی نص یوضح المراد بالبِغاء(¨).
ونرى أن مفهوم جریمة البغاء یجب أن ینصرف إلى کل ممارسة جنسیة سواء تمثلت هذهِ الممارسة فی صورتها التامة أی بالهیئة التی تجری علیها فی جریمة الزنى أم مجرد ممارسة مقدماتهِ دون وجود الرغبة فی إقامة علاقة بشکلها التام ما دام أنها تقع على وجه الاعتیاد ومن دون تمییز بقصد الحصول على عوض نقدی أو مجرد إشباع الغریزة الجنسیة وإن کان وجود المقابل المادی فی الغالب من الأحوال یُعدُ دلیلاً قویاً على ممارسة البغاء ولا یهم بعد ذلک أن تجری الجریمة ضمن إطار منظم أو غیر منظم، أی یستوی أن تُمارس هذهِ العلاقات الجنسیة العابرة فی مکان مُعدّ سلفاً لممارسةِ هذهِ الفاحشة یُدیرهُ ویشرف على انتظام سیر العمل فیهِ بصورةِ تتصف بالدیمومة والاستمراریة أو أن تتم هذهِ العلاقات فی البیت الشخصی للبَغِی أو الفاجر بحسب الأحوال أو فی بیت من یرُوم إقامة مثل هذهِ العلاقات أو حتى فی أی مکان آخر یتفقان علیهِ هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن ممارسة البِغاء قدّ تکون منظمة بصورةٍ رسمیة بموجب تعلیمات صادرة من جهات حکومیة مختصة، بحیث تمنح کل من یروم امتهانه من النساء والرجال على رخصة ویخضع لفحص طبی فی مواعید محددة للتأکد من مدى سلامتهم من الأمراض الجنسیة الساریة خشیةً من تفشی الأمراض الفتاکة فی المجتمع، ویلتزمون مقابل ذلک بدفع ضرائب تدفع بصورةٍ دوریة وفی هذهِ الحالة یسمى من یحمل هذهِ الرخصة مومساً، وقد یکون البغاء غیر منظم رسمیاً من قبل الدولة أی ممنوعا ویخضع من یُمارسه لجزاء جنائی بعد أن کشفت الأیام المخاطر الجمة التی تحملها هذهِ المهنة الدنیئة بین جنباتها على المجتمعات التی تعترف بها وتنظمها فضلاً عن صعوبة السیطرة على من یمارسها.
ولکی نقف على مفهوم البِغاء بصورةٍ دقیقة لا بدّ لنا من أن نقف على معنى الألفاظ التی تندرج تحت هذا المصلح أو قد تختلط بهِ أحیاناً رغم أنها فی حقیقتها لا تعدو أن تکون جزء منهُ ولا تمثل مرادفات لهُ، وهی ما یأتی-:
1 – البغاء Prostitution : یراد بهِ بغاء الذکور والإناث على حدٍ سواء .
2 – الدعارة Prostitution Feminine : تشیر إلى بغاء الإناث دون الذکور .
3 – الفجور Prostitution Masculine : وهو بخلاف المصطلح السابق یشیر إلى بغاء الذکور دون الإناث .
4 - الفسق Debauchee : وهو لفظٌ یدلُ على الأفعال الجنسیة غیر المشروعة والتی قد یُمارسها کل من الذکر والأُنثى دون أن تتوافر فیها شروط جریمة البغاء ولا غیرها کالقوادة التی تتمثل بِتَصَیُد العملاء وإغوائهِمْ بأقوالٍ أو أفعال أو التحریض والمساعدة على ارتکاب الجرائم الأخلاقیة وکذا إعداد محل خاص لممارسةِ البغاء أیاً کان هذا المحل بیت أم شقة، وسنتطرق لهذهِ الجرائم التی هی على ارتباطٍ شدید بجریمة ممارسة البِغاء فی موضعٍ لاحق إن شاء الله.
5 – المومس Fille Soumise : ویعنی البغی التی تحمل رخصة من قبل الجهات المختصة تُمارس بموجبها أفعال الدعارة دون أن یتجرأ أحد على مضایقتها أو رفع دعوى علیها متى ما التزمت بممارسةِ هذهِ العلاقات الجنسیة وفقاً للنظام القانونی الذی حصلت بموجب أحکامهِ على الرخصة بمزاولةِ هذهِ المهنة المُشینة.
المطلب الثانی
العلة من تجریم البِغاء
لما کانت السیاسة الجنائیة تهدف إلى بناء القوانین الجنائیة بشکلٍ دقیق یحفظ للمجتمع تماسک نظامه العام الذی یتکون من لَبِنات عدیدة من أهمها الآداب والأخلاق العامة، فإنها بالنتیجة ینبغی أن تضع أُسس متینة لمکافحةِ أحد أخطر هذهِ الآفات تصدیعاً لهُ، آلا وهی جریمة البِغَاء، هذهِ الجریمة التی تفاوتت التشریعات الوضعیة فی إیجاد علاج لها وهی تسعى للحدّ من آثارها قدر الإمکان وبحسب السیاسة الجنائیة التی قامت علیها تلک التشریعات، إذ رأت بعضها أن الحل الأمثل لمواجهتها یکمن فی وضع تشریع خاص بها لا یُجرمها بل یتضمن تنظیما ینبغی على من یروم ممارستها أن یراعی أحکامهُ وإلا تعرض للجزاء المنصوص علیهِ فی ذلک التنظیم، أما البعض الآخر فقد ذهبَ إلى تجریمها ابتداء وفرض الجزاء على کل من تُملی لهُ نفسهُ التردی فی أحضانها، والمسألة لیست اعتباطیه بل إن لکل جانب منهما حجج یدعم بها وجهة نظره وهی فی الحقیقة تمثل بالنسبةِ لنا المصلحة المحمیة، وکما یأتی :
الفرع الأول
تنظیم ممارسة البِغَاء
إن وجود بعض التشریعات فی یومنا هذا تتولى عملیة تنظیم البِغاء لیس بدعة قانونیة حدیثة، بل إن لها جذورا" تاریخیة ترجع إلى القرن السادس قبل المیلاد، إذ وضع المشرع الإغریقی صولون وهو - کبیر مشرعی أثینا وحاکمها - قانوناً یتولى تنظیم ممارسة البِغاء وفرض الرقابة على البیوت التی تُمارس فیها هذهِ العلاقات الجنسیة المأجورة، وقد کانت البغایا ملزمات بارتداءِ زِی معین ولا یدخلنَ المدینة إلا نهاراً ویسکنَّ فی بیوت محددة تغطی أبوابها الستائر ویخضعنَ لرقابةِ البولیس وکانت الدولة تفرض علیهنَّ أداء ضرائب مالیة محددة شأنها شأن أی مهنةٍ أُخرى ومن الأمثلة التاریخیة الحدیثة لقوانین نظمت البغاء قانون 16 أُغسطس 1935 اللبنانی والقانون العراقی الصادر فی 17 مایو عام 1943 ولائحة بیوت العاهرات الصادرة فی 16 نوفمبر 1905 التی بقیت نافذة إلى عام 1949 حیث تم إلغاء البِغاء المنظم، هذا وقد استندت الدول التی تبنت سیاسة تنظیم البِغاء على مبررات عدیدة أهمها:
أولا : کثرة الأصوات الداعیة إلى حمایة هذهِ المهنة وشمولها برعایة القانون، ومن ضمنها أصوات رجال دین نصارى، إذ أعلن بعض القساوسة أشهرهم "أُوغسطین" عن تأییدهم لتقنین عمل البغایا، بحجة أنهنَّ یقمنَ بوظیفةٍ اجتماعیة بِدَفعِهِنَ الشرور عن المجتمع ؛ لکون الرجل الذی یُمارس الجنس مع مومس ولقاء أجر معین أقل إضراراً بالمجتمع ممن تدفعهُ شهوته إلى اغتصاب فتاة شریفة، أی أنه یشبهُ المرأة التی تمتهن البغاء بخراطیمِ تصریف المیاه الثقیلة فی القصور، هذهِ الخراطیم التی لو تم غلقها دون متنفس، الأمر الذی یؤدی إلى تفشی الروائح والسموم التی تُخَبث صفو الحیاة، ناهیک عن تنظیم البغاء یؤدی إلى الحد بصورةٍ کبیرة من انتشار الأمراض الجنسیة المُعدیة من خلال خضوع البغایا لفحص دوری الأمر الذی لا یمکن بلوغهُ فیما لو لم تکن ممارستها منظمة".
ثانیاً : البغاء فی حقیقتهِ رذیلة شأنه شان بقیة الأفعال الجنسیة التی لیسَ لها غطاء من المشروعیة لا دیناً ولا قانوناً، غیر أنها مرتبطةً بالأخلاق الشخصیة التی یحملها ضمیر کل شخص، ولیس للمشرع من سبیل فی إدخالها تحت طائلة الجزاء الجنائی، إلا بالقدر الذی تتعرض فیهِ حقوق الغیر للضرر؛ لأنه فی هذهِ الحالة تعلو حقوق العامة على إرادة الأفراد، ولا سبیل للمشرع الجنائی إلى القول بوجود ضرورات أخلاقیة وقائیة کما هو الحال بالنسبة لضرورة الوقایة من تفشی الأمراض.
ثالثاً : إن من یُمارس البِغاء لیس إلا ضحیةً للمجتمع الذی یعیش فیهِ ؛ بالنظر لصعوبة الظروف الاقتصادیة والنفسیة والاجتماعیة التی مرَ بها هؤلاء الأفراد، فضلاً عن أن جریمة البِغاء فی الغالب تتم ممارستها فی الخفاء وبالنتیجة فهی تحتاج إلى إجراءات تحقیقیة دقیقة، الأمر الذی قد یؤدی إلى المساس بحرمات أُناس شُرفاء دون مبرر، وإن تم إثباتها بحق من أُتهم بممارستها فأن العقوبة الجزائیة بسیطة ولا تفی بالغَرض إذ لا تتعدى فی أشدّ الحالات الحبس قصیر المدة، وهی عقوبة لا تکفی لتطبیق برنامج إصلاحی ناجح بحق المُدان ولا سیما إذا کان محترفاً للبِغاء إلى درجةِ أنهُ سَینظُرُ إلى مثل هذا الجزاء بأنه من مخاطر المهنة لیس إلا، وکذا هو الحال فیما کانت الغرامة مقترنةً بعقوبةِ الحبس أو تم فرضها دونها، إذ إن البغی سوف یندفع بعد أن یدفع الغرامة المحکوم بها ولن یدخرَ جهداً فی تعویض النقص الذی أصاب ذمتهُ المالیة بإقامة أکبر عدد من العلاقات الجنسیة المأجورة.
الفرع الثانی
تجریم ممارسة البِغاء
لمْ تکدْ القوانین المنظمة لمهنةِ البِغاء فی القرن التاسع عشر تطبق فی دول العالم حتى بدأت بالزوال شیئاً فشیئاً قبل نهایة ذلک القرن وهو ما علیهِ الحال فی التشریعات محل المقارنة ؛ بسبب التیارات القویة التی لم تألُ جهداً فی مناهضتها والتقلیل من شأن الحجج التی اتضح جلیاً للعیان وبالدلیل الواقعی أنها واهیة زائفة ولا تَمتُ إلى الحقیقة بِصِلَةٍ، إذ إن النساء اللواتی یحترفنَ البغاء لیس هدفهنَّ إنقاذ المجتمع من خطر الشهوات الجامحة التی لا تجد سبیلاً لتفریغها، وإنما هنَّ یطلبنَ المال فضلاً على إشباع غریزتهنَّ الجنسیة التی تتحقق لهنَّ بصورةٍ عرضیة، لذا ومن أجل الوقوف على العلة التی تَقِفُ وراء تجریم البِغاء بصورةٍ تفی بالغرض لا بدَّ من أن نتحدث عن مَضارهِ بشیءٍ من التفصیل والتی هی فی الوقت نفسه ردُ على الحجج التی تمسک بها من قال بإباحتهِ ضمن نظام قانونی معین، وکما یأتی:
أولاً: إنالقول بأن احتراف البِغاء من شأنهِ أن یحفظ الأمن الأخلاقی فی المجتمع ؛ لأنه یعمل على ترشیح الشهوات، حجة لمْ تلبث أن انهارت أمام تفشی الأمراض الجنسیة الفتاکة التی باتت تهدد الأمن الصحی فیهِ، وربَّ من یسأل کیف ذاک والمومسات یخضعن لفحص طبی دوری ؟ فنقول أن ذلک شیء متوقع جداً لأسباب عدیدة منها : إن فرصة المومسات المسجلات للاتصال الجنسی بالرجال تزید بنسبةٍ کبیرة عن فرص الإناث اللاتی یُمارسن البغاء سراً الأمر الذی یترتب علیهِ ارتفاع نسب معدلات الإصابة بالإمراض الجنسیة الساریة، کما أن الفحص الطبی المزعوم فی الغالب یکون غیر دقیق لأکثر من سبب، ناهیکَ عن تدهور الحالة النفسیة نتیجةً للأسالیب السیئة التی تَجری من خلالها ممارسة العلاقات الجنسیة الأمر الذی ینعکس سلباً على الجهاز العصبی الموجود فی قاعدة الأعضاء التناسلیة للمومس حتى ینتهی بها الحال إلى فقدان التحکم بقواها العقلیة والعاطفیة مما یجعل منها أشبه بآلةٍ صماء، فضلاً على أن من یتصل بالمومس المصابة یصاب بهِ وهو لا یخضع للفحص الطبی وبالنتیجة فأنهُ سیعمل على نقل المرض فی کل مرةٍ یُقیم فیها علاقة جنسیة وهکذا.
ثانیاً: أما القول بأن ممارسة البِغاء تدخل ضمن الحریات الشخصیة التی لا سبیل للقانون إلى تجریمها أو حتى تنظیمها، قولٌ مردودْ لأن الإنسان لیس حراً فی التصرف باستغلالِ جسدهِ بصورةٍ مطلقة من کلِ قیدْ، بل یجب علیهِ أن یضع فی اعتبارهِ الاول الحفاظ على المصلحة العامة والنظام العام ، وإلا لتفشت الجریمة الجنسیة فی ثنایا المجتمع ولاسیما فی صفوف الطفولة المبکرة وأولاد الشوارع لسهولةِ إغوائهم واستدراجهم لممارسة البغاء وإنتاج المواد الإباحیة.
ثالثاً : کما أن القول بصعوبةِ إقامةِ الدلیل على ممارسة البِغاء ؛ لکونهِ فی الغالب یُمارسْ فی الخفاء یُعَدُ حجة واهیة لا یمکن الارتکاز علیها للمطالبة بعدم تجریم البِغاء أو حتى تقنینهُ ؛ إذ إن التسلیم بهذهِ الحجة هو فی الوقت نفسه تسلیماً بعدم جواز تجریم أی فعل مهما کانت الخطورة التی یجلبها على المجتمع ؛ لأن غالبیة الأفعال الإجرامیة تقع فی الخفاءِ وتحتاج إلى بذلِ جهد مضاعف من أجلِ کشفها والتوصل إلى الأدلة الکافیة للإدانةِ وإیقاع الجزاء المنصوص علیهِ فی القانون .
أما موقف السیاسة الجنائیة الشرعیة من ممارسةِ البِغاء فهو واحد منذُ بدایة الخلیقة، إذ نهت الدیانة الیهودیة عامة معتنقیها عن ممارسة الأفعال الجنسیة أو الإتجار بمحارمهم بغیة جمع المال بدلیل ما وردَ فی سَفر اللاوبین ((لا تنسَ ابنتکَ للزنى لئلا تزنی وتمتلئ الأرض رذیلة))، وکذا هو الحال فی الدیانة النصرانیة حیث رُویَ عن سیدنا عیسى (علیهِ السلام) أنهُ قال فی إنجیل متَّى (إنکم قد سمعتم أنهُ قیل للقدماء لا تزنِ وأما أنا فأقول لکم إن من ینظر امرأة فیشتهیها فقد زنى بها قلبهُ، فإن کانت عینک الیمنى تُعثرک فأقلعها والقها عنک لأنه خیر لک أن یهلک أحد أعضائک ولا یُلقى جسدک کله فی جهنم).
وقد نَهَتْ الشریعة الإسلامیة عن ممارسة الفواحش والفجور ما ظهر منها وما بطن کالبِغاء والسفاح، لما یترتب على اقترافها من عواقب وخیمة ترتدّ على الفرد والمجتمع الذی ینتمی إلیهِ على السواء، وکیف لا والبغاء یَجلب جملة من الکوارث منها صحیة بدلیل ما وردَ عن رسولنا الکریم "صلى الله علیهِ وسلم" عن بریدة "رضی الله عنه" أنه قال : (ما نقضَ قومٌ العهد قط إلا کان القتلُ بینهم ولا ظهرت الفاحشة فی قومٍ قط إلا سلطَ الله علیهم الموت ولا منعَ قوم الزکاة إلا حبس الله عنهم المطر). والحدیث الذی وردَ عن أُم المؤمنین میمونة " رضی الله عنها " أن رسول الله " صلى الله علیهِ وسلم " أنهُ قال : (لا تزال أمتی بخیر ما لمْ یفش فیهم ولد الزنى فإذا فشا فیهم ولد الزنى فیوشک أن یعمهم الله عزَّ وجل بعقاب). وما یشهدهُ الواقع الیوم من تفشی للأمراض الجنسیة التی لا یزال العلم یقفُ عاجزاً عن أن یجد لها الدواء الشافی، هو خیر دلیل على صدق ما وعدَ بهِ من لا ینطق عن الهوى . ومنها اجتماعیة إذ إن الإسلام وحدهُ هو الذی أعطى للمرأة کرامتها وعزها فجعلَ منها الأُم وأمرَ بطاعتها وبِرها ما لمْ یکن فی ذلک معصیةً لله بل وَقَرَنَ عبادته بِبرهما، بدلیل قولهِ تبارک وتعالى: ((وقضى ربکَ آلا تعبدوا إلا إیاه وبالوالدین إحساناً ...)). وقولهِ جلَّ فی علاه ((ووصینا الإنسان بوالدیهِ حملتهُ أُمهُ وهناً على وهنٍ وفصالهُ فی عامین أن أشکر لی ولوالدیک إلىَّ المصیر * وإن جاهداک على أن تُشرک بی ما لیس لکَ بهِ عِلمٌ فلا تطعهما وصاحبهُما فی الدُنیا معروفاً *)). وجعل منها الأُخت وامر ورغبَ برعایتها والعطف علیها، والزوجة وأمرَ بالإحسان لها والحفاظ علیها وأداءِ حقوقها، بدلیل ما وردَ عن جابر بن عبد الله عن رسول الله " صلى الله علیهِ وسلم " أنهُ قال فی خِطبة الوداع: (أتقوا الله فی النساء فإنکم أخذتموهنّ بأمنةِ الله واستحللتم فروجهنَّ بکلمةِ الله وإن لکم علیهنَّ أن لا یوطئنَّ فُرشکم أحداً تکرهونه فأن فعلنَ فأضربوهنّ ضرباً غیر مبرح ولهنّ علیکم رِزقِهُنّ وکسوتهنّ بالمعروفْ). وجعل منها البنت وحث على رعایتها والحفاظ علیها من مسالک الشر والفساد بدلیل ما رواهُ عبد الله بن عباس "رضی الله عنهُ" عن النبیّ "صلى الله علیهِ وسلم" أنهُ قال: (ما من رجل تدرک لهُ ابنتان فیحسن إلیهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاهُ الجنّة). ومنها اقتصادیة حیث تترتب على انتشار ممارسة العلاقات الجنسیة فی مجتمعٍ ما دون أن ینکرهُ أحد فیهِ آثار اقتصادیة وخیمة من أزماتٍ اقتصادیة وکوارث طبیعیة ومجازر بشریة ومجاعات ونحوها من الفواجع التی تنهار أمامها البُنى التحتیة للدول التی تضربها، وهذهِ الأمور تُعدُّ براهین واضحة على ما وعد بهِ سبحانه وتعالى من یُقارف هذهِ الفواحش، بدلیل قولهِ تبارک وتعالى: ((الشیطان یَعدکم الفقر ویأمرکم بالفحشاء والله یعدکم مغفرةً منهُ وفضلاً والله واسعٌ علیم)). وقولهِ تعالى: ((وضربَ الله مثلاً قریةً کانت ءامنةً مطمئنةً یأتیها رِزقُها رغداً من کلِ مکانٍ فکفرت بِأنعمِ الله فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف بما کانوا یصنعون)). وقوله "صلى الله علیهِ وسلم" فی الحدیث الذی وردَ عن عبد الله بن عباس "رضی الله عنه": (..إذا ظهرَ الزنى والربى فی قریةٍ فقد أحلوا بأنفسهم عــــذاب الله). هذا وإن جزاء من یمارس البِغاء یتفق مع الجزاءات التی تلحق بالزانی على ما فصلناهُ فیما تقدم ذکره.
المطلب الثالث
أرکان جریمة البِغاءْ
من خلال المفاهیم التی سُقناها للبِغاء یمکن القول بأن هذهِ الجریمة شأنها شأن أی جریمة أُخرى تقوم على رکنین الأول هو الرکن المادی والثانی الرکن المعنوی، والوقوف على حقیقتهما یتطلب منا أن نتعرض لکل منهما فی فرع مستقل، وکما یأتی:
الفرع الأول
الرکن المادی
کل جریمة لکی یتحقق وجودها لا بدَّ لها من رکن مادی، هذا الرکن الذی یتمثل بالنشاط الذی یصدر من الجانی ویتخذ مظهراً خارجیاً یتدخل المشرع من اجلهِ بالعقاب، وهو یختلف باختلاف الجرائم، إلا أنهُ فی النهایةِ یجب أن یحمل مظهراً خارجیاً ملموساً وإن کانَ متبایناً، فقد یکون عملاً مادیاً أو قولاً یُبدى او کتابةً تُنشر أو رسماً یُعرض ونحوهِ. والرکن المادی فی جریمة البِغاء یقوم على عنصرین الأول فعل الممارسة الجنسیة - دعارة أو فجور، والثانی أن تُمارس هذهِ الأفعال على وجهِ الاعتیاد، وکما یأتی :
أولاً / فعل الممارسة الجنسیة : لما کانَ البِغاء على الرأی الراجح هو مباشرة الفحشاء أیاً کانت صورتها مع کل مَنْ یطلبها مِنْ الناس بغیر تمییز دون اشتراط الحصول على عّوضْ معین، علیهِ تعدُ داعرة کلُ مَنْ تسعى لإرضاءِ شهوتهِا مع کلِ مًنْ هیأتهُ الظروف لذلک دون أن تستند إلى عاطفة حب وسواءً استغلت هذهِ الممارسات فی الحصول على مقابل أم لا، لا بل أحیاناً هی التی تقوم بالدفع من أجل إشباع لذتها الجنسیة، والرجل الذی یرتاد منازل البغِاء أو یتجول فی الشوارع ویقضی شهوتهُ مع أی امرأةٍ یصادفها برضاها یُعدُ فاجراً .
لذا فلا یدخل ضمن ممارسة البِغاء العلاقات الجنسیة التی تجری بین رجل وامرأة متى ما کانت تک العلاقات الدنیئة قائمة على أساس الرغبة والتخصیص – ویطلق على مثل هذهِ العلاقة الجنسیة بالمخادنة، وبالتالی فأنها تفلت من طائلة الجزاءات الجنائیة ما لم تتوافر فیها مقومات جریمة جنسیة أُخرى کزنى الزوجیة مثلاً.
ثانیاً / الاعتیاد : لا یُعاقب القانون على مجرد إقامة علاقة جنسیة عارضة، وإنما ینبغی أن تتصف هذهِ العلاقة الجنسیة بالاعتیاد، والأخیر یختلف عن عنصر عدم التمییز، إذ أن عدم التمییز متعلق بالأشخاص الذین یُمارس معهم الفعل فی حین أن الاعتیاد مرتبط بتکرار الفعل فی أوقات متباینة وکلما تهیأت الظروف المواتیة، ذلک أن العقاب ینصب على حالة أو ظرف قائم بجانب الفاعل لا على مجرد واقعة مادیة، ویتوافر هذا العُنصر بارتکاب الفاحشة مرتین أو أکثر فی مکان واحد أو عدة أماکن وفی أزمنة مختلفة لا زمن واحد، علیهِ فأن ممارسة العلاقة الجنسیة فی مکانِ ما عدة مرات وفی وقت واحد لا تصلح لقیام عنصر الاعتیاد فی جریمة البـــــِغاء، ولو تواجد فی ذلک الزمان والمکان أکثر من رَجل أو امرأة . ولنا شاهد على هذا العُنصر من أحکام القضاء الجنائی العراقی، ففی دعوى نظرت من قبل محکمة جنایات الکرخ تتلخص وقائعها فی قیام مجموعة من الرجال باصطحاب فتاة من إحدى مناطق بغداد إلى بیت مهجور فی منطقةٍ أُخرى فیها من أجل ممارسة العلاقة الجنسیة لقاء مبلغ قدرهُ خمسون ألف دینار عراقی، ومن خلال التحقیق والمحاکمة ثبتَ أن هذهِ الفتاة معتادة على إقامة صلات جنسیة مع کل من یطلبها لقاء عوضٍ معین منذُ أکثر من سنة .
والأصل بأن القید الذی یردُ على حریة الادعاء العام فی تحریک الدعوى الجزائیة هو قید استثنائی یجب عدم التوسع فی تفسیرهِ لکی لا یمتد أثره إلى وقائع إجرامیة لا تحمل بین طیاتها العلة التی من أجلها قیدَ المشرع حق السلطة المختصة بضرورة تقدیم شکوى من ذوی الشأن حتى یمکنها مباشرة إجراءات الخصومة الجنائیة، کما لم یُقید المشرع القاضی الجنائی المُختص بضرورةٍ تکوین قناعتهِ من أدلةٍ محددةٍ بعینها وإنما ترک المسألة لسلطةِ القاضی التقدیریة ولا معقب على محکمة الموضوع فی هذا الصدد فلهُ الحریة التامة فی تکوین قناعتهِ ما دامَ أن هذهِ الأدلة سائغة – أی أن لها أصل فی أوراق الدعوى المعروضة أمام القضاء، فلو کان الدلیل على امرأة متهمة بممارسةِ البِغاء هو وجودها فی منزل إحدى صدیقاتها التی اعتادت على فتح منزلها للبِغاء ووجد فی ذلک الوقت رجلان قامَ کلُ منهما بدفع مبلغ من المال لصاحبةِ المنزل من أجل مواقعة من جاءتها زائرة، وبالفعل قام الأول بمواقعتها وکانَ الثانی على وشک مواقعتها عندما داهم رجال البولیس المنزل، فإن الأدلة فی هذهِ الحالة إذا کان ثابتة بحق صاحبة المنزل الذی جعلت منهُ بیتاً للدعارة، إلا أنهُ لیس کافیاً لإدانةِ الثانیة بالنظر لعدم تحقق الشروط بجانبها.
الفرع الثانی
الرکن المعنوی
معلوم أن القانون لا یعاقب على الأفعال الإجرامیة بصورةٍ موضوعیة مادیة بحته، بل لا بدَّ من أن یکون الفعل صادرا" عن إرادة إجرامیة آثمة، أی نتیجة خطأ یُسند لمرتکبهِ، وهو لا یکون کذلک إلا إذا کان قد وقع ممن توجه إلیهِ أحکام القانون ویکون أهلاً لتحمل مسؤولیة أعمالـــــــهِ. ولا تخرج جریمة البِغاء عن هذا الاصل، إذ یشترط لقیامها فی نظر القانون قصدان قصدٌ عام یتمثل باتجاه إرادة الجانی إلى ارتکاب الفعل المُکون للجریمة مع علمهِ الیقینی بکافةِ عناصرها، لذا لا یمکن أن تقع جریمة البغاء ممن أقدمَ على إقامةِ علاقة جنسیة غیر مشروعة، وهو یعتقد أنهُ یُمارسها مع شخص تربطه بهِ علاقة شرعیة أو عاطفیة، وقصد خاص یتمثل بالهدف من العلاقة الجنسیة، آلا وهو إرضاء شهوة الغیر أیاً کان أو شهوتها، أما إن کان الهدف منها إشباع شهوتهِ أو شهوةِ شخص معین، فلا تقوم جریمة البِغاء لانتفاءِ القصد الأدبی رغم أنها قد تشکل جریمة أخلاقیة أُخرى کزنى الزوجیة مثلاً. أما عن مقومات جریمة البِغاء فی الشریعة الإسلامیة فهی لا تخرج عما تم عرضهُ فیما تقدم، فکل جریمة فی الشریعة تتطلب على ما یذهب إلیهِ غالبیة الفقه الإسلامی ثلاثة أرکان – رکن شرعی - ورکنٌ مادی - ورکنٌ أدبی -، ولما کان البِغاء فی الإسلام یشمل جمیع العلاقات الجنسیة التی تُقامْ مع کل من یطلبها دون تمییز، فإنها إن کانت علاقة جنسیة تامة دخلت ضمن نطاق جریمة الزنى الحدیة وإلا فأنها تُعدْ من الجرائم التعزیریة .
المبحث الثانی
جرائم ذات صلة بممارسةِ البِغاء
إن الوقوف على السیاسة الجنائیة التی سلکها المشرع فی عقاب جریمة البِغاء یتطلب منا أن نُعَرِجَ ولو بشیٍ من الإیجاز على المعالجة الجنائیة التی قررها بحقٍ من یُقدمُ على ممارسة سلوکیات هی فی الحقیقةِ جزء لا یتجزأ من امتهانِ البِغاء ذاته، وأبرز هذهِ السلوکیات التی تُعدُ بمثابةِ مقدمات لا بدَّ منها فی الغالب من الأحوال لممارسة البِغاء تتمثل بالقوادة ( تصید العملاء أو السمسرة )، وتهیئة محل للبِغاء، وکما یأتی:
المطلب الأول
جریمة القوادة
تتمثل جریمة القوادة بقیام شخص او مجموعة أشخاص بنشاط یبتغون من ورائهِ التیسیر لمن یرومُ مباشرة الفحشاء وتهیئة الفرصة أو تقدیم المساعدة المادیة أو حتى المعنویة أیاً کانت طریقة هذهِ المساعدة أو مقدارها، إذ نصت الفقرة الثانیة من المادة الأولى من قانون مکافحة البِغاء العراقی النافذ على أن السمسرة تعنی (الوساطة بین شخصین بقصد تسهیل فعل البِغاء بأیةِ طریقةٍ کانت ویشمل ذلک التحریض ولو بموافقةِ أحد الشخصین أو نائبه کما یشمل استغلال بِغاء شخص بالرضاء أو بالإکراه)، فی حین لم نجد فی قانون مکافحة الدعارة المصری النافذ ولا قانون العقوبات السودانی ولا الأُردنی النافذین نصاً مماثلاً وإنما اوردَ کلاً منهم عدداً من الأفعال التی یشکل کل واحد منها جریمة قوادة، الأمر الذی یتطلب منا أن نقف على مُقوماتها، وکما یأتی :
أولاً / الرکن المادی: إذ یتکون الرکن المادی فی جریمة البِغاء من اقتراف أحد الأفعال الواردة بالنصوص الجزائیة المقارنة وهی التحریض والتسهیل والمساعدة ونحوها من الوسائل التی تُساعد مهما کان تأثیرها فی وقوع العلاقة الجنسیة غیر الشرعیة، إذ یکفی إتیان أی فعل منها لتحقق الجریمة . فالتحریض قد یقع بالقول أو بالفعل بغض النظر عن حدوث النتیجة من عدمه إذ إن الأخیرة لا تعد عنصراً فی الرکن المادی لجریمة القوادة ؛ ذلک أن مثل هذهِ الأفعال تُعدُ جریمة تامةً بمجرد حصولها خلافاً لما هو معروف فی نطاق الاشتراک أو المساهمة فی الجریمة، إذ إنها لا تدخل تحت طائلة التجریم والعقاب ما لم تقع النتیجة الإجرامیة لکون المساهم یستمد إجرامه من الفاعل الأصلی، وکذلک هو الحال بالنسبةِ لصورة القوادة عن طریق التسهیل التی تعنی قیام السمسار بالتدابیر اللازمة وتهیئة الفرصة أو تقدیم المساعدة المادیة أو المعنویة لشخص ما من أجل تمکینهِ من ممارسةِ البغاء أیاً کانت طریقة أو مقدار هذهِ المساعدة أو درجة التسهیل.
ثانیاً / الرکن المعنوی : یتمثل الرکن المعنوی فی هذهِ الجریمة فی صورة القصد الجنائی الذی یتحقق وجوده بانصراف إرادة الجانی نحو تحقیق النتیجة التی رمى إلیها من وراء تحریضهِ أو تسهیلهِ أو مساعدتهِ للمجنی علیهِ وهی ممارسة الدعارة أو الفجور مع العلم بأرکانها وعناصرها کما حددها القانون وهذا هو القصد العام، إلا أن هذا القصد لا یکفی لقیام الرکن المعنوی فی القوادة بل لا بدَّ من توافر القصد الجنائی الخاص إلى جانبهِ والمتمثل فی اتجاه إرادة الجانی إلى إرضاء رغبات الغیر الجنسیة.
المطلب الثانی
جریمة فتح وإدارة محل للبِغاء
نصت المادة الأولى فی فقرتها الثالثة من قانون مکافحة البِغاء العراقی النافذ على معاقبةِ کل من نزلت بهِ أخلاقهُ الردیئة إلى مستوى الحضیض بحیث قامَ بفتحِ أو إدارة بیت لممارسةِ البغاء على مسمعِ ومرأى عامةِ أبناءِ المجتمع، إذ عرف المشرع بیت البغاء بــــــــأنه (المحل المهیأ لفعلِ البِغاء أو تسهیلهِ أو الدعایة لهُ أو التحریض علیهِ أو ما یُحقق أی فعل أخر من الأفعال التی تساعد على البِغاء). وفتح محل للبِغاءْ بوصفهِ جریمة أخلاقیة یتطلب توافر أرکان یقوم علیها، وهی ما سیکون موضع بحثنا الآتی:
الفرع الأول
الرکن المادی
یتکون الرکن المادی فی جریمةِ فتح محل البِغاء من عنصرین الأول الفعل المادی والثانی الاعتیاد أی أن یکون المحل مفتوحاً لکل من یُرید ممارسةِ العلاقات الجنسیة، وکما یأتــــی :
أولاً/ الفعل المادی: یتمثل هذا العنصر بقیامِ الجانی بفتحِ أو إدارةِ المحل من أجل ممارسةِ الفجور والدعارة، ویتحقق ذلک بتجهیزهِ بکل ما هو مطلوب لإقامةِ العلاقات غیر الأخلاقیة، سواءً أتمَ ذلک بجهودِ صاحب المحل الشخصیة أم بالتعاون مع غیره، ویخرج من نطاق المساهمة فی هذهِ الجریمة أو المعاونة الخدم وأقارب صاحب بؤرةِ الفساد هذهِ إذا قاموا بإدارتها بالنیابةِ عنهُ عندَ غیابهِ بالتعاون مع القوادین الذین یجلبون العملاء لمحل الفسق وکل من یرغب فی ممارسةِ الفاحشةِ. ویکفی لتحقق هذهِ الجریمة توفیر مکان مستور عن أنظار أبناء المجتمع لا خارجه، ولا عبرة بمستوى التجهیز إذ قد یکون تجهیزاً فاخراً وقد یکون دون ذلک، بل ان هذا الفعل المادی فی هذهِ الجریمة یُعدُ متوافراً حتى إن تم ممارسة العلاقة الجنسیة على الأرض. کما یدخل فی نطاق التجریم من یتعاون مع غیرهِ على إدارةِ محل ممارسةِ البِغاء حتى وإن کان یُشارک فی إدارةِ هذا المحل عن بُعْدٍ أی دون أن یتواجد فیهِ متى ما کان یهدف من وراء نشاطه هذا استغلال المحل کمشروع لا لمجرد ممارسةِ الفجور من قِبَله فحسب بل أن تکون لدیهِ نیة بتهیئةِ هذا المکان لکی یُمارس الغیر علاقاتهِ الجنسیة فیهِ. هذا ولا یلزم للقول بتمام مثل هذه الجریمةِ أن یتم ضبط من بداخلهِ وهم یُمارسون الفاحشة بالفعل، بل یکفی لوقوعها تواجد رجال ونساء لا تربط بینهم أیةً روابط شرعیة معلومة متى ما کانت هنالک دلائل قویة تشیر إلى أن هذا المکان مُعَدْ سلفاً لممارسة البِغاء داخله، لذا لا یُعدْ المکان الذی یُتخذ کمرکز أو نقطة للجمع بین النساء والرجال الذین یرومون ممارسة الفاحشة ثم یذهب کلٌ منهم مع قرینهِ إلى مکان آخر لإشباعِ لذته مکانا لممارسة البغاءِ.
ثانیاً/ الاعتیاد: إن فتح محل لممارسةِ البِغاء أو إدارتهِ لا یُعد جریمة فی القانون الجنائی ما لم یتصف ذلک الفعل بالاعتیاد، إذ یشترط أن یثبت بأن فتح هذا المحل أو إدارتهِ قد تم بقصد تسهیل ممارسة البِغاء على وجهٍ یتصفُ بالاعتیاد بحیث تُمارس فیهِ العلاقات الجنسیة بصورةٍ متکررة أو شبه یومیه، أما إن تمت ممارسة تلک السلوکیات فی المحل لمرةٍ واحدةٍ فقط ولم تتکرر ففی هذهِ الحالة لا یمکن وصف المکان بأنه بیت دعارة ولا یلحق بصاحبهِ أی جزاء جنائی ما لم یَکن فعلهُ هذا مشکلاً لجریمةٍ أُخرى، ولعل الحکمة التی تقف وراء اشتراط المشرع تحقق رکن الاعتیاد فی مثل هذهِ الجریمة تکمن فی إبقاء باب العودة أمام من دفعه الشیطان إلى مقارفة هذهِ الأفعال المجرمة، بخلاف ما إذا تکرر منهُ هذا السلوک المشین الذی یُعدُ عنصراً فی الرکن المادی ودلیلاً مادیاً ملموساً على أن هذا الشخص قد انساق وراء نزواتهِ الشیطانیة وأغلقَ الباب من خلفهِ على المبادئ الأخلاقیة السامیة وتعالیم الدین العالیة والأحکام القانـونیة المُجرمة.
الفرع الثانی
الرکن المعنوی
إن جریمة فتح أو إدارة محل لممارسة البِغاء من الجرائم العمدیة التی تتطلب لقیامها واستحقاق فاعلها الجزاء الجنائی توافر القصد الجنائی العام والذی یتمثل باتجاه إرادة الجانی إلى تهیئةِ مکان لمن یُحبْ أن یُمارس علاقات جنسیة مع أیةِ امرأةٍ یصادفها والعکس صحیح بالرغم من أنه یُحیط علماً بجمیع المقومات التی تقوم علیها الجریمة کما حددها المشرع الجنائی، علیهِ لا یتوافر القصد الجنائی لدى من قام بتأجیرِ بیت لشخصٍ معین وهو یجهل بأن المُستأجِر ینوی أن یفتح المکان المُستأجَر لممارسةِ البغاء وبالنتیجة فلن یلحق بهِ أی جزاء جنائی، بل أن من حق المالک أن یُطالب المستأجر الذی أساءَ استخدام المـــکان المــــــــؤجـــــر بتخلیةِ المکان فــــــی الحال.
هذا وإن القول بقیام الجریمة فی جانب المتهم من عدمهِ مسألة عائدة إلى سلطة محکمة الموضوع التقدیریة ولا معقب علیها فی ما یتعلق بالدلیل الذی استندت علیهِ فی تکوین قناعتها وقرار حکمها ما دامَ أن لهذهِ الأدلة أصل ثابت فی أوراق الدعوى وکانَ التسبیب سائغاً مقبولاً وإلا فأن قرار الحکم یکون قابلاً للنقض.
المبحث الثالث
عقوبة ممارسة البِغاء
لا بدَّ لنا من أن نبحث فی عقوبة جریمة البِغاء والجرائم المرتبطةِ بها فی التشریعات الجنائیة محل المقارنة ونناقش مسألة مدى کفایتها للقضاءِ علیها أو على الأقل الحدّ من انتشارها، ومن أجل الإحاطةِ بفلسفةِ السیاسة الجنائیة التی عالج المشرع من خلالها جریمة البِغاء فی شقها العقابی ارتأینا تقسیمها على ثلاثة مطالب، وکما یأتی:
المطلب الأول
عقوبة البغاءْ
نصت المادة (4) من قانون مکافحة البِغاء العراقی النافذ على أنه (تُعاقب البغی التی یثبت تعاطیها البِغاء بإیداعها إحدى دور الإصلاح المُعدة لتوجیه وتأهیل النساء مدة لا تقل عن ثلاثةِ أشهر ولا تزید عن سنتین). فالملاحظ أن العقاب الذی یحق لقاضی الموضوع إیقاعهُ بحق من توافرت بجانبها أدلة کافیة لتکوین عقیدة المحکمة بأن المرأة الماثلة أمامها تُمارس العلاقات الجنسیة مع کل من یطلبها دون تمییز بمقابل أو من دونهِ، یتمثل بإیداعها فی إحدى دور الإصلاح والتأهیل لفترةٍ زمنیةٍ لا تقل عن ثلاثةِ أشهرِ ولا تزید فی جمیع الأحوال عن السنتین، وما یؤخذ على هذا النص أنهُ قصر نطاق العقوبة على أحد طرفی العلاقة الجنسیة رغم أن قیامها لا یمکن أن یکتمل من دونِ وجود الطرف الثانی الذی یکون فی الغالب من الأحوال معتاداً على مراجعة البغایا أین ما یُصادف وجودهنًّ ناهیکَ عن بساطةِ العقوبة وعدم تناسبها مع الخطورة التی تحملها ممارسة البِغاء على المجتمع ونظامه العام، غیر أن المشرع العراقی قد تنبهَ فی وقتٍ لا حق لمسألةِ عدم تناسب الجزاء المقرر بحقِ من یثبت تعاطیها البِغاء، وذلک بموجب قرار مجلس قیادة الثورة المنحل ذی الرقم (234) الصادر فی 30/10/2001 والذی جاءَ فیهِ (أولاً : یُعاقب بالإعدام کل من : .... 3 – یَثبُتُ تعاطیها البِغاء ...).
اما المادة ( 9 / ج ) من قانون مکافحةِ الدعارة المصری النافذ فقد جاءَ فیها بأنه (یُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزید على ثلاث سنوات وبغرامة، ....، کل من اعتادَ على ممارسة الفجور أو الدعارة). وما یؤخذ على المشرع العراقی یؤخذ على نظیرهِ المصری، بل ویزید علیهِ بعقوبةِ الغرامة التی تشکل حافزاً قویاً على العودة إلى ممارسةِ البغاء بعد انقضاء العقوبة السالبة للحریة من أجل تعویض النقص الذی سببته الغرامة للذمة المالیة للبغی. فی حین لم نجد فیما بین نصوص لائحة منع بیوت البِغاء الأُردنیة ولا فی قانون العقوبات النافذ فیها نصاً یحدد لنا العقوبة التی یمکن للقضاء أن یُنزلَ الجزاء المقرر فیهِ بحق من ثبتَ أنهُ یُمارس البغاء رغمَ کثرة وجود النصوص التی تُعاقب على الممارسات التی تُعدُ مقدمات لهذهِ الجریمة، ونعتقد أن هذا الأمر یُعدُ نقصاً تشریعیاً ینبغی تدارکه لأن التجریم والعقاب فی إطار القانون الجنائی خاضع کما هو معلوم لقاعدة شرعیة التجریم والعقاب قاعدة لا جریمة ولا عقوبة إلا بنص وحتى لا تبقى المسألة خاضعةً لأهواءِ القضاة. اما المشرع السودانی فقد کانَ أکثر توفیقاً فی هذا الجانب، إذ نصت المادة (154/ 1) من قانون العقوبات السودانی النافذ والمعدل على أنهُ یُعاقب بــ (....، الجلد بما لا یتجاوز مائة جلدة أو بالحبس مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات). وحبذا لو أن المشرع السودانی سار على نهج الشریعة الإسلامیة فی هذا الإطار وفرق فی الجزاء بین من یُقدم على ممارسة البِغاء وهو مُحصن ومن هو غیر ذلک، بأن یعاقب الأول بالرجم والثانی الجلد مع التغریب أو الحبس.
المطلب الثانی
عقوبة القوادة
وردَ فی المادة الثانیة من قانون مکافحةِ البِغاء العراقی النافذ بأن ممارسةِ البِغاء والقوادة لها مُجَرْمان، فی حین نصت المادة (3) من ذات القانون على أن یُعاقب (بالسجن مدة لا تزید على سبع سنوات: أ – کل سمسار أو من شارکه أو عاونهُ فی فعل السمسرة...). ومن خلال هذا النص یتبین لنا مدى الخطورة التی یحملها السمسار بین جنبیه، وکیف لا وقد وصلت بهِ الدناءة والخسة والانحطاط الأخلاقی إلى مستوى تصید أعراض الناس لغرض المتاجرة بها وجَنیّ الأرباح من ورائها، فضلاً على أن مثل هذا الشخص یکون فی الغالب من الأحوال من ممارسی البغاء، ولولا ذاک لما حدد لهُ المشرع الجنائی عقوبة قاسیة نوعاً ما تتراوح مدتها ما بین الخمس سنوات إلى سبع سنوات ولما صنفها فی مرتبةِ الجنایات التی تحتل قمة الهرم من حیث خطورة آثارها على مصالح المجتمع المحمیة، هذا إن کان من یقوم بالقوادة یُمارسها بالاعتماد على جهودهِ الشخصیة وبصورةٍ غیر منظمة، أما إن کان القواد یُمارس مهنتهُ الدنیئة هذهِ عن طریق مجموعة من الأشخاص الذین یخضعون لإدارتهِ وتوجیهه فی هذا الشأن فإن العقوبة تُشدد لتصل إلى أقصى درجاتها، ناهیکَ عن عقوبة المصادرة التی تطالُ کل ما یَملکه من یَمتهن هذهِ الأعمال سواءً أکان منقولاً أم عقاراً متى کان الأخیر محلاً یتمُ من خلالهِ مزاولة البغاء، إذ جاء فی القرار الصادر من مجلس قیادة الثورة المنحل ذی الرقم (118) فی 27/8/1994، الذی نص على ما یأتی : ( ... 1 – یُعاقب بالإعدام کل من أدارَ مجموعة مُکَوًّنَةً لأغراض السمسرة المنصوص علیها فی المادة الأولى من قانون مکافحة البِغاء رقم 8 لسنة 1988 . 2 – یُصادر المال المملوک للمذکورین فی الفقرة الأولى من هذا القرار أو لأحدهم منقولاً کانَ أم عقاراً أُتخذَ محلاً لأغراض السمسرة). وقد ترجم القضاء الجنائی ما جادت بهِ قواعد القانون الجنائی العراقی إلى حقیقةٍ على أرض الواقع، فهذهِ الهیأة الجزائیة فی محکمة التمییز الاتحادیة تصادق على صحةِ قرارین صدرا بالإدانة ضد متهمین قاما بممارسةِ القوادة والسمسرة، وکانَ القرار قد صدرَ وفقاً لما فی قرار مجلس قیادة الثورة ( 234/ أولاً/ 4) لسنة 2001؛ وذلک لکفایةِ الأدلة المتوافرة ضدهما فی الدعوى المرفوعة ضدهما التی تُثبت قیامهما بالسمسرة مقابل أجر وحکمت علیهما بالسجن المؤبد بدلاً من الإعدام استدلالا بالمادة ( 132/ 1) من قانون العقوبات العراقی النافذ والمعدل لکون المتهمین شابین فی مقتبل العُمـر.
أما قانون مکافحة الدعارة المصری النافذ فقد صنفَ القوادة ضمن الجنح کأصل، إذ إنه عاقب من یُقدِمُ على ممارستها بعقوبةٍ سالبة للحریة لا تتجاوز الثلاث سنوات مع إلزامهِ بدفع غرامة، إذ نصت المادة ( 1 / أ ) منهُ على أنه (کل من حرضَ شخصاً ذکراً کان أو أُنثى على ارتکاب الفجور أو الدعارة أو ساعدهُ على ذلک أو سهلهُ لهُ ....، یُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزید على ثلاث سنوات وبغرامة ...) . غیر أن المشرع المصری قد رفع سقف العقوبة التی من الممکن أن تلحقَ بالقواد فی حالاتٍ أُخرى کما لو تمت القوادة على شخصٍ لم یُتم سن الرشد بَعد أو بالاستفادة من السلطة التی لهُ على المجنی علیهِ وهکذا، حیث جاء فی المادة (1/ ب) بأنه (إذا کانَ من وقعت علیهِ الجریمة لم یتم من العمر الحادیة والعشرین سنة میلادیة کانت العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزید على خمس سنوات وبغرامة ..) .
فی حین خصَّ مشرع قانون العقوبات الأُردنی النافذ القوادین بعقوبات بسیطة لا تتناسب مع الخطورة التی تجلبها أفعالهم الإجرامیة على النظام الاجتماعی العام، إذ لا تتعدى عقوبة القواد الثلاث سنوات فی أشد الأحوال وهو ما یمکن ملاحظتهُ من خلال نص المادة (310) منهُ التی جاء فیها (یُعاقب بالحبس من ستةِ أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من مائتی دینار إلى خمسمائة دینار کل من قاد أو حاول قیادة: 1- أنثى دون العشرین من العمر لیواقعها شخص مواقعة غیر مشروعة فی المملکة او فی الخارج، وکانت تلک الانثى لیست بغیاً او معروفة بفساد الاخلاق. 2 – أنثى لتصبح بغیاً فی المملکة أو فی الخارج . 3– أُنثى لمغادرةِ المملکة بقصد أن تُقیم فی بیت بغاء أو تتردد إلیهِ. 4 – أُنثى لتغادر مکان إقامتها العادی فی المملکة ولم یکن ذلک المکان بیت بِغاء، بقصدِ أن تُقیم فی بیت بِغاء فی المملکة أو فی الخارج أو أن تتردد إلیهِ لأجلِ مزاولة البِغاء. 5 – شخص لم یُتمَ الثامنة عشرةَ من عُمرهِ لارتکاب فعل اللواط بهِ). بل إنهُ متساهل جداً معَ هذهِ الشریحة من المجرمین التی لم یقف شرها عند حدود المملکة الأُردنیة بل امتدَ إلى خارجها الأمر الذی أضفى على هذهِ الجریمة الأخلاقیة طابعا "دولیا"، فضلاً على أنها وفقاً لما جاء فی نص المادة قد تُمارس فی حقِ من لم تکتمل أهلیتهُ وعلى النساء العفیفات الأمرَ الذی یجعل منهم فریسةً سهلةً الوقوع فی شرکِ القوادین الذین یتفننون فی أسالیب الإقناع . ولم یکتفِ المشرع الأُردنی بهذا التساهل بل إنهُ تمادى فی التساهل مع القوادین عندما لم یعاقبهم إلا بالحبس البسیط الذی یتراوح ما بین السنة إلى الثلاث سنوات رغم أنهم قاموا بمزاولةِ هذهِ المهنة الحقیرة باستخدامِ وسائل ضغط وإکراه بحق الضحیة، إذ نصت المادة (311) منهُ على أنهُ (یُعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات کل من: 1 – قاد أو حاول قیادة أُنثى بالتهدید أو التخویف لارتکابِ المواقعة غیر المشروعة فی المملکة أو فی الخارج . 2 – قادَ أُنثى لیست بَغیاً أو معروفة بفساد الأخلاق بواسطةِ ادعاء کاذب أو بإحدى وسائل الخداع لیواقعها شخص أخر مواقعة غیر مشروعة .3 – ناولَ أُنثى أو أعطاها أو تسبب فی تناولها عقاراً أو مادة أو أشیاء أُخرى قاصداً بذلک تخدیرها أو التغلب علیها کی یُمکن شخص من مواقعتها مواقعة غیر مشروعة).
أما مشرع قانون العقوبات السودانی فقد سلکَ سیاسة عقابیة متشددة فی مواجهةِ جریمةِ القوادة وإن لم تصل إلى الحد الذی ذهبَ إلیهِ المشرع العراقی فی قانون مکافحةِ البِغاء النافذ، إذ إنه عاقبَ على القوادة فی شکلها البسیط بعقوبات تتراوح بین الجلد والسجن وهو ما یمکن ملاحظتهُ من نص المادة (156) من قانون العقوبات السودانی النافذ فی شقها الأول التی جاء فیها بأنهُ (من یُغوی شخصاً بأن یُغریه أو یأخذه أو یساعد فی أخذهِ أو اقتیاده أو استئجاره لارتکاب جریمة الزنى أو اللواط أو ممارسةِ الأفعال الفاحشة أو الفاضحة أو المخلة بالآداب العامة، یُعاقب بالجلد بما لا یُجاوز مائة جلدة أو بالسجن مدة لا تُجاوز خمس سنوات ...). غیر أن المشرع السودانی قد شدد عقوبة القواد فی حالاتٍ أُخرى إذ استعاض عن (أو) التخییر بـــ (واو الجمع) وبهذا فأنه لم یترک للقاضی سلطة تقدیریة بل هو ملزم بجلد القواد ثم سجنه لمدة قد تصل إلى سبع سنوات فیما إذا کانَ المجنی علیهِ غیر کامل الأهلیة لصغرِ سنهِ أم لکونهِ یعانی من مرض عقلی أو أی عارض من عوارض الأهلیة أو کان الهدف من قیادة الشخص ممارسة البِغاء خارج حدود السودان، وهو ما یدلُ علیهِ الشق الأخیر من المادة ذاتها التی جاء فیها (...، فإذا کان الشخص الذی تم إغواؤه غیر بالغ أو مختل العقل أو کان المقصود ممارسة أیاً من تلک الأفعال خارج السودان، یُعاقب بالجلد بما لا یُجاوز مائة جلدة والسجن مدة لا تجاوز سبع سنوات).
المطلب الثالث
عقوبة فتح وإدارة محلٍ للبغاء
نصت المادة الثالثة من قانون مکافحة البِغاء العراقی النافذ على أنه (یُعاقب بالسجن مدة لا تزید عن سبع سنوات : ب – کل مستغل أو مدیر لمحل عام أو أی محل أخر یسمح لدخول الجمهور فیهِ استخدم أشخاصاً یُمارسون البِغاء لغرض استغلالهم فی التسویق لمحلــــــهِ . جـ - من یَملک أو یُدیر منزلاً أو غرفاً أو فندقاً سمحَ للغیر بتعاطی البِغاء فیهِ أو سهلَ أو ساعدَ على ذلک). بل إننا نرى بأن هذا النص معطل حکمهُ بقرار مجلس قیادة الثورة المُنحل الذی رفع سقف العقوبة إلى الإعدام فی حال کانَ البغاء یُمارس ضمن إطار منظم، وعملیة فتح أو إدارة محل البِغاء لا یشک أحد فی کونها تخضع لتنظیم معین، فضلاُ على عقوبة مصادرة الوکر الذی تجری فیهِ العلاقات غیر الأخلاقیة.
أما قانون مکافحة الدعارة المصری النافذ فقد قرر عقوبات بسیطة لا تتناسب البتة مع مقدار ما یحملهُ القیام بفتح أو إدارة مکان معین على مرأى ومسمع کافة أبناء المجتمع من خطورة اجرامیة، بحیث یستطیع کل شخص تُسیطر علیهِ الذات الدنیا أن یرتاد مثل هذهِ الأماکن التی یَعلم مقدماً أنها توفر لهُ فرصة إشباع میولهِ الجنسیة ؛نتیجةً لعدم قدرة الذات الاجتماعیة على کبح جماحها؛ وذلک إما لضعف تأثیر الذات العلیا أو انعدامها بالکلیة، ومما یدفعهُ للذهاب إلى مثل هذهِ الأماکن فضلاً على الانحطاط الأخلاقی عدم معاقبة القانون لهُ، بل إنهُ فی نظر القانون یُعتبر شاهد على من مارس معها العلاقة الجنسیة فی حال تم القبض علیها بتهمةِ ممارسة البِغاء أو فتحها أو إدارتها لمحل دعارة . وکیف لا تکون العقوبة غیر رادعة وهی لا تتعدى الثلاث سنوات والغرامة، کما هو واضح من نص المادة (8) من القانون المذکور الذی جاء فیها (کل من فتح أو أدار محلاً للفجور أو الدعارة أو عاون بأیةِ طریقة کانت فی إدارتهِ یُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزید عن ثلاث سنوات وبغرامة ....). هذهِ العقوبة خاصة بمن یفتح أو یُدیر محلاً للبِغاء أو یُعاون على ذلک، أما إن کان الشخص یَملک المحل دون أن یُشارک فی عملیة فتحهُ أو إدارتهِ أو المعاونة الصریحة على ذلک، معَ أنهُ یَعلم مسبقاً بأنَّ مُلکهُ الذی قدمهُ للغیر أو أجرهُ لهُ سوف یفتح کمحل لإقامة الممارسات غیر الأخلاقیة، فهوَ یعاقب وفقاً لنص المادة (9) من قانون مکافحة الدعارة المصری النافذ التی جاء فیها (یُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزید على ثلاث سنوات وبغرامة .... أ – کل من أجر أو قدم بأیةِ صفةٍ کانت منزلاً أو مکاناً یُدار للفجور أو الدعارة أو لسکنى شخص أو أکثر إذا کان یُمارس فیهِ الفجور أو الدعارة مع علمهِ بذلک . ب – کل من یملک أو یُدیر منزلاً مفروشاً أو غرفاً مفروشة أو محلاً مفتوحاً للجمهور یکون قد سهل عادة الفجور أو الدعارة سواءً بقبولهِ أشخاصاً یرتکبون ذلک أو بسماحهِ فی محلهِ بالتحریض على الفجور أو الدعارة). ونحنُ نعتقد أن نص المادة التاسعة تزیید لا مبرر لهُ، إذ أن نص المادة الثامنة یستوعب کل الحالات التی عالجتها هذهِ المادة، ناهیکَ عن أن صاحب المُلک الذی یعلم بأن عقارهُ الذی جعلهُ تحت تصرف غیرهِ یُستخدم کوکرٍ لممارسةِ الأفعال الجنسیة غیر الأخلاقیة ورغم ذلک لم یبادر إلى سحب یَده عن العقار لا شک أنهُ موافق بصورةٍ ضمنیة على هذهِ الأفعال غیر المشروعة، لذا فهو على أقل تقدیر یَدخلُ ضمن فئةِ المعاونین علیها وهذهِ الأخیرة جرمتها المادة الثامنة. وننوه أخیراً ولیس أخراً إلى أن المشرع المصری قد شدد العقوبة نوعاً ما فی حال کان الجانی من ذوی المجنی علیهِ أو ممن لهُ سلطةً علیهِ إذ جاء فی الشطر الأخیر من نص المادة الثامنة سالفة الذکر بأنهُ (إذا کان مرتکب الجریمة من أصول من یُمارس الفجور أو الدعارة أو المتولین تربیتهُ أو ممن لهم سلطةُ علیهِ تکون عقوبتهُ الحبس مدة لا تقل عن سنتین ولا تزید على أربع سنوات بخلاف الغرامة المقررة).
وإذا ما تصفحنا نصوص قانون العقوبات الأُردنی النافذ ولائحة منع بیوت البِغاء نجد أن السیاسة الجنائیة التی تبناها مُشرع قانون العقوبات الأُردنی بهذا الصدد تتسمُ بالتساهل والتشجیع على المُیوعة والممارسات اللاأخلاقیة إلى حدٍ بعید، إذ لم یُعاقب على فتح أو إدارة محلٍ للبغاء إلا بعقوبة بسیطة بل بسیطةٍ جداً لا تتجاوز فی أسوء الأحوال تقیید حریتهِ مدةً لا تتجاوز الستة أشهر أو الاکتفاء بالغرامة لوحدها وإن کانَ قد تجاوزَ التکرار الذی وقع فیهِ المشرع المصری دون مبرر، إذ نصت المادة (312) منهُ على أنهُ (یُعاقب بالحبس حتى ستة أشهر أو بغرامة ... أو بکلتا العقوبتین کل من : 1 – أعدَّ بیتاً للبِغاء أو تولى إدارته أو اشتغل أو ساعدَ فی إدارتهِ . أو 2 – کانَ مستأجراً منزلاً أو متولیاً شؤونه وسمحَ باستعمال ذلکَ المنزل أو باستعمال أی قسم منهُ کبیت للبِغاء وهو عالم بذلک . 3- کانَ مالکاً منزلاً أو وکیلاً لمالکهِ وأجر ذلک المنزل أو أی قسم منه مع علمهِ بأنهُ سیستعمل کبیت للبِغاء أو اشترک عن قصد فی استعماله المستمر کبیت للبِغاء). أما المادة (313) منهُ فقد منحَ بموجبها المشرع الأُردنی على خجل لمحکمةِ الموضوع سلطةً تقدیریة تستطیعُ من خلالِها أن تصدر قراراً لیسَ بمصادرة العقار وإنما إنهاء عقد الإجارة ومن ثم التخلیة فی حالات وفی حالاتٍ أُخرى إقفال العقار لیس إلا.
وإذا ما رجعنا لقانون العقوبات السودانی النافذ والمعدل نجد فیهِ أحکاما" تَدُلُ على مشرعٍ دفعت بهِ حکمتهُ أن یضع نصب عینیهِ مقدار الأضرار الاجتماعیة التی یجلبها قیام شخص ما بفتحِ أو إدارةِ محل معین معلوم من قِبلِ العامة على أمن المجتمع ونظامهِ الأخلاقی، عندما قرر لهُ عقوبةً تعزیریة قاسیة تتناسب مع فعلتهِ التی تنمُ عن إنسانٍ منحطْ، إذ نصت المادة (155) على أنهُ (1 - من یقوم بإدارةِ محل للدعارة أو یُؤجر محلاً أو یسمحْ باستخدامه وهو یَعلمُ بأنهُ سیتخذُ محلاً للدعارة، یُعاقبْ بالجلد بما لا یتجاوز مائة جلدة وبالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات کما یجوز الحکم بإغلاقِ المحل أو مصادرتهِ). وتشدد العقوبة السالبة للحریة فی حالة العود لِتَصلْ إلى عشرة سنوات فضلاً على المصادرة الوجوبیة لمحل البِغاء إن کان مالکاً لهُ وإلا فلا یُصادر ملک الغیر ما لم یکن هو الآخر سیء النیة أی أنهُ على علم ودرایة بتفاصیل الممارسات غیر الأخلاقیة التی تقع فی ملکهِ الذی تحت تصرفِ غیرهِ ومع هذا لم یبادر إلى المطالبةِ بتخلیةِ العقار، إذ نصت الفقرة الثانیة من المادة ذاتها على أنهُ (من یُدان للمرة الثانیة بموجب أحکام البند الأول من هذهِ المادة یُعاقب بالجلدْ بما لا یتجاوز مائة جلدة وبالسجن مدة لا تجاوز عشرة سنوات مع مصادرة المحل). وإن تکرر منهُ هذا الفعل بعد ذلک فیرتفع سقف العقوبة لیصل إلى إزالتهِ من الوجود، وهو ما جاءت بهِ الفقرة الثالثة من المادة (155) حیث نصت على أنهُ (فی حالة إدانة الجانی للمرةِ الثالثة، یُعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد مع مصادرةِ المحل).
المبحث الرابع
البُعد الدولی لجریمة البِغاء
إذا کانت السیاسة الجنائیة تختلف من دولة إلى أُخرى تبعاً لتباین الظروف السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة التی تُحیط بکل واحدةٍ منها، فأن المسألة بالنسبةِ لجریمة البِغاء یجب أن تُعدُ استثناءً على هذهِ القاعدة ؛ لأن جریمة البغاء وما لهُ صلةً بها من الجرائم الأُخرى تتطلب لمکافحتها والقضاء علیها تبنی سیاسة جنائیة موحدة على مستوى دولی بوصفها من الجرائم المُنظمة العابرة للحدود، وهو ما یُفسر لنا قیام غالبیة التشریعات الجنائیة الیوم بالأخذ بنظام الاختصاص الشامل، بحیث یمتد نطاق التجریم والعقاب إلى أنشطة إجرامیة منها تجارة الرقیق الأبیض لأغراض جنسیة حتى وإن کانت قد وقعت خارج حدود إقلیم الدولة ؛ لکونِ مثل الممارسات تُهدد قِیم وأخلاقیات المجتمع الإنسانی ککل فی أی مکانٍ وزمان، الأمر الذی یتطلب معه مکافحة الجریمة المنظمة العمل وفقاً لسیاسةٍ جنائیة فعالة یَتمُ بموجبها تجریم وعقاب أی انتماء أو اشتراک فی تنظیم أو إدارة المنظمات التی تُمارس الإجرام المنظم مهما کانَ مستوى تنظیمها وعدد العاملین فیها والجهة التی تدعمها. وکیف لا والاتجار بالبشر جریمة ذات طبیعة خاصة محلها سلعة متجددة تتمثل بفئةٍ خاصة ممن یُعانون الفاقة الشدیدة والبطالة وانعدام الأمان الاجتماعی، هذهِ الشریحة التی تحتل النساء والأطفال المرتبة الأولى فیها. وبالفعل بذلَ المجتمع الدولی تحت رعایة الأُمم المتحدة جهوداً یُشکر علیها فی مجال حمایة حقوق الإنسان والحفاظ على کرامتهِ، هذهِ الجهود التی مرت بتطورات عدیدة حتى وصلت إلى ما هی علیهِ الیوم، رغمَ إن تلکَ المحاولات فی بدایتها لم تکن تهدف إلى حظر عملیات الاتجار بالبشر بِقدرِ ما کانت منشغلة بالعقاب على الاتجار بالرقیق الأبیض للأغراض الجنسیة، وأبرز المحاولات الدولیة لمکافحة الجریمة المنظمة یتمثل باتفاقیة الأمم المتحدة لمکافحة الجریمة المُنظمة العابرة للحدود لسنة 2000 وبروتوکول بالیرمو الملحق بها واللذین اعتمدتهما الجمعیة العامة للأمم المتحدة فی 12/12/2000، وصادقت علیهِ معظم دول العالم، إذ صادقَ علیها العراق بموجب القانون رقم (20) لسنةِ 2007، کما صادقت علیها الجمهوریة المصریة بتاریخ 5/3/2004.
هذا وإن جریمة الاتجار بالبشر لأغراض جنسیة شأنها شأن أی جریمة تتطلب لکی یتحقق وجودها توافر ذات الأرکان التی لا بدَّ منها لقیام أی جریمة أُخرى من رکن مادی یتکون من سلوکٍ إیجابی یتمثل بالنشاط الذی یجب أن یصدر ممن یُمارس هذهِ الجریمة ویجب أن یترتب على هذا النشاط المجرم نتیجةً معینة تتمثل بالمتاجرة ببنی الإنسان الذی أصبحَ سلعة تنصبُ علیها التصرفات المشروعة وغیر المشروعة، ویشترط فی محل جریمة المتاجرة للأغراض الجنسیة أن یکون إنساناً على قید الحیاة ؛ لکون هذهِ الجریمة محلها امتهان الکرامة البشریة التی هی حقٌ منحهُ الله تعالى لهُ منذُ ولادتهِ حتى وفاتهِ، ودلیلنا فی ذلک قول الله تبارک وتعالى فی کتابهِ العزیز: ((ولَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِی آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّیِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِیلًا))، وعلیهِ فإنَ هذهِ الجریمة لا تقوم بعد وفاة المُجنى علیهم کما لو قامَ شخص بشحنِ مجموعةٍ من الرقیق الأبیض إلى بلدٍ ما من أجل استغلالهم فی سلوکیات منافیة للآداب وفی الطریق وقع حادث أودى بحیاةٍ کل من فی هذهِ الشحنة، ففی مثل هذهِ الحالة لا تقوم الجریمة محل البحث وإن کان بالإمکان قیام جریمة أُخرى، وأن تکون هذهِ النتیجة مرتبطة سببیاً بالنشاط الذی صدرَ عن الجانی، فضلاً على الرکن المعنوی الذی یربط هذهِ المادیات بنفسیة الجانی التی أقدمت على مقارفةِ هذا السلوک المُجرم رغمَ علمها بأن هذهِ الأفعال ممنوعة ومعاقب علیها قانوناً، والرکن المعنوی فی مثل هذهِ الجریمة یتخذ صورة القصد الجنائی فی صورتهِ الخاصة، أی أن هذا الجانی فی جریمة استغلال النساء یهدف إلى استخدام کل من دخلت تحت مظلتهِ المظلمة بسبب الظروف الاجتماعیة القاسیة فی أعمال الدعارة وإشباع الرغبات الجنسیة لکل من یطلبها ویقدر على دفع ثمنها، ومن صور الاستغلال الجنسی للنساء والأطفال فی الآونةِ الأخیرة الفیدیو کلیب فضلاً عن عروض الأزیاء الخلیعة وعرض الأفلام الإباحیة على القنوات الفضائیة والشبکة العنکبوتیة وتوزیع أرقام هواتف لغرض الاتصال بالنساء تمهیداً لممارسةِ الجنس معهنّ، إذ کشفت الصحفیة البلغاریة میمی تشاکاروفا التی قضت ما یُقارب السبع سنوات فی التحری عن الجرائم الأخلاقیة وتجارة الجنس فی العالم عِبرَ موقعها على الشبکة الدولیة "The Price of Sex" إن حرکة الاتجار بالنساء قد تکثفت مؤخراً فی دول الخلیج العربی ولا سیما فی إمارة دبی، إذ أعلنت وزارة الخارجیة الأمریکیة بأن عدد النساء اللواتی یُجبرنَ على ممارسةِ الدعارة فیها یربو على العشرة آلاف امرأة، وفی الجمهوریة الترکیة التی کانت عاصمة الخلافة الإسلامیة فی زمنٍ مضى تُقهر المرأة على ممارسة الجنس مع ما یزید عن الخمسین رجلاً فی الیوم.
ومن أبشع أشکال الاتجار بالأطفال استغلالهم فی أعمال غیر أخلاقیة، وکیف لا ومثل هذهِ السلوکیات المشینة تؤدی إلى إفساد فطرتهِ السلیمة وفقدان البراءة التی یحملها من هو دون سن الرشد بین جنبیهِ ، هذا ولم یتوقف الاستغلال الجنسی لمثلِ هؤلاء فی الأماکن المظلمة وأوکار الرذیلة والفساد بحسب ما تحمل لنا صفحات الاستغلال الجنسی للأطفال وإنما هنالکَ تأکیدات واضحة تدلُ على قیام أعداد کبیرة من شریحة الأثریاء من أصحاب النفوذ باستغلال ما هم فیهِ فی إشباعِ نزواتهم بصورةٍ شاذة من خلال ممارسة الجنس مع الأطفال والقُصر، فهذهِ مخرجة تلفزیونیة تم فصلها بسبب سلوکها المنحرف تقوم بإدارة شبکة دعارة مکونة من إحدى عشرة فتاة لا تتجاوز أعمارهنَّ الخمس عشرة سنة تُقدمهنَّ لإشباعِ نزوات فئة الأثریاء من السائحین العرب وبأسعار عالیة، وهذا القنصل الفرنسی یضبط وهو یمارس أفعال الشذوذ الجنسی مع أربعة من الأطفال الذکور واصطحاب أخر من مدینة الإسکندریة إلى باریس من أجل الغرض نفسهُ.
وأبرز ما جاء فی اتفاقیة الأمم المتحدة لمکافحةِ الجریمة عبر الوطنیة والبروتوکول الملحق بها فی إطار مکافحة الجریمة ما وردَ فی المادة الأولى منها التی أوضحت بأن الهدف الأساسی من عقدها هو تعزیز التنسیق والتعاون الدولی على أعلى المستویات من أجل القضاء على الجریمة المنظمة التی تَعُمُ بأضرارها العالم بأسرهِ أو على الأقل الحد من انتشارها بین أوساط المجتمع الدولی ؛ هذهِ المسألة التی لا یمکن أن تتحقق ما لم تتبنى الدول الأطراف سیاسة جنائیة موحدة . کما تُعدُ جریمة الاستغلال الجنسی للنساء والفتیات القاصرات من أهم صور جرائم الاتجار بالبشر التی جاءَ بروتوکول بالیرمو لمکافحتها.
وفی ختام دراسةِ البِغاء لا بدَّ لنا من کلمةِ حقٍ فی السیاسة الجنائیة التی سلکتها التشریعات الجنائیة محل المُقارنة، إذ تَبینَ لنا مما تقدمَ بیانهُ أن السیاسة التی عالج من خلالها المشرع العراقی جریمة البِغاء والجرائم التی هی بمثابةِ مقدماتٍ لها فی قانون مکافحةٍ البِغاء النافذ والمعدل والقرارات التی صدرت عن مجلس قیادة الثورة المنحل والتی هی فی الحقیقة باتت تشکل جزءا" لا یتجزأ من هذا القانون تُعدُ سیاسةً جنائیةً فعالةً إلى حدٍ ما من وجهة نظرنا فی الحد من ممارسةِ مثل هذا النوع من الجرائم، فبالنسبةٍ لشق التجریم وجدناهُ یتفق مع غیرهِ من التشریعات المُقارنة سواءً تلک التی شرعت قانوناً خاصاً کما هو الحال فی الجمهوریة المصریة أم اکتفت بما وردَ فی قانون العقوبات من أحکام فی هذا الشأن، حیث رأینا أن نطاق التجریم أحاط بکلِ فعل أو ممارسة غیر أخلاقیة من الممکن أن تؤدی فی الغالب من الأحوال إلى ممارسة سلوکیات غیر أخلاقیة، وکیف لا وهو یَعُدُ کل ممارسة جنسیة أیاً کانت درجتها من قَبِیِلْ الفجور والدعارة متى ما تمت ممارسة تلک السلوکیات اللاأخلاقیة على وجه یتسمُ بالاحتراف من أجل الحصول على مقابل أیاً کانت طبیعته أو من أجل إشباع الغریزة الجنسیة مع کل من یطلب الفعل ما دام أن ذلک یجری دون أی تمییز، حتى وإن لم یصل الفعل الجنسی إلى الدرجة المطلوبة فی جریمة الزنى المعاقب علیها قانوناً، وإن کنا نُعِیبُ على السیاسة الوضعیة فی هذا الجانب قیام المشرع بتجریم المرأة بوصفها فاعلا" فی الجریمة ومن مارس الفعل معها شاهد علیها وفی الغالب لا یخضع لأی جزاء جنائی وهو أمر طبیعی ونتیجة منطقیة للأساس الذی بُنیت علیهِ السیاسة الجنائیة الوضعیة، رُغم أن العلاقة الجنسیة لا یمکن أن تقوم بغیر وجود طرفین فضلاً على أن من یضبط مع من تُمارس البغاء على الأرجح یکون معتاداً على مراجعةِ الأماکن التی تتواجد فیها البغایا؛ لأن علة التجریم هنا تنصب على توافر عنصر الاعتیاد وعدم التمییز لا على ذات العلاقة الجنسیة غیر المشروعة، وهذا أمر لا یمکن الاستمرار فی السکوتِ عنهُ وهو دلیلً على عجز السیاسة الجنائیة الوضعیة التی بُنیت فی هذا الجانب على مبدأ احترام الحریة الجنسیة التی جلبت بدورها على المجتمعات العربیة الإسلامیة کوارث أخلاقیة یندى لها جبین الإنسانیة وعلاقات جنسیة تَعجز الشیاطین عن التفکیر بها.
وإذا ما انتقلنا إلى السیاسة الجنائیة فی شقها الجزائی نرى بأن مسلک المشرع العِراقی ومعهُ المشرع السودانی یَفضُلُ على غیرهِ من التشریعات المقارنة فی هذا الجانب ؛ إذ إنهُ قد سلکَ سیاسةً تقترب إلى حدٍ بعید مع السیاسة التی جاءَ بها التشریع الجنائی الإسلامی ولا سیما بعد صدور قرارات مجلس قیادة الثورة المنحل التی رفعت سقف العقوبة إلى حدها الأعلى، وهذا إن دلَ على شیءٍ فإنهُ یَدلُ على إدراک المشرع العراقی عدم کفایة الجزاءات المنصوص علیها فی قانون مکافحة البِغاء العراقی النافذ للوقوف فی وجه تیار النزوات اللاأخلاقیة التی تُهدد کیان المجتمع ونظامهُ الأخلاقی بالتصدع، ومع هذا فإننا نأخذ على المشرع العراقی عدم تبنی سیاسة جنائیة تساعده على ضبط سلوکیات من یقومون باستغلال التقنیات المتطورة التی باتت تشکل وسیلة فعالة جداً فی تسویق الرذائل الجنسیة وإشاعةِ روح الجنس والتصرفات المائعة بین جمیع شرائح المجتمع وفی مقدمتها الشبکة العنکبوتیة الأنترنت، وخیر دلیل على ذلک الأزیاء شبه العاریة التی نشاهدها فی جمیع النواحی من حولنا.
أما عن الجهود الدولیة التی بذلت فی سبیل الحد من انتشار الاتجار بالبشر لأغراض الاستغلال الجنسی، فهی فی الحقیقة لا تعدوا أن تکون مجرد حِبر على ورق شأنها شأن ما سبقها من اتفاقیات دولیه دون أن یتسنى للأحکام التی وردت فی نصوصها رؤیة النور؛ وذلک بسبب عدم وجود الرغبة الحقیقیة لدى کبار الساسة فی تطبیق أحکام المعاهدات الدولیة التی من شأنها فیما لو طبقت أن تُساهم فی إصلاح الأوضاع المتردیة فی عموم المجتمع الدولی، اللهم إلا بالقدر الذی یرونهُ ضروریاً لخدمةِ مصالحهم ویحافظ على امتیازاتهم، إذ إن من یشاهد شاشات القنوات الفضائیة ویسافر فی البلدان الإسلامیة قبل الأُوروبیة یرى أن الجنس یمارس فی الحدائق العامة وعلى السواحل فضلاً على وجود أماکن مشهورة تزدحمُ بالزبائن من مختلف بقاع الأرض على مرأى ومسمع السلطات العامة وعامة المجتمع دون خجلٍ أو خشیة العار الاجتماعی، وکل ذلکَ تحت مسمى ممارسة الحریات الجنسیة التی أفسدت الأعراض وخلطت الأنساب وساعدت على تفشی الأمراض الفتاکة التی لا یزال العلم الحدیث عاجزاً عن إیجاد العلاج الناجع لها ناهیکَ عن کونها سبباً رئیسیا": لارتکاب عدد کبیر جداً من الجرائم على اختلاف أنواعها، هذهِ الآثار المدمرة التی ما کانَ لها أن تقع لو أن شریعة الله خالق الأنفس ومدبر شؤونها هی التی تطبق.
الخاتمـة
بعد أن فرغنا من دراسة أهم الأفکار الفلسفیة التی بُنیت علیها السیاسة الجنائیة التی عُولجت جریمة الِبغاء ومُقدماتها من خلالها فی التشریعات الجنائیة محل المُقارنة ، انتهینا إلى جملةٍ من الاستنتاجات والتوصیات التی نراها ضروریة لاکتمالِ الغایة المَرجُوة من وراء الکتابة فی مثل تلکَ الجرائم الأخلاقیة وکما یأتی :
أولاً / الاِستنتاجات:
اتضحَ لنا أن السیاسة الجنائیة التی عالج من خلالها المشرع الجنائی العِراقی جریمة البِغاء والسلوکیات المُرتبطة بها سیاسة فعالة من حیث التجریم، یُمکنها لو طبقت بصورةٍ دقیقة أن تَحدَ من انتشار مثل تلکَ المُمارسات اللاأخلاقیة التی تلوث العِرض وتفشی الأمراض الجنسیة الفتاکة وتجعل منهُ سلعةً یُتاجر بها بثمنٍ زهید، غیر أن سیاستهُ تلکَ قد شابها القصور فی جانبها العقابی، إذ وجدنا أن الجزاء الذی فرضهُ المشرع الجزائی بحق مَنْ تحترف البغاء بسیط جداً ولا یتناسب مع مقدار الشر الذی تجلبهُ على المُجتمع، کما وجدنا أن البغاء سبب مباشر لاِتساعِ نطاق الاتجار بالرقیق الأبیض، الذی تشیر الإحصائیات الرسمیة فی الآونة الأخیرة إلى زیادة کثافته فی بعض الدول العربیة الإسلامیة، فی الوقت الذی نراهُ قد تشدد فی عقاب من یُسهل اِتمام مثل تلکَ الجریمة.
رأینا أن الجهود الدولیة التی یسعى المجتمع الدولی ممثلاً بهیئة الأمم المُتحدة من خلالها إلى تضییق الخِناق على جریمة الاتجار بالبشر بصورةٍ مُباشرة والإتجار بالحریات الجنسیة بطریقةٍ غیر مباشرة والتی کثیراً ما نسمع عنها فی جمیع وسائل الإعلام، لا تعدوا أن تکون حبراً على ورق ولن یُکتب لها رؤیة النور، بالنظر لعدمِ وجود رؤیة حقیقیة لدى من بیدهِ مقالید التحکم بالشؤون الدولیة ، بل إن واقع الحال یُشیرُ إلى تشجیع مثل هذهِ الممارسات، لأن تلکَ الدول تسعى جاهدةً وبکل ما أُتیحَ لها من وسائل إلى تفکیک عرى المجتمعات الإسلامیة عروةً تلو الأُخرى دون أن ینتبه إلیها أحد وبصورةٍ تدریجیة، وخیر دلیل على ذلکَ السموم الجنسیة التی تسری کالنارِ فی الهشیم والتی یتم بثها عن طریق التکنولوجیا المتطورة التی لا یکاد یخلو منها الیوم أی بیت مسلم إلا مَنْ رحمَ ربی، تلکَ التقنیات التی تتمثل بالستالایت والشبکة العنکبوتیة والهواتف الذکیة ونحوَ ذلک من أجهزةٍ هدامة للأخلاق التی کانَ یتحلى بها عامة المسلمین، والتی لمْ یبقى منها الیوم إلا النزر الیسیر.
ثانیاً / التوصیات :
1 . ندعوا المشرع الجنائی العِراقی أن یُعید النظر فی سیاستهِ الجنائیة الحالیة التی عامل من خلالها الشخص الذی یُمارس العلاقة الجنسیة مع امرأة تحترف البغاء على أنهُ شاهد فی الجریمة ، وبالتالی فأنهُ لنْ یتعرض لأی نوع من أنواع الجزاءات الجنائیة، فی الوقت الذی لا یُمکن لهذهِ الجریمة أن تتم دون وجودهُ ، وهی معاملةٌ معیبة یشوبها القصور وتتعارض مع القواعد العامة التی تُنظم أحکام الفاعل الأصلی والدور الرئیسی الذی یَلعبهُ فی قیام الجریمة ، کما أن المشرع بموقفهُ ذاک یتجاهل الأضرار التی یَجلبها من یرتاد الأماکن التی تتواجد فیها البغایا على المجتمع ، إذ أنهُ سیکون سبباً لتشجیعِ غیرهُ من ضِعافِ لنفوس على الاِقتداءِ بهِ ووسیلة فعالة لنقل الأمراض الجنسیة الفتاکة إلى ضحایا کثیرة قد تکون منها زوجتهُ بل حتى أولادهُ فیما بعد .
2 . نأمل من المشرع الجنائی العراقی أن یُسارع إلى الحفاظ على ما تبقى من مبادئ الشریعة الإسلامیة والأخلاق العربیة فی المُجتمع العِراقی الذی باتَ الیوم مُتخماً ببوادر الاِنحلال الأخلاقی ؛ وذلک من خلال تحجیم الخطر الذی تحملهُ التکنولوجیا الحدیثة التی ظاهرها الخیر وباطنها یغلی بالسموم والأمراض الفتاکة التی إن تُرکت دون علاج فستفسد الأعراض وتختلط الأنساب وتنتشر الأوبئة التی لاتزال علوم الطب الحدیثة عاجزةً عن إیجاد علاجٍ ناجعٍ لها، تصدیقاً لقولِ رسولنا الکریم "محمد" "صلى الله علیهِ وسلم" فی الحدیث الطویل: (یا معشر المُهاجرین خمسٌ إذا أُبتلیتم بهن وأعوذ بالله ان تُدرکوهنَّ، لم تظهر الفاحشة فی قومٍ قطْ حتى یُعلنوا بها إلا فشا فیهم الطاعون والأوجاع التی لمْ تکن مَضت فی أسلافِهم الذین مضوا .... الحدیث)، ولا سبیل إلى ذلک إلا من خِلال سَنِ قانون خاص یُمکن أن نسمیهِ بـ(قانون مکافحة المواقع الإباحیة على الشبکة العنکبوتیة)، وأن یعهد إلى أُناسٍ مُختصین وأصحاب کفاءة عملیة متابعة بنود مثل ذلک القانون فیما لو تمَ اِصدارهُ.
The Authors declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English) and References (English)p