الملخص
ان عملیة وضع و صیاغة نصوص التجریم فی اطار التشریعات الجنائیة هی عملیة غایة فی التعقید والصعوبة، خصوصاً وان هذه النصوص محکومة بمبدأ الشرعیة الجنائیة "لا جریمة ولا عقوبة الا بنص" لذا یکون واضعی مثل هذه النصوص امام تحدی واقعی کبیر وهو جعل نصوص التجریم مستوعبة لما یمکن ان یطرأ فی المجتمع من تطور فی میدان العلوم والتکنولوجیا والحیاة وتنوع الجرائم تبعاً لذلک، ومن هنا کان المشرع الجزائی بحاجة الى ادوات للصیاغة التشریعیة السلیمة التی تبعد نص التجریم عن مشکلة الجمود والتی قد یفرزها مبدأ الشرعیة الجنائیة، ومن ابرز هذه الادوات ترک منطقة فراغ تشریعی فی القاعدة الجنائیة الایجابیة تمکن القاضی من اعطاءها مجالا استیعابیاً تشمل به صور عدیدة من السلوک لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع تلک النصوص.
الموضوعات
أصل المقالة
الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة-(*)-
Legislative vacuum in the criminal base
دلشاد عبد الرحمن یوسف أحمد مصطفى علی کلیة القانون والسیاسة/ جامعة نوروز کلیة القانون والسیاسة/ جامعة نوروز Dilshad Abdul Rahman Yusuf Ahmed Mustafa Ali College of Law and Politics/ University of Newroz College of Law and Politics/ Universityof Newroz Correspondence: Dilshad Abdul Rahman Yusuf E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 18/2/2018 *** قبل للنشر فی 27/2/2018.
(*) Received on 18/2/2018 *** accepted for publishing on 27/2/2018.
© Authors, 2018, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
المستخلص
ان عملیة وضع و صیاغة نصوص التجریم فی اطار التشریعات الجنائیة هی عملیة غایة فی التعقید والصعوبة، خصوصاً وان هذه النصوص محکومة بمبدأ الشرعیة الجنائیة "لا جریمة ولا عقوبة الا بنص" لذا یکون واضعی مثل هذه النصوص امام تحدی واقعی کبیر وهو جعل نصوص التجریم مستوعبة لما یمکن ان یطرأ فی المجتمع من تطور فی میدان العلوم والتکنولوجیا والحیاة وتنوع الجرائم تبعاً لذلک، ومن هنا کان المشرع الجزائی بحاجة الى ادوات للصیاغة التشریعیة السلیمة التی تبعد نص التجریم عن مشکلة الجمود والتی قد یفرزها مبدأ الشرعیة الجنائیة، ومن ابرز هذه الادوات ترک منطقة فراغ تشریعی فی القاعدة الجنائیة الایجابیة تمکن القاضی من اعطاءها مجالا استیعابیاً تشمل به صور عدیدة من السلوک لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع تلک النصوص.
Abstract
The process of drafting criminalization within the framework of criminal legislation is one of the most complicated processes, as these provisions are governed by the principles of criminal legislation and no crime and no punishment without law. Therefore, the author of these provisions faces many challenges in making such provisions relevant to nowadays developments in science and technology and life and the diversity of crimes accordingly. Hence, the penal legislator needs to enact new relevant provisions that distinguish the provisions of criminalization from the inertia that may be produced by the principle of criminal legitimacy. The most prominent tool is leaving a legislative vacuum in the positive criminal base which will possibly give the judge more area of understanding that.
المقدمــة
أولاً: التعریف بموضوع البحث:
قواعد التجریم والعقاب فی اطار التشریع الجزائی محکومة بمبدأ الشرعیة الجنائیة، فلا جریمة ولا عقوبة الا بنص، وبالتالی لیس للقاضی ان یخلق جرائم او یقرر عقوبات جدیدة، ومن هنا ذهب جانب من فقهاء القانون الجزائی الى القول ان مثل هذا المبدأ یفرز ازمة فی اطار هذا التشریع وهی جمود النص الجنائی وعدم قدرته على مواکبة التطورات التی تحدث فی المجتمع وما یبتدعه المجرمون من صور جدیدة للسلوک الاجرامی لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع وصیاغة نص التجریم.
ومن هذا المنطلق فان المشرع: وهو بصدد صیاغة نصوص التجریم یحتاج الى الاستعانة ببعض الادوات لتجاوز مشکلة جمود النص الجنائی، ومن اهم وابرز هذه الادوات ترک منطقة فراغ تشریعی فی اطار نص التجریم یمکن القاضی الجنائی من خلالها اعطاء ذلک النص مجالاً استیعابیاً یشمل صوراً من السلوک لم یذکرها النص صراحة اما لانها لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع ذلک النص او لانها الصیاغة التشریعیة لا تسمح باللجوء الى الاسهاب فی مضمون النص، ولکنها تحقق العدوان على ذات المصلحة المحمیة بموجب ذلک النص، وتحقق ذات النتیجة الاجرامیة.
ثانیاً: هدف البحث:
تهدف هذه الدراسة الى تسلیط الضوء على احدى ادوات الصیاغة التشریعیة للنصوص الجنائیة والتی تتمثل بـ (الفراغ التشریعی)، لبیان دورها فی اضفاء نوع من المرونة على نصوص التجریم وجعلها مستوعبة لصور عدیدة من السلوک الاجرامی، سیما فی اطار نصوص التجریم التی یکون المشرع فی اطارها (قد قال أقل مما یرید)، ذلک کله بغیة تجاوز ازمة جمود نصوص التجریم.
ثالثاً: نطاق البحث:
ینحصر نطاق هذه الدراسة على بحث فکرة الفراغ التشریعی فی اطار القواعد الجنائیة الایجابیة من قانون العقوبات، ای القواعد المتعلقة بالتجریم والعقاب، دون ان یمتد الى القواعد الجنائیة السلبیة او القواعد الاجرائیة فی اطار قانون اصول المحاکمات الجزائیة.
رابعاً: فرضیة البحث:
تنطلق هذه الدراسة من فرضیة مفادها: إن ترک منطقة فراغ تشریعی فی القاعدة الجنائیة لایعد من قبیل النقص او القصور التشریعی، بل یعد اداة من ادوات الصیاغة التشریعیة السلمیة التی تبعد نصوص التجریم عن مشکلة الجمود، مثل هذا الفراغ امر ایجابی اذ یعطی نص التجریم مجالاً استیعابیاً یشمل به صوراً من السلوک لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع ذلک النص.
خامساً: اشکالیة البحث:
تثیر هذه الدراسة اشکالیة مفادها: هل الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة هو بمثابة نقص او قصور فی التشریع؟ ام انه اداة من ادوات الصیاغة التشریعیة، یستعین بها المشرع الجزائی عند صیاغة نصوص التجریم لتفادی مشکلة او ازمة الجمود التی قد یثیرها تطبیق مبدأ الشرعیة الجنائیة؟
سادساً: منهجیة البحث:
اعتمدنا فی هذه الدراسة على المنهج الاستقرائی والتحلیلی، وذلک من خلال استقراء نصوص التجریم المتعلقة بموضوع الدراسة، وتحلیلها للوقوف على الالیة التی اعتمدها المشرع الجزائی فی صیاغتها ومدى لجؤه الى تطبیق فکرة الفراغ التشریعی فی اطارها.
سابعاً: هیکلیة البحث:
بغیة الاحاطة بموضوع هذه الدراسة، ارتأینا ان نبحثه على وفق الخطة الاتیة:
المبحث الاول: مفهوم الفراغ التشریعی
المطلب الاول/ التعریف بالفراغ التشریعی
الفرع الاول/ مدلول الفراغ التشریعی
الفرع الثانی/ مجال الفراغ التشریعی
المطلب الثانی/ تمییز الفراغ التشریعی عن بعض المفاهیم الاخرى
الفرع الاول/ الفراغ التشریعی والنقص فی التشریع
الفرع الثانی/ الفراغ التشریعی والغموض التشریعی
المبحث الثانی: تطبیقات الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة ووسائل حله
المطلب الاول/ تطبیقات الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة
المطلب الثانی/ دور التفسیر القضائی فی سد الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة
المبحث الاول
مفهوم الفراغ التشریعی
تعد القاعدة الجنائیة بمثابة الخلیة الاولى للنظام القانونی الجنائی فی الدولة، وهی المصدر الاساس للتشریع الجنائی، فیها یعبر المشرع الجنائی عن ارادته فی تجریم صور معینة من السلوک – فعلاً أو أقناعاً - ویقرر عقوبات على اتیان المخاطبین بها لتلک الصور من السلوک، وهی بذلک تتکون من شقین وهما التجریم و العقاب.
والقاعدة الجنائیة الایجابیة بما تتضمنه من تجریم و عقاب ما هی الا برهان من المشرع الجنائی على احترام مبدأ الشرعیة الجنائیة، وهذه القاعدة هی بمثابة ترکیب فنی للافصاح عن مضمون هذا المبدأـ فالمشرع الجنائی عندما یلجأ الى القاعدة الجنائیة لیعبر بواسطتها عن ارادته فی التجریم والعقاب انما یستجیب بذلک الى مبدأ لا جریمة ولا عقوبة الا بنص، وهذا یعنی ان القاعدة الجنائیة هی نتاج قیام المشرع بافراغ محتوى مبدأ الشرعیة الجنائیة فی قالب النص الجنائی.
وعلى هذا الاساس یمکننا القول ان عملیة صناعة المشرع الجنائی للقاعدة الجنائیة ما هی الا تطبیق لمبدأ لا جریمة ولا عقوبة الا بنص.
ولکن تطبیق هذا المبدأ قد یفرز ازمة فی النظام الجنائی للدولة مردها جمود النص الجنائی، فکان لا بد للمشرع الجنائی ان یستعین ببعض الادوات وهو بصدد صناعة القاعدة الجنائیة ومنها ترک منطقة فراغ تشریعی فی القاعدة الجنائیة تضفی علیها نوع من المرونة فتجعلها مستوعبة لجمیع المستجدات فی المستقبل.
ومن هنا سوف نکرس هذا المبحث للوقوف على مفهوم هذه الاداة من ادوات الصیاغة التشریعیة للقاعدة الجنائیة وذلک مطلبین، على وفق الآتی:
المطلب الاول: التعریف بالفراغ التشریعی
المطلب الثانی: تمییز الفراغ التشریعی عن بعض المفاهیم الاخرى
المطلب الاول
التعریف بالفراغ التشریعی
سنکرس هذا المطلب لبیان مدلول الفراغ التشریعی وتحدید مجاله وذلک فی فرعین على وفق ما یأتی:
الفرع الاول: مدلول الفراغ التشریعی
الفرع الثانی: مجال الفراغ التشریعی
الفرع الاول
مدلول الفراغ التشریعی
سنحاول فی هذا الفرع الوقوف على مدلول الفراغ التشریعی تحدید مدلول هذا الفراغ یتطلب الرجوع الى الاصل اللغوی لمصطلح (الفراغ التشریعی) اولا: ومن ثم الوقوف على معناه الاصطلاحی، على وفق الآتی:
اولاً: الفراغ التشریعی لغة:
(فَرَغَ) أص صحیح یدل على خُلّو (وَسَعَةِ) ذرع. من ذلک الفراغ خلاف الشغل، یقال فرغ فراغا الذی ینصب منه الماء وافرغت الماء: صببته وافترغت وافترغت اذا صَبَبَت الماء على نفسک، وفرس فریغ أی واسع المشی وسمی بذلک لانه کأنه خالٍ من کل شیء فخف عَدوُهُ ومشیه.
(الفارغ): الخالی یقال: اناء فارغ وقلب فارغ، (الفراغ): الخلو والمکان الخالی.
ثانیاً: الفراغ التشریعی اصطلاحاً:
بدءاً لا بد من تحری الدقة فی تحدید مدلول الفراغ التشریعی اذ لیس المراد منه خلو التشریع او النظام القانونی من حکم فی بعض الوقائع، ولو کان الامر کذا لکنا بصدد قصور تشریعی، بل المراد بالفراغ هنا فی حقیقة الامر هو خلو التشریع او النظام القانونی من نص خاص یبین الحکم تفصیلاً حیال فعل او واقعة معینة.
ولو کان الامر خلو التشریع او النظام القانونی من حکم فی بعض الوقائع او الافعال لکنا عندئذ اما نقص تشریعی، وهذا ما سنبینه عند الوقوف على ذاتیة الفراغ التشریعی:
فالفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة الایجابیة لیس نقصاً بل هو مجرد اغفال مقصود من جانب المشرع الجنائی فی اطار القواعد الایجابیة لأضفاء نوع من المرونة علیها لتکون مستوعبة لجمیع المستجدات فی المستقبل، ومن ثم فهو مجال استیعابی لکل امر یمکن ان یرد فی اطار القواعد الجنائیة الایجابیة، من دون ان یترتب على شمولها بهذه القاعدة توسیع نطاق التجریم، وذلک لان صیاغة النص الجنائی توجد منطقة فراغ تستوعب کل ما یصادف القاضی الجنائی من حالات تنطبق علیها ذات الاوصاف القانونیة الواردة فی النص الجنائی ومثل هذه الصیاغة الدقیقة هی التی اوجدت لنا نوع من الفراغ التشریعی و فأعطت القاضی الجنائی نوع من السلطة التقدیریة لمعالجة الازمة التی یفرزها مبدأ الشرعیة الجزائیة.
والفراغ التشریعی بهذا المعنى لا یجیز للقاضی اذا عرضت علیه واقعة ما ان ینفض یده منها ویدیر ظهره للمتقاضین بدعوى انها لا نص فیها، ذلک ان کونها کذلک لا یعنی انه لا حکمن فیها، بل على القاضی ان یجد فی البحث عن ذلک الحکم، بل ان القانون یعاقب القاضی اذا امتنع عن الفصل فی الدعوى لمثل هذا السبب ویعتبره مرتکباً لجریمة انکار العدالة.
وهکذا یکون من المستحسن ان تصاغ نصوص التشریعات العقابیة التی تحدد الجرائم و العقوبات باللجوء الى الفاظ ومفردات مرنة تسهل مهمة القاضی الجنائی فی ملاءمة النص الجنائی مع الضرورات الاجتماعیة، بما یخلق قواعد عامة ذات مفاهیم مرنة تجعل سلطة القاضی التقدیریة امراً لا مفر منه، فالمشرع من خلال مثل هذه الالفاظ یفسح منطقة فراغ تشریعی یترک من خلالها لفطنة القاضی الجنائی مهمة العنایة بتحدید السلوک الاجرامی وفقاً لحاجات الحیاة وتطور العلوم وتنوع الجرائم، فکل تقدم حضاری فی المجتمع یقابله ظهور جرائم جدیدة (الجرائم المستحدثة).
الفرع الثانی
مجال الفراغ التشریعی
یخضع قانون العقوبات لمبدأ الشرعیة الجنائیة، فهذا القانون یتتبع بالخطى الواقعة الاجرامیة تجریماً وعقاباً، فمبدأ "لا جریمة ولا عقوبة الا بنص"، یعد من الدعائم الاساسیة التی یقوم علیها هذا الفرع من فروع القانون، ومؤدى هذا المبدأ انه على المشرع الجزائی ان یحدد سلفاً ما یعد من صور السلوک الصادرة عن الانسان جریمة، فیحدد لکل جریمة نموذجها القانونی، کما یحدد لکل عقوبتها، وهذا المؤدى یفرض على القاضی الجنائی عدم التوسع فی تفسیر نصوص هذا القانون لیتناول بالتجریم والعقاب صوراً من السلوک سهى المشرع عن تجریمها وقت وضع النص، لذا فان تبنی هذا المؤدى بصورة مجردة من شأنه ان یصیب قانون العقوبات بعجز عن حمایة الحقوق الاساسیة للمجتمع.
ومن هنا کان لا بد للمشرع الجزائی ان یستعین ببعض الوسائل للتخفیف من وطأة هذا المبدأ، ومن هذه الوسائل - کما اشرنا – ان یترک للقاضی منطقة فراغ تمکنه من ای یجعل النص الجنائی مستوعباً لبعض صور السلوک التی سهى المشرع عن تجریمها وقت وضع النص، واصطلحنا على هذا الالیة بـ (الفراغ التشریعی)، ولکن این یجد مثل هذا الفراغ مجاله ضمن قواعد قانون العقوبات؟
اذا کان مبدأ الشرعیة الجنائیة یثیر ازمة فی اطار القواعد الجنائیة الخاصة بالتجریم والتی یصطلح الفقه الجنائی على تسمیتها بـ (القواعد الجنائیة الایجابیة)، فان مجال الفراغ التشریعی یظهر فی اطار هذا النوع من قواعد قانون العقوبات.
ویراد بالقاعدة الجنائیة الایجابیة هی تلک القواعد التی تحظر الإتیان او الامتناع عن فعل یترتب علیه حدوث ضرر او یعرض للخطر مصلحة جوهریة قرر الشرع حمایتها عن طریق التجریم والعقاب.
ومن هنا کان المشرع الجزائی بحاجة الى ترک منطقة فراغ تشریعی فی اطار هذه القواعد تمکن القاضی من استیعاب بعض صدر السلوک التی لم تتبادر الى ذهن المشرع وقت وضع النص الجنائی، فنصوص قانون العقوبات مهما کانت واضحة ومحددة الا انها تثیر فی کثیر من الاحیان کثیراً من التساؤلات، فجریمة السرقة مثلاً طبقاً لنصوص قانون العقوبات لا تقع الا على ما منقول، فهل یمکن ان ترد هذه الجریمة على معلومات الحاسب الالی فی الوقت الحاضر؟!! ومن هذا المنطلق یلاحظ لجوء المشرع الجنائی الى صیاغة الکثیر من نصوص قانون العقوبات باسلوب مرن یمکن ان یتناول الکثیر من الافعال وصور السلوک التی تتلاءم وتطور المجتمع محل الحمایة الجنائیة والتی لم تکن فی ذهن المشرع وقت وضع النص العقابی، خلاصة القول ان مجال الفراغ التشریعی یتحدد فی اطار القواعد الجنائیة الایجابیة من التشریع الجنائی کون ان هذه القواعد متعلقة بالتجریم والعقاب وبالتالی خاضعة "لمبدأ لا جریمة ولا عقوبة الا بنص"، اذ یکون المشرع الجزائی بحاجة الى ترک منطقة فراغ تشریعی للقاضی الجنائی لیستطیع من خلالها التغلب على مشکلة جمود النص الجنائی التی یفرزها هذا المبدأ، ومن ثم یتضمن النص العقابی مجال استیعابی لبعض صور السلوک التی لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع ذلک النص.
المطلب الثانی
تمییز الفراغ التشریعی عن بعض المفاهیم الاخرى
قد یحدث خلط بین الفراغ التشریعی بالمفهوم الذی تناولناه فی المطلب السابق وبعض المفاهیم الاخرى فی اطار القانون الجزائی کالنقص التشریعی والغموض التشریعی، لذا ارتأینا ان نخصص هذا المطلب لتمییز الفراغ التشریعی عن هذه المفاهیم، وذلک فی فرعین، کما یأتی:
الفرع الاول: الفراغ التشریعی والنقص التشریعی
الفرع الثانی: الفراغ التشریعی والغموض التشریعی
الفرع الاول
الفراغ التشریعی والنقص التشریعی
اشرنا فیما سبق ان الفراغ التشریعی هو عبارة عن مساحة فراغ یتعمد المشرع الجزائی ترکها عند صیاغة ووضع النص العقابی، لیتمکن القاضی من خلالها استیعاب بعض صور السلوک التی لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع ذلک النص، وهذا کله یساهم فی الحد من جمود النص العقابی.
فالفراغ التشریعی بهذا المعنى یختلف جذریاً عن النقص فی التشریع والذی یراد به اغفال حرف او کلمة او اکثر فی النص العقابی مما یفضی الى اختلال المعنى الوارد به، بمعنى عدم اکتمال ذلک النص على النحو الذی ینبغی ان یکون علیه، ویؤدی ذلک الى تعذر فهم الحکم المستنبط من النص والمقصود منه والمراد به، فهو اذن حالة عدم وجود نص او تنظیم یخص الواقعة المعروفة على القاضی، ومثل هذا النقص التشریعی لا یؤثر على مهمة القاضی الجزائی فی تحقیق العدالة، فلا یمکن ان یوصف القاضی الجنائی بانه قد انکر العدالة اذا ما قرر براءة المتهم لعدم توافر الصفة غیر المشروعة لفعله بسبب عدم وجود نص عقابی یجرم الفعل الصادر عنه، اما فی حالة الفراغ التشریعی فیوصف القاضی الجزائی بانه انکر العدالة اذا ما اذا امتنع عن الحکم بحجة عدم وجود حکم ینظم المسألة.
نخلص ما تقدم ان الفراغ التشریعی لا یمکن ان یوصف بانه عیب فی التشریع، بل هو وسیلة استعان بها المشرع الجزائی للتخفیف من وطأة مبدأ الشرعیة الجنائیة، اما النقص فی التشریع فهو عیب یعتری النص العقابی وینبغی على الجهة المصدرة لذلک النص علاجه لان مثل هذا النقص سوف یؤدی الى افلات الجناة من الجزاء الجنائی، فلیس بمقدور القاضی الحکم علیهم لانه محکوم بمبدأ لا جریمة و لا عقوبة الا بنص.
الفرع الثانی
الفراغ التشریعی والغموض التشریعی
یعد الغموض التشریعی احد ابرز عیوب صیاغة النص العقابی، ویقصد بالنص الغامض ذلک النص الذی لا تدل صیغته على المعنى او الحکم المراد منه، بل یتوقف فهم هذا المعنى او الحکم على امر خارج عن عبارة النص او صیغته، وللغموض التشریعی اقسام، فهو اما خفی، او مُشکل، او مجمل او متشابه.
ومعظم حالات الغموض التشریعی ترجع الى اسلوب صیاغة النص العقابی، فقد تبدو الصیاغة التشریعیة غیر مألوفة فی سیاق اللغة العادیة، وقد تکون طریقة التعبیر والاسلوب التشریعی اللذین یتبعهما المشرع الجزائی عاکسة لتقالید الصیاغة التی تملیها علیه اللغة المحلیة او قواعد النحو والصرف اللغویة.
فالغموض فی النص العقابی بهذا المعنى هو عیب تشریعی وینبغی معالجته بالوسائل المناسبة فهنالک بعض صور الغموض یمکن ازالتها من قبل القاضی نفسه بالاستعانة بادوات عدیدة وفی مقدمتها اللغة، وهنالک بعض صور الغموض التی لا یمکن ازالتها الا من قبل الجهة التی اصدرت النص العقابی ابتداءاً حین لا یمکن ان یوصف الفراغ فی التشریعی بانه عیب تشریعی، لانه کما اشرنا عبارة من منطقة فراغ یتعمد صانع النص العقابی ترکها، لتکون مجال استیعابی لکل ما یمکن ان یستجد فی المستقبل ولم یکن قد ورد الى ذهن المشرع وقت وضع ذلک النص.
المبحث الثانی
تطبیقات الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة ووسائل حلها
سوف نکرس هذا المبحث لبیان ابرز تطبیقات الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة فی احکام قانون العقوبات العراقی رقم 111 لسنة 1969 النافذ، ثم نحاول الوقوف على السبل المتاحة للقاضی الجنائی لملء مثل هذا الفراغ، لذا ارتأینا ان نقسم هذا المبحث الى مطلبین، على وفق الآتی:
المطلب الاول: تطبیقات الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة
المطلب الثانی: دور التفسیر القضائی فی سد الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة
المطلب الاول
اهم تطبیقات الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة
سنحاول ان نورد اهم التطبیقات التی استعان المشرع الجزائی العراقی فی ظلها بفکرة (الفراغ التشریعی) لتجاوز ازمة مبدأ الشرعیة الجنائیة وذلک فی ظل احکام قانون العقوبات العراقی النافذ، وذلک فی ثلاثة فروع: على وفق الآتی:
الفرع الاول: فکرة الفراغ التشریعی فی اطار جرائم الضرب المفضی الى الموت
الفرع الثانی: فکرة الفراغ التشریعی فی اطار النصوص المجرمة للایذاء
الفرع الثالث: فکرة الفراغ التشریعی فی اطار جرائم الاموال.
الفرع الاول
فکرة الفراغ التشریعی فی اطار جرائم الضرب المفضی الى الموت
عالج المشرع العراقی هذه الجریمة ضمن الفصل الثانی من الباب الاول من الکتاب الثالث من قانون العقوبات الناقد وبالتحدید فی المادة (410) فالمشرع العراقی وهو بصدد وضع وصیاغة هذا النص، جسد فکرة الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة، اذ حرص على ترک منطقة فراغ تشریعی فی إطار هذا النص وذلک من خلال (أو ارتکاب ای فعل اخر مخالف للقانون) لیمکن القاضی الجنائی من اعطاء هذا النص مجالاً استیعابیاً یشمل به صوراً من السلوک الاجرامی تحقق ذات النتیجة المجرمة بموجب ذلک النص دون ان یصدق علیها وصف الجرح او الضرب او اعطاء مواد ضارة، کما لو یتعمد شخص مصاب بمرض معدٍ ان ینقل عدواه –بای طریقة کانت- الى شخص سلیم یعانِ من ضعف فی جهازه المناعی فیتسبب ذلک المرض بموته، فسلوک الجانی هنا –نقل العدوى- لا یمکن ان یوصف بانه جرح او ضرب او اعطاء مواد ضارة ولکنه افضى الى ذات النتیجة المجرمة بموجب النص، لذا یکون بامکان القاضی ان یشمله بهذا النص من خلال عبارة (او بارتکاب ای فعل اخر مخالف للقانون).
الفرع الثانی
فکرة الفراغ التشریعی فی اطار النصوص المجرمة للایذاء
عالج المشرع العراقی جرائم الایذاء العمدی وغیر العمدی ضمن الفصل الثالث من الباب الاول من الکتاب الثالث من قانون العقوبات فی المواد (412 – 416)، والمشرع فی اطار هذه المواد استعان ببعض الالفاظ للتعبیر عن افعال الاعتداء على سلامة جسم الانسان وهی:
ولکن ماذا لو لم یتخذ السلوک الصادر عن الجانی احدى هذه الصور، فماذا لو لم یکن ذلک السلوک جرحاً ولا ضرباً ولا عنفاً و لا اعطاءً لمواد ضارة لکنه یمس بحق الانسان فی سلامة جسده؟!
قد یتبادر الى الذهن ان سلوک الجانی الماس بسلامة جسم الانسان لا یقع تحت طائلة احکام قانون العقوبات ان لم یکن فی صورة جرح او ضرب او عنف او اعطاء مواد ضارة، والحقیقة ان المشرع هنا استعان بفکرة الفراغ التشریعی، فترک للقاضی مساحة فراغ یستطیع من خلالها تکییف سلوک الجانی بانه ایذاء وان لم یکن جرحاً او ضرباً او عنفاً او اعطاءاً لمواد ضارة، وذلک بإیراده لعبارة "او بارتکاب ای فعل اخر مخالف للقانون"، فبهذه العبارة ترک المشرع للقاضی الجنائی منطقة فراغ تمکنه من ان یجعل القاعدة الجنائیة تشمل ای سلوک مخالف للقانون اذا مس حق الانسان فی سلامة الجسد وان لم یکن فی صورة الجرح او الضرب او العنف او اعطاء مواد ضارة.
فالمشرع الجزائی یستهدف بنص التجریم غرضاً معیناً (علة النص) هو کفالة التنظیم القانونی لموضوع معین ویحدد هذا الغرض الاحکام التی یتضمنها النص، لیستهدف بها حمایة حق معین قدر المشرع جدارته بالحمایة الجنائیة، وهنا یکون القاضی الجنائی اما التزام بان یحدد بدقة الحق الذی اراد المشرع حمایته بنص التجریم.
والامثلة کثیرة على الافعال التی تمس حق الانسان فی سلامة جسده دون ان تعد جرحاً او ضرباً او عنفاً او اعطاء مواد ضارة، نذکر منها:
- قص الشعر من دون رضاء صاحبه، اذا لا یمکن اعتباره جرحاً ولا ضرباً ولا عنفاَ ولا اعطاءً لمواد ضارة، بالمفهوم المحدد آنفاً.
- توجیه اشعة الى جسم المجنی علیه لا تصیب انسجة جسمه بتمزق، ولکنها تعوق السیر الطبیعی لاحد اعضاء جسمه، کأن تنقص من افرازات بعض الغدد، فهنا ایضاً لا یمکن اعتبار هذا السلوک جرحاً او ضرباَ او عنفاً او اعطاءً مواد ضارة.
- الصراخ فی اذن المجنی علیه والتسبب فی تلف غشاء الطبلة، فهذا السلوک ایضاً لا یمکن ان یندرج تحت الجرح او الضرب او العنف او اعطاء المواد الضارة.
- اخافة إمرأة برمی احد الحیوانات الزاحفة علیها، فتفقد وعیها خوفاً، وهذا السلوک ایضاً لا یمکن ان یعد جرحاً او ضرباً او اعطاء لمواد ضارة بالمفهوم الذی حددناه.
ولا جدال فی ان التسلیم بخروج مثل هذه الصور من السلوک من نطاق جرائم الایذاء یتضمن الاعتراف بعیب ونقص فی التشریع، ولمثل هذا العیب وجهان: فهو من الناحیة النظریة ینطوی على تناقض ینسب الى المشرع، فذلک یعنی انه یحمی بعض عناصر الحق دون البعض الاخر على الرغم من ان الاخیرة لیست اقل اهمیة من الاولى، فضلاً عن ان الارتباط بین عناصر الحق جمیعاً یجعل من الاعتداء على العناصر التی لا یحمیها المشرع وسیلة الى الاعتداء على تلک التی یحمیها، اما من الناحیة العملیة فینطوی على اهدار جزئی للحق فی سلامة الجسم، وعلى تعریض الافراد لانواع من الاعتداء یجب ان یحرص المشرع على حمایتهم منها.
لذا نرى ان المشرع العراقی کان موفقاً عندما استعان فی صیاغة النصوص الجنائیة المجرمة للایذاء بعبارة "او بارتکاب ای فعل اخر مخالف للقانون"، اذ ترک من خلالها منطقة فراغ تشریعی للقاضی الجنائی، تمکنه من ان یجعل القاعدة الجنائیة تشمل السلوک المکون لجریمة الایذاء وان لم یتضمن جرحاً او ضرباً او عنفاً او اعطاءً لمواد ضارة، دون ان یعتبر ذلک اخلالاً بمبدأ الشرعیة مادام القاضی لم یخلق بذلک جریمة جدیدة، فکل ما فی الامر انه یجعل للنص مجالاً استیعابیاً لصورة سلوک لم ترد صراحة فی النص ولکنها افضت الى ذات النتیجة التی جرمها المشرع فی ذلک النص.
الفرع الثالث
فکرة الفراغ التشریعی فی اطار جرائم الاموال
عالج المشرع العراقی جرائم الاموال فی الباب الثالث من الکتاب الثالث من قانون العقوبات، وبقدر تعلق الامر بموضوع دراستنا فاتنا سوف نحاول ان نقف عند فکرة انواع الفراغ التشریعی فی اطار بعض هذه الجرائم، على وفق الآتی:
أولاً: الفراغ التشریعی فی اطار جریمة السرقة:
عالج المشرع العراقی احکام هذه الجریمة فی الفصل الاول من الباب الثالث من الکتاب الثالث من قانون العقوبات، وبالرجوع الى المادة (439) من هذا القانون یلاحظ ان المشرع راعى فی صیاغتها نوع من المرونة ترک من خلالها منطقة فراغ تشریعی تمکن القاضی الجنائی من اعطاء ذلک النص مجالاً استیعابیاً لصور سلوک لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع النص، فعبارة (اختلاس مال منقول مملوک لغیر الجانی) تضمنت من المرونة ما یکفی لاستیعاب ای سلوک ینطوی على اختلاس لای مال منقول سواء کان ذو طبیعة مادیة او معنویة، بل وحتى المعلومات الالکترونیة یمکن ان تکون محلاً للاختلاس المکون للسرقة بمقتضى احکام هذا النص، وما هذه الصیاغة الا تجسیداً لفکرة الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة، ولم یکتفی المشرع بذلک بل حرص ان یضمن هذا النص عبارة اخرى تجسد فکرة الفراغ التشریعی بقوله: "ویعتبر مالاً منقولاً لتطبیق احکام السرقة... القوى الکهربائیة وکل طاقة او قوة محرزة اخرى... ومن قبیل" القوة المحرزة البیانات الالکترونیة/ خطوط الانترنت....إلخ.
ثانیاً: الفراغ التشریعی فی اطار جریمة اغتصاب الاموال:
عالج المشرع العراقی احکام جریمة اغتصاب الاموال ضمن الفصل الثانی من الباب الثالث من الکتاب الثالث من قانون العقوبات، وبالرجوع الى صیاغة نص المادة (452) من هذا القانون یلاحظ ان المشرع راعى فی تلک الصیاغة ترک منطقة فراغ تمکن القاضی الجنائی من ان یجعل للنص مجالاً استیعابیاً وان لم یکن محل الاغتصاب نقوداً، اذ استخدم المشرع عبارة "أو اشیاء اخرى غیر ما ذکر فی المادة السابقة"، وما هذه الصیاغة الا تجسیداً لفکرة الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة.
المطلب الثانی
دور التفسیر القضائی فی سد الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة
اشرنا فیما سبق ان المشرع الجنائی وهو بصدد وضع وصیاغة نصوص التجریم یتعمد ان یترک منطقة فراغ تمکن القاضی الجنائی من ان یجعل لتلک النصوص مجالاً استیعابیاً لصور من السلوک لم ترد الى ذهن المشرع وقت وضع النص.
وهنا یأتی دور القاضی الجنائی فی سد هذا الفراغ وذلک باللجوء الى التفسیر، وهو عبارة عن نشاط فکری ومنطقی یبحث فی معانی القاعدة الجنائیة لتحدید مضمونها ومجالات تطبیقها على الحالات الواقعیة، وبمعنى ادق هو البحث عن المعانی الحقیقیة التی یقصدها المشرع من وراء النص الذی یبدو غامضاً، بغیة جعله صالحاً للتطبیق، بهدف تطبیقه تطبیقاً صحیحاً، على نحو یحقق ارادة المشرع من تقریر هذا النص بشأن المصلحة التی قصد حمایتها، فالتفسیر القضائی اذن یستهدف تطبیق القانون على الوقائع العادیة، وبالتالی لا یعد تفسیراً قضائیاً الشروح التی یبدیها القضاة للنصوص الجنائیة بعیداً عن مناسبات الفصل فی القضایا، وعلى هذا یکون التفسیر عملیة سابقة لتطبیق القانون على وقائع النزاع المعروض على القاضی الجنائی.
والاصل وکنتیجة حتمیة لتقریر مبدأ الشرعیة الجنائیة ان یکون تفسیر نصوص القانون الجنائی تفسیراً ضیقاً، ای لا بد ان یکون تفسیر نصوص هذا القانون مقیداً بهذا المبدأ؟، کی لا یفضی التفسیر الى تجریم صور من السلوک لم یقصد المشرع تجریمها.
فالاصل اذن فی تفسیر النص الجنائی هو التزام القاضی بمبدأ التفسیر الضیق، وذلک للحد من سعة الالفاظ التی استعان بها المشرع فی صیاغة النص وحصرها فی النطاق المطابق لإرادة المشرع، وذلک حین یکون النص الجنائی قد قال "اکثر مما اراد".
ومن امثلة النصوص الجنائیة التی "قالت اکثر مما ترید" نص المادة (287/1/د) من قانون العقوبات العراقی النافذ والذی قرر بانه یعد تزویراً مادیاً فی المحررات: "اجراء ای تغییر بالاضافة او الحذف او التعدیل او بغیر ذلک فی کتابة المحرر او الارقام او الصور او العلامات او ای امر اخر مثبت فیه"، ومن ذلک ایضاً ما جاء فی نظام مکافحة التزویر فی السعودیة من انه: "من قلد أو زور توقیعاً او ختماً لشخص اخر، أو صرّف بطریق الحک أو الشطب أو التغییر سنداً أو أیة وثیقة خاصة، عوقب..."، فالالفاظ التی استعان بها المشرع فی صیاغة هذا النص جاءت بصیغة العموم وعدم التخصیص، لیبدو ان من یغیر الحقیقة باحدى الطرق التی حددها النص یقع تحت طائلة العقاب وان کان ذلک التغییر برضاء صاحب الشأن ولمجرد اثبات البراعة فی التقلید او محاکاة الخطوط، ولکن هذا المدلول الظاهری للنصوص مخالف للمدلول الواقعی والمنطقی المتفق مع ارادة القانون، والذی یقضی ان یکون التزویر وتغییر الحقیقة قد تم بقصد الوصول الى غایة محددة وهو استعمال المحرر المزور فیما اعد من اجله، فاذا انتفت هذه الغایة فلا عقاب.
واذا کان الاصل فی تفسیر نصوص القانون الجنائی هو التفسیر الضیق، فان مثل هذا التفسیر قد یجعل القاضی الجنائی عاجزاً عن مواجهة بعض صور السلوک الاجرامی، فمثل هذا التفسیر لا یسمح له باعطاء النص الجنائی مجالاً استیعابیاً یشمل به تلک الصور من السلوک، سیما فی اطار النصوص الجنائیة التی یکون المشرع فیها قد قال "أقل مما یرید".
اما فی اطار النصوص الجنائیة التی (یقول فیها المشرع اقل مما یرید) لا مناص من التفسیر الواسع، ویکون التفسیر واسعاً عندما یستفاد من علة النص الجنائی معنى اکثر اتساعاً من ذلک الذی تنبئ عنه الفاظ النص، بمعنى اخر انه یتمثل فی الحالة التی یعطی فیها القاضی لالفاظ النص المعنى الذی یتفق والعلة من تقریر.
ففی اطار النصوص المجرمة لافعال الایذاء، یستطیع القاضی الجنائی اللجوء الى التفسیر الواسع لسد منطقة الفراغ التی تعمد المشرع الجزائی ترکها لاعطاءها مجالاً استیعابیاً لصور من السلوک تحقق العدوان على حق الانسان فی سلامة الجسد وتحقق ذات النتیجة الاجرامیة من دون ان یصدق علیها وصف الجرح أو الضرب او اعطاء المواد الضارة من الناحیة اللغویة، لان المشرع فی اطار هذه النصوص "قال أقل مما یرید"، لذا لا مناص من لجوء القاضی الجنائی الى التفسیر الواسع لیعطی بذلک للنص الجنائی معنى اکثر اتساعاً من ذلک الذی تکشف عنه ألفاظ النص، وبذلک یتمکن من سد منطقة الفراغ فی القاعدة الجنائیة من دون ان یشکل مسلکه هذا مخالفة لمبدأ الشرعیة الجنائیة، فهو لم یصل بتفسیره الواسع الى حد خلق جرائم جدیدة، انما اعطى النص مجالاً استیعابیاً شمل به صوراً من السلوک تحقق العدوان على ذات المصلحة المحمیة بمقتضى تلک النصوص وتحقق ذات النتیجة الاجرامیة (الایذاء).
وفی إطار النصوص المجرمة للسرقة والتی قال المشرع فی إطارها ایضاً "اقل مما یرید" وترک بذلک منطقة فراغ تشریعی لیستوعب النص من خلالها صور من السلوک لا یمکن ان یستوعبها المعنى اللغوی لألفاظ النص، فعبارة (مال منقول) وعبارة (وکل طاقة او قوة محرزة اخرى) التی استعان بها المشرع العراقی فی صیاغة النص الخاص بتجریم السرقة.
فعبارة (مال منقول) وعبارة (وکل طاقة او قوة محرزة اخرى) ترکت فراغاً تشریعیاً فی هذا النص الجنائی، ولا مناص للقاضی الجنائی من سده وذلک باللجوء الى التفسیر الواسع واعطاء ألفاظ النص المعنى الذی یتفق والعلة من النص.
فماذا لو کان محل السرقة "الطاقة الجنسیة للانسان أو الحیوان" او "طاقة الهاتف" أو "معلومات الکترونیة على الحاسب" و "رصید الهاتف النقال" "خطوط الانترنت والوای فای.
فاعتماد القاضی الجنائی على المدلول اللغوی لعبارة (مال منقول) قد لا یسعفه فی تطبیق احکام السرقة فی مثل هذه الاحوال، لذا یکون التفسیر الواسع ضروریاً لسد منطقة الفراغ التشریعی واعطاء النص مجالاً استیعابیاً لسلوک الاختلاس الذی یکون محله من هذا القبیل، وفی هذا الصدد یلاحظ ان محکمة النقص المصریة طبقت النص الخاص بالسرقة (311) من قانون العقوبات المصری النافذ على شخص قام بتحویل مسار خط تلیفونی خاص بالغیر الى منزله واستعمال هذا الخط طوال مدة تعطله فی منزل المجنی علیه، وذلک لانه یکون بسلوکه هذا قد استولى على الطاقة المغناطیسیة التی تقوم بنقل الصوت عبر الأسلاک التلیفونیة، وفی ذلک تقول المحکمة: ((إن المنقول فی تعریف السرقة لا یقتصر على ما کان جسماً متمیزاً قابلاً للوزن طبقاً لنظریات الطبیعة، بل هو یتناول کل شیء مقوم قابل للتملک والحیازة والنقل من مکان الى اخر)).
الخاتمــة
بعد الانتهاء من دراسة وبحث فکرة الفراغ التشریعی فی القاعدة الجنائیة، فإن استکمال الغرض من هذه الدراسة یقتضی ان نعرض جملة من النتائج والتوصیات، کما یلی:-
أولاً: النتائج
کشفت هذه الدراسة عن النتائج الآتیة:
ثانیاً: التوصیات
ندعو المشرع الجزائی العراقی الى التوسع فی الاستعانة بهذه الادوات من ادوات الصیاغة التشریعیة (الفراغ التشریعی) لیس فقط فی صیاغة نصوص التجریم الواردة فی نطاق قانون العقوبات، بل ایضاً فی اطار التشریعات العقابیة الخاصة والمکملة لقانون العقوبات، اذ من المستحسن ان تصاغ نصوص التشریعات العقابیة الخاصة فی ألفاظ مرنة تسهل مهمة القاضی الجنائی فی التوفیق والملائمة بین النص العقابی والضرورات الاجتماعیة، فالمشرع مطالب فی احیان کثیرة ان یترک لفطنة القاضی الجنائی مهمة تطبیق النص العقابی وفقاً لحاجات الحیاة وتطور العلوم والفنون وتنوع السلوک الاجرامی.
The Authors declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English) and References (English)
References in Arabic
First: Dictionaries
1. Ahmed bin Fares bin Zakaria al-Qazwini al-Razi, Dictionary of Language Standards, the investigation of Abdul Salam Mohammed Harun, Dar al-Fikr, د.ت, 1979.
2. Abi Hassan Ali bin al-Hasan al-Hinai, al-Munajjid in the language, i 2, Ahmed Mokhtar Omar and Dr. Dhahi Abdel Baqi, World of Books, Cairo, 1988.
Second: Books
3. Jawad Al-Rahimi, Legal Adaptation of Criminal Proceedings, I 2, Legal Library, Baghdad, 2006.
4. Dr. Hamid al-Saadi, Explanation of the new Penal Code, C1, Baghdad, 1970.
5. Dr. Haidar Adham Abdulhadi, Origins of Legal Drafting, I 1, Dar Al-Hamed, Jordan, 2009.
6. Dr. Rifai Sayed Saad, Interpretation of Criminal Texts - Comparative Study, II, Dar Al-Nahda Al Arabiya, Cairo, 2008.
7. Dr. Ramses Behnam, The General Theory of Criminal Law, Al-Ma'aref Establishment, Alexandria, 1970.
8. Dr. Dhari Khalil Mahmoud, Al-Wajeez in explaining the Penal Code - General Section, 1, Legal Books House, Baghdad, 2002.
9. Dr. Adel Youssef Al-Shukri, The Art of Compelling the Punitive Text, I 1, Zain Legal Publications, Beirut, 2017.
10. Dr. Abdel Fattah Mustafa Saifi, Criminal Base, Beirut, 1967.
11. Dr. Abdul Fattah Mustafa Saifi, Conformity in the field of criminalization - a doctrinal attempt to develop a general theory of conformity, I 2, House of Arab Renaissance, Cairo, 1991.
12. Dr. Essam Afifi Abdel - Basir, The Crisis of Criminal Law and its Means of Treatment - Comparative Study in Islamic Law and Jurisprudence, 1, Dar Abu Al - Majd, Egypt, 2007.
13. Dr. Essam Afifi Abdalbaseer, Criminal Law Division - Comparative Study on Positive Law and Islamic Criminal Jurisprudence, 1, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 2003.
14. Dr. Essam Afifi Abdelbaseer, The Principle of Criminal Jurisdiction - Comparative Study on Positive Law and Islamic Criminal Jurisprudence, Dar Abu Al-Majd, Egypt, 2007.
15. Dr. Awad Mohamed, Jurisprudence, Law and Leisure Areas, Faculty of Law, Alexandria University, (B, C).
16. Dr. Maher Abdul-Shwaish Al-Durra, General Provisions in the Penal Code, I 2, Ibn al-Athir University, Mosul University, 1991.
17. Dr. Maher Abdul - Shawish Aldra, Explanation of the Penal Code - Special section, Legal Library, Baghdad, 2009.
18. Dr. Mohammed Ahmed Al-Mashhadani, Explanation of the Penal Code - Special section on positive law and Islamic law, 1, Dar al-Thaqafa for publication and distribution, Jordan, 2001.
19. Dr. Mahmoud Naguib Hosni, Explanation of the Penal Code - Special section, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1992.
Third: Resources on the Internet
20. Dr. Abdel Fattah Khedr, Judgment where the criminal text is missing, research published on the Internet and on the website, www.kototaratia.com
Fourth: Laws
21. Egyptian Penal Code No. 58 of 1937 amended.
22. Iraqi Penal Code No. 111 of 1969 Amended.
23. Iraqi Civil Procedure Law No. 83 of 1969 Amended.
Sources in foreign language:
24. PANTON, ATEXBOOK OF jurisprudnce, Fourthedition, 1972.
25. ALLEN, Law in the making, seveth Edition, 1964.