الملخص
لم تکن الأنهار الدولیة واستخدامها فی القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین من الأهمیة بحیث تتطلب تنظیما دولیا، إذ کانت احتیاجات الناس محدودة، وکان التطور العلمی والتقنی فی بدایاته الاولى، وانحصرت الاتفاقیات الدولیة التی أبرمت فی تلک الفترة على مسألة تنظیم الملاحة فی الأنهار الدولیة.
إلا أنه مع بدایة القرن الحالی ومع التطور العلمی الهائل ازدادت أهمیة المیاه، وامتد الاهتمام لیشمل تولید الطاقة، ونشاطات التعدین، وإقامة السدود لزیادة المساحة المزروعة، ولحمایة الفائض من المیاه من الصرف فی البحر وحجزها وراء السدود، کذلک فقد أدت زیادة عدد السکان وحاجات الزراعة والصناعة إلى زیادة الطلب على المیاه، وقد ترتب على ذلک أمرین متناقضین، فمن ناحیة أصبحت الدول راغبة ومهتمة باستخدام المجاری المائیة الدولیة التی تقع داخل اختصاصها، ومن ناحیة ثانیة ازداد قلق الدول من أیة مشروعات قد تقوم بها دولة مطلة على النهر خشیة أن یکون لذلک آثار سیئة علیها، ونتیجة لهذا التوسع فی الاستخدام والانتفاع من هذه المیاه تضاربت مصالح الدول المشترکة فیها وتعذر فی کثیر من الأحیان عقد الاتفاقیات بینها لا یجاد التوازن بین المصالح المتضاربة.
وقد أکدت اتفاقیة الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة لعام 1997 مبادئ عدیدة استقرت علیها الاتفاقیات الدولیة والأعراف، وهی تتجلى بمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المائیة المشترکة، ومبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن، وهی مبادئ ترتبط بمبدأ الالتزام العام بالتعاون بین الدول، وتلزم هذه المبادئ وما یتفرع عنها من التزامات فرعیة وإجرائیة الدول المشترکة فی مجرى مائی دولی باستخدامه وتطویره وحمایته بطریقة عادلة ومعقولة، وألا تلحق الضرر بالدول الأخرى المشترکة معها، وان تفعل ذلک بروح التعاون، لان العنصر الأساس لمفهوم المشارکة هو تعاون دول المجرى المائی بهدف للوصول لاستخدام أمثل لمیاه المجری المائی الدولی.
الموضوعات
أصل المقالة
المبادئ القانونیة الناظمة لاستخدام میاه المجاری المائیة الدولیة دراسة فی أحکام اتفاقیة الأمم المتحدة لسنة 1997-(*)-
Legal Principles Governing the Use of International Watercourses Study under the provisions of the 1997
United Nations Convention on the Law of the Sea,
رقیب محمد جاسم الحماوی کلیة الحقوق/ جامعة الموصل Raqib Muhammad Jassim Al-Hamawi College of law / University of Mosul Correspondence: Raqib Muhammad Jassim Al-Hamawi E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 7/1/2018 *** قبل للنشر فی 15/1/2018.
(*) Received on 7/1/2018 *** accepted for publishing on 15/1/2018.
Doi: 10.33899/alaw.2018.160790
© Authors, 2018, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
المستخلص
لم تکن الأنهار الدولیة واستخدامها فی القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین من الأهمیة بحیث تتطلب تنظیما دولیا، إذ کانت احتیاجات الناس محدودة، وکان التطور العلمی والتقنی فی بدایاته الاولى، وانحصرت الاتفاقیات الدولیة التی أبرمت فی تلک الفترة على مسألة تنظیم الملاحة فی الأنهار الدولیة.
إلا أنه مع بدایة القرن الحالی ومع التطور العلمی الهائل ازدادت أهمیة المیاه، وامتد الاهتمام لیشمل تولید الطاقة، ونشاطات التعدین، وإقامة السدود لزیادة المساحة المزروعة، ولحمایة الفائض من المیاه من الصرف فی البحر وحجزها وراء السدود، کذلک فقد أدت زیادة عدد السکان وحاجات الزراعة والصناعة إلى زیادة الطلب على المیاه، وقد ترتب على ذلک أمرین متناقضین، فمن ناحیة أصبحت الدول راغبة ومهتمة باستخدام المجاری المائیة الدولیة التی تقع داخل اختصاصها، ومن ناحیة ثانیة ازداد قلق الدول من أیة مشروعات قد تقوم بها دولة مطلة على النهر خشیة أن یکون لذلک آثار سیئة علیها، ونتیجة لهذا التوسع فی الاستخدام والانتفاع من هذه المیاه تضاربت مصالح الدول المشترکة فیها وتعذر فی کثیر من الأحیان عقد الاتفاقیات بینها لا یجاد التوازن بین المصالح المتضاربة.
وقد أکدت اتفاقیة الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة لعام 1997 مبادئ عدیدة استقرت علیها الاتفاقیات الدولیة والأعراف، وهی تتجلى بمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المائیة المشترکة، ومبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن، وهی مبادئ ترتبط بمبدأ الالتزام العام بالتعاون بین الدول، وتلزم هذه المبادئ وما یتفرع عنها من التزامات فرعیة وإجرائیة الدول المشترکة فی مجرى مائی دولی باستخدامه وتطویره وحمایته بطریقة عادلة ومعقولة، وألا تلحق الضرر بالدول الأخرى المشترکة معها، وان تفعل ذلک بروح التعاون، لان العنصر الأساس لمفهوم المشارکة هو تعاون دول المجرى المائی بهدف للوصول لاستخدام أمثل لمیاه المجری المائی الدولی.
Abstract
International rivers and their use in the nineteenth century and early twentieth century were not so important that they required an international regulation .The requirements of people were limited, the technical and scientific progress was in its early stage, and the international conventions made during that period was restricted to the issue of regulation of navigation in international rivers .
However, with the beginning of the current century and with the huge scientific progress the importance of water increases and the attention of the coastal states adjacent to the international rivers was not directed to the navigational use, but it extended to include power generation, mining activities, building dams to increase cultivated areas, and protection of surplus water from flowing into sea and holding it behind dams. Undoubtedly changing watercourse to store water or make use of it economically represents now one of the fundamental problems in the international relations, which is an ambiguous problem with regard to the nature of the problem itself.
Moreover, the increasing number of population and the needs of agriculture and industry have led to the growing need for water, which results in two contradicting matters, on the one hand states have desired and been interested in using international watercourses falling within their domain, and on the other hand they have become more concerned about any projects they may make towering over rivers lest they would have bad effects on them . As a result of this extension in making use of these waters interests of states sharing them have clashed, and it has more often than not become impossible to hold conventions to stabilise conflicting interests between them, for each state desires to make use of the part through its territory it passes paying no attention to the harm such a use may cause to the other states sharing water with them.
المقدمـة
تنشئ المجاری المائیة الدولیة رابطة طبیعیة بین الدول التی تطل علیها أو تمر فیها وتزداد أهمیتها مع مرور الزمن بفضل التقدم التکنولوجی والتقنی، وتنوع الاستعمالات الحدیثة لمیاه الأنهار الدولیة فی المجالات الصناعیة والزراعیة وتولید الطاقة الکهربائیة.
وقد أسفرت الممارسات الدولیة وقواعد القانون الدولی فی هذا المیدان عن إقرار طائفة من القواعد الموضوعیة الدولیة، التی تقید حق الدول فی التصرف والانتفاع من الموارد المائیة، للمجرى المائی لصالح حقوق الدول المشترکة الأخرى، لتقیید إرادة الدول فی استخدام میاه الأنهار الموجودة فوق إقلیمها، لمنع أو الحد من امتداد الآثار الضارة لهذه الاستخدامات إلى باقی الدول التی تشارکها الجوار فی شبکة المجرى المائی الدولی. وقد عملت لجنة القانون الدولی من عام 1970 حتى عام 1994 على إعداد قانون حول استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة، واعتمدته اللجنة فی قراءته الاولى عام 1991، وفی قراءته الثانیة عام 1994، ثم نوقشت مواده الثلاث والثلاثون من فریق عمل جامع فی تشرین الأول 1996، وآذار 1997، ومن ثم توجت تلک الجهود الدولیة باعتماده من الجمعیة العامة للأمم المتحدة بتاریخ4/5/1997 بغالبیة (103) صوت ومعارضة ثلاث دول فقط هی (ترکیا والصین وبوروندی) وامتناع (27) دولة عن التصویت، وما یمکننا ملاحظته هنا أن الدول التی لم توقع على الاتفاقیة بشکل عام هی دول المنبع التی تفضل عدم التقید بأیة قیود قانونیة تحول دون استخدامها المطلق لمیاه النهر الذی ینبع من أراضیها، ودخلت الاتفاقیة حیز التنفیذ بعد أن اکتمل فی 19/أیار/2014 العدد المطلوب من المصادقین علیها الذی بلغ (35) دولة ، وبدأ بعد ذلک تاریخ تنفیذها فی 17/آب/2014، ثم انضمت فلسطین إلى الاتفاقیة فی 2/کانون الثانی/2015 لیرتفع عدد الدول الأطراف فی الاتفاقیة إلى (36) دولة، حیث جاءت هذه الاتفاقیة بمجموعة من المبادئ التی استقرت علیها عدد من الاتفاقیات الدولیة المعنیة بشؤون الأنهار الدولیة.
ومن ثم فإنه من الخطأ القول بعدم وجود مرجعیة قانونیة واضحة تحکم مسألة تنظیم استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة، إذ توجد قواعد موضوعیة دولیة تشکل مرجعیة قانونیة وتحظى باتفاق عام سواء أکان ذلک على صعید قواعد العرف الدولی أم على صعید الاجتهادین الفقهی والقضائی، أم على صعید التنظیم الاتفاقی لها الذی توج بتفنینها جمیعها بالاتفاقیة الدولیة لعام 1997. ولإعطاء صورة واضحة عن المبادئ القانونیة التی تنظم استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة فإننا سنقسم بحثنا هذا على وفق مبحثین، یتضمن الأول التعریف بالمجاری المائیة الدولیة، ونبحث فی الثانی المبادئ القانونیة التی تحکم استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة.
أهمیة موضوع البحث:
تکمن أهمیة موضوع البحث بسبب تعاظم أهمیة المجاری المائیة الدولیة المشترکة واتساع مجالات استخدامها، ودخول المیاه بوصفها إحدى عوامل التنمیة البشریة التی تسعى دول العالم لتحقیقها وإدامتها، بعد أن شملت آفاقاً جدیدة بعیدة عن موضوع الملاحة ولاسیما فی مجالات تولید الطاقة، وإقامة السدود، وحمایة البیئة من التلوث، وهو ما انعکس بدوره على تعارض المصالح بین الدول المشترکة فی المجرى المائی الدولی حول هذه الاستخدامات وأولویاتها، وأصبح الصراع على المیاه حقیقة واقعة مع تطور دور المیاه بوصفها واحدة من موضوعات السیاسة الدولیة ذات الأهمیة الاستراتیجیة، بل أن العدید من الباحثین أطلق على القرن الحالی قرن المیاه لما تؤدیه المیاه من ادوار محوریة فی حیاة الإنسان مستقبلاً.
إشکالیة البحث:.
تکمن إشکالیة البحث فی النزاعات التی تثیرها المجاری المائیة الدولیة التی تنجم عن جملة أمور فی مقدمتها زیادة الاستهلاک، وادعاء العدید من دول منابع الأنهار الدولیة بعدم وجود مبادئ أو قواعد قانونیة یمکن أن تلزمها بمراعاة مصالح الدول الأخرى المشترکة معها فی تلک الأنهار وتصر على ممارسة حقوقها السیادیة المطلقة ولو تسبب ذلک بإلحاق الضرر بباقی دول المصاب، فکثیراً ما تتعارض مصالح الدول المشترکة فی المجرى المائی الدولی فی تطویر الانتفاع بالمیاه، أو تتعارض الاستخدامات القائمة فعلاً، فقد ترغب إحدى دول المجرى المائی فی إنشاء مشروعات لتخزین المیاه لتحصل من خلالها على حصة إضافیة من المیاه، وهذا ما ینعکس بدوره على الحصص المائیة المقررة للدول الأخرى، مما یؤدی بدوره إلى نشوء النزاع بین دول المنبع ودول المصب والدول المتشاطئة، وحل هذه النزاعات یقتضی وجود منظومة قانونیة فاعلة کشرط أساسی لإنجاح أی مساعی للوصول إلى حقوق مائیة عادلة، فغیاب الاتفاقیات الدولیة حول الحقوق المائیة هو الذی یزید من احتمالات نشوب النزاعات، فکل الدول التی ترتبط طبیعیا بمصادر مائیة خارج حدودها تکون معرضة للمشاکل المائیة، ولاسیما فی غیاب اتفاقیات تنظم مجرى هذه المیاه، فمصیرها مرتبط بالدول مالکة المنبع التی تجد نفسها فی موقع قوة، وهی لا تتوانى عن استغلال مصادر المیاه لحسابها الخاص. فالعامل المهم الذی یؤثر فی استقرار الدولة مائیاً على المستوى الدولی یکمن فی وجود اتفاقیات قانونیة بین الدول تنظم العلاقات المائیة بینها.
منهجیة البحث:
للإحاطة بموضوع البحث من جوانبه کافة کان لابد من إتباع منهج فی البحث یقتضی الإلمام به بدقة، لذا فقد اتبعنا المنهج التحلیلی الذی یقوم على تحلیل نصوص اتفاقیة الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة لبیان أهم المبادئ التی أوردتها الاتفاقیة، واعتمدنا على المنهج التطبیقی فی بیان مدى تطبیق المبادئ القانونیة التی تحکم استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة على صعید الممارسات الدولیة فی هذا الشأن، وبیان أبرز الأحکام القضائیة الدولیة التی تصدت لعدد من المنازعات القائمة بین بعض الدول بخصوص الانتفاع بمیاه المجاری المائیة الدولیة.
هیکلیة البحث:
تقوم هیکلیة البحث على ما یأتی:.
المبحث الأول: التعریف بالمجاری المائیة الدولیة.
المطلب الأول: تعریف النهر الدولی على وفق الاتجاه التقلیدی.
المطلب الثانی: تعریف النهر الدولی على وفق الاتجاه المعاصر.
المبحث الثانی: المبادئ القانونیة التی تحکم استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة.
المطلب الأول: مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول.
المطلب الثانی: مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن.
المطلب الثالث: مبدأ الالتزام العام بالتعاون.
المبحث الأول
التعریف بالمجاری المائیة الدولیة
لم یکن اصطلاح المجاری المائیة الدولیة (الأنهار الدولیة) معروفاً أو متداولاً، إذ یکمن السبب فی ذلک فی کون الأنهار الدولیة واستخداماتها لم تکن فی الماضی من الأهمیة بمکان إذ تتطلب تنظیما دولیاً أو اتفاقیاً، فقد کانت احتیاجات الناس محدودة، وکان التطور العلمی والتقنی فی مراحله الأولى، واقتصرت الاتفاقیات الدولیة التی أبرمت فی ذلک الوقت على الترکیز على فکرة تنظیم شؤون الملاحة فی الأنهار الدولیة، إلا أنه مع بدایة القرن العشرین ومع التطور العلمی الهائل فی شتى المجالات أصبح اهتمام الدول المشاطئة للنهر الدولی لا یقتصر على الملاحة، وإنما امتد إلى الاهتمام بمجالات أخرى کتولید الطاقة، وإقامة المشاریع الإروائیة، وبناء السدود لزیادة المساحات المزروعة، وحمایة الفائض من المیاه من الصرف فی البحار.
وقد تطور مفهوم النهر الدولی تطوراً واضحاً یشیر فی الوقت ذاته إلى التطور الذی أصاب أوجه استخدامات میاه الأنهار الدولیة، ویتبین ذلک باستعراض تطور مفهوم النهر الدولی، وفی ضوء ما تقدم فإننا سنتطرق إلى تعریف المجاری المائیة الدولیة على وفق مطلبین نتناول فی الأول منهما مفهوم النهر الدولی على وفق الاتجاه التقلیدی، فیما نتطرق فی المطلب الثانی إلى مفهوم النهر الدولی على وفق الاتجاه المعاصر وکما یأتی:
المطلب الأول
مفهوم النهر الدولی على وفق الاتجاه التقلیدی
یقوم الاتجاه التقلیدی فی تحدیده لمفهوم النهر الدولی على فکرتین أو عنصرین أساسیین، الأول ذو طابع سیاسی، والثانی مدى صلاحیة النهر للملاحة، فالنهر الدولی بحسب هذا الاتجاه هو الذی یشق مجراه بین دولتین متجاورتین أو یمر عبر أقالیم أکثر من دولة، فی حین لا یتجاوز النهر الوطنی حدود دولة واحدة، ویخضع لسیادة دولة واحدة بصورة کاملة.
وفضلاً عن العنصر السیاسی فی تحدید مفهوم النهر الدولی هناک عنصر ثانی لا غنى عنه ألا وهو صلاحیة النهر للملاحة، وذلک لأن صلاحیة النهر للملاحة هی التی جعلت الأنهار محطاً لأنظار الدول منذ زمن بعید، نظراً لاستخدامها فی نقل البضائع والأشخاص والتجارة الدولیة، وما یرتبه ذلک من احتمال تنازع المصالح فیما بین دول المنبع والمصب، لذا تم إبرام عدد من الاتفاقیات الدولیة المتعلقة بتنظیم الانتفاع بمیاه الأنهار الدولیة، ومن ثم فقد ظهرت أول محاولة لتعریف الأنهار الدولیة من خلال زاویة النظر للملاحة فی الوثیقة الختامیة لمؤتمر فینا عام 1815 بقولها (( الأنهار الدولیة هی الأنهار التی تصلح مجاریها للملاحة والتی تخترق فی جریانها عدة دول)) وعرفته اتفاقیة برشلونة لعام 1921 فی شأن الملاحة فی الأنهار الدولیة فی مادتها الاولى على أن ((طرق المیاه الدولیة هی کل الطرق الصالحة للملاحة بطبیعتها والتی تفصل أو تعبر عدة دول)).
وقد جاءت أحکام القضاء الدولی فی هذا الصدد مؤکدةً على هذا المعنى، إذ عرفت محکمة العدل الدولیة الدائمة النهر الدولی بأنه "المجرى المائی الصالح للملاحة والذی یصل عدة دول بالبحر..."، وهذا ما أکدته فی الحکم الصادر عنها فی قضیة نهر(الأودر) فی العاشر من أیلول 1929 والذی جاء فیه ما یأتی ((یرتبط تدویل النهر الدولی بشرطین اثنین، فیجب أولاً أن یکون مجرى الماء صالحاً للملاحة، وثانیاً یجب أن یستخدم بصورة طبیعیة کمنفذ إلى البحر لأکثر من دولة وان هذین الشرطیین هما اللذان یمیزان بین الأنهار الدولیة والوطنیة)).
ویلحظ على المفهوم التقلیدی للأنهار الدولیة بأنه یقصر مفهوم النهر الدولی على مجرى النهر وروافده وفروعه، ویخرج من ثم عن نطاق المفهوم البحیرات والقنوات والمیاه الجوفیة التابعة للنهر. ویرجع ذلک إلى أن المفهوم التقلیدی للأنهار کان ینظر إلیها بوصفها مجاری مائیة صالحة للملاحة، لأنها تمثل الاستخدام الرئیس والأولى بالرعایة، وفی الوقت ذاته کانت معظم دول العالم تعتمد على میاه الأمطار فی الری دون میاه الأنهار.
لذا کانت کل التعریفات للأنهار الدولیة منذ بدایة القرن التاسع عشر وحتى بدایة القرن العشرین تدور حول قابلیة تلک الأنهار للملاحة، ثم تراجعت فکرة الاعتماد على الأنهار الدولیة فی أغراض الملاحة فحسب بعد الحرب العالمیة الثانیة، وظهرت استخدامات أخرى للأنهار الدولیة، مما أدى إلى ظهور اتجاه فی العمل الدولی یهدف إلى جعل النهر وروافده ومصابه وحدة مائیة واحدة ذات طابع اقتصادی شامل، مما یدعو لتجاوز معیار الملاحة الضیق والنظر إلى الاستخدامات الاقتصادیة للنهر، ومن ثم لم تعد قابلیة النهر للملاحة عاملاً مهماً فی دولیته، وهذا ما عبر عنه المستشار القانونی (سوسر هول) فی المحاضرة التی ألقاها فی أکادیمیة القانون الدولی عام 1953 واعتبر فیها (( مجاری المیاه الدولیة هی : مجاری المیاه المتماسة (contiguous) أو المتاخمة (bordering) التی تکون حدوداً مباشرة بین دولتین، والمجاری المتوالیة التی تجتاز عرضانیاً (transversely) حدود عدة دول دون التمییز بین کونها قابلة للملاحة أم لا)).
ویلحظ على هذا التعریف انه قد تحرر من فکرة الارتباط بالملاحة، ومن ثم لمح إلى کون بعض الاستخدامات الأخرى أکثر أهمیة من الملاحة، ومع ذلک فإنه یمکننا القول أن المفهوم التقلیدی للأنهار الدولیة ینظر للنهر نظرة ضیقة لا تتماشى مع الوضع الراهن لاستغلال میاه الأنهار الدولیة التی تعددت على ضوء التقدم العلمی والتکنولوجی مما انعکس بدوره على تطور مفهوم النهر الدولی.
المطلب الثانی
مفهوم النهر الدولی على وفق الاتجاه المعاصر
بعد تراجع دور الملاحة وانحسار هیمنتها بوصفها عنصراُ أساسیاً فی تحدید مفهوم النهر الدولی بسبب ظهور أهمیة کبرى للأنهار الدولیة من خلال استخدامها لغایات أخرى غیر الملاحة، تغیرت النظرة التقلیدیة الموروثة منذ مؤتمر فینا لعام 1815، مما أدى إلى ظهور اتجاه فی العمل الدولی یهدف إلى جعل النهر وروافده ومصباته وحدة مائیة واحدة ذات طابع اقتصادی شامل.
لذا ظهر اصطلاح جدید لتحدید المقصود بالنهر الدولی هو (نظام المیاه الدولیة) ویقصد به "تلک المیاه التی تتصل فیما بینها فی حوض طبیعی متى امتد أی جزء من المیاه داخل دولتین أو أکثر من دولتین، ونظام المیاه الدولیة یشمل المجرى الرئیسی للمیاه، کما یشمل روافد هذا المجرى سواء أکانت هذه الروافد من الروافد الإنمائیة أو من الروافد الموزعة لها".
ومع التطور العلمی والتقنی ومواکبة العلم القانونی لهذا التطور، ظهر اصطلاح أحدث فی الفقه والعمل الدولی یرى أنه یجب أن ینظر فی تعریف النهر الدولی إلى طبیعته الهیدرولوجیة، فمیاه الأنهار لیست ثابتة فهی بطبیعتها عنصر سائل متحرک، فالمیاه التی تکون الیوم جزءً من إقلیم الدولة التی توجد فیها، قد تصب غدا فی إقلیم دولة أخرى وتصبح جزءا من إقلیمها، لذا یتضح أن بدایة تفهم عمل المجاری المائیة هی الدورة الهیدرولوجیة. والدورة الهیدرولوجیة هی الدورة المائیة التی تتألف أساساً من دخول المیاه إلى الغلاف الجوی بالتبخر، وعودتها بالتکاثف، وتساقط المطر أو الثلج.
ومن هنا یمکننا القول أن مفهوم النهر على وفق طبیعته الهیدرولوجیة قد مر بمرحلتین نوجزهما بالشکل الآتی:.
الأولى: مصطلح حوض الصرف الدولی:
یمیل جانب من الفقه الدولی مؤیداً برأی لجنة القانون الدولی إلى ضرورة التخلی عن الفکرة التقلیدیة فی تعریف النهر الدولی، ویدعو إلى أن یحل محلها فکرة الحوض النهری، أو حوض الصرف الدولی، إذ یأخذ هذا المفهوم فی اعتباره النهر وروافده بوصفهما وحدة جغرافیة ومن ثم یدخل فی مضمونه التوزیع العادل لمیاه النهر فی غیر شؤون الملاحة، وقد تصدى القانون الدولی للتطور الذی لحق باستخدامات الأنهار الدولیة وتطور علم الهیدرولیکا والجیولوجیا والبیئة وقدم تعریفاً لحوض الصرف الدولی بأنه ((مساحة جغرافیة تمتد عبر دولتین أو أکثر وتحد بواسطة روافد مائیة تکون مستجمعاً للمیاه السطحیة والجوفیة على حد سواء وتصب فی مجرى مشترک)).
وقد تبنت لجنة القانون الدولی فی دورة هلسنکی لعام 1966 هذا المفهوم فی دراستها التی أعدت خلالها مجموعة من القواعد الخاصة بالأنهار الدولیة والتی أصبحت تعرف باسم (قواعد هلسنکی حول استخدام میاه الأنهار الدولیة فی غیر شؤون الملاحة)، وعرفت المادة الثانیة من قواعد هلسنکی ((حوض الصرف الدولی)) بأنه "المساحة من الأرض التی تتقارب أو تتجمع فیه المیاه السطحیة الناتجة من هطول الأمطار أو ذوبان الثلوج عند نقطة واحدة منخفضة الارتفاع تکون عادة عند مخرج حوض التصرف، إذ تندمج المیاه المتجمعة مع کتلة مائیة أخرى، أو بحیرة، أو خزان مائی، أو خور، أو بحر أو محیط". وینظر إلى کل حوض على وفق هذا المفهوم بوصفه وحدة متکاملة ولیس على أنه مجرى مائی فیدخل فیه کل ما یمکن أن یتصل بالمجرى من میاه جوفیة أو بعض الروافد المائیة العذبة بل یمکن أن یضم الحوض أکثر من نهر، ویکفی أن یکون احد روافد النهر دولیاً کی یعد حوض النهر دولیاً.
وإذا ما أردنا تقویم مفهوم حوض الصرف الدولی فیمکننا القول أنه یحسب له اعتباره النهر وروافده بوصفهما وحدة مائیة واحدة ذات طابع اقتصادی، ولذا یدخل فی مضمونه التوزیع الجغرافی العادل للمیاه فی غیر شؤون الملاحة، ویؤدی هذا المفهوم إلى ضرورة تحقیق التعاون والتشاور فی إدارة الحوض والانتفاع به. ویمکننا رصد بعض صور التطبیقات العملیة لمفهوم حوض الصرف الدولی ومن ذلک إعلان سیاسات الوقایة والتحکم فی تلویث المیاه الصادر عن اللجنة الاقتصادیة لأوربا لعام 1980 إذ جاء فیه "یجب النظر إلى الاستخدام المعقول للموارد المائیة السطحیة والجوفیة باعتباره أهم العناصر لإدارة الموارد المائیة آخذة فی الاعتبار خصائص کل حوض صرف"، کما تبنته اللجنة الاقتصادیة لأفریقیا فی الاجتماع الذی عقدته فی أدیس أبابا عام 1988 والخاص بتنمیة أحواض الأنهار والبحیرات الدولیة بوجه عام والقارة الأفریقیة بوجه خاص، إذ جاء بإحدى التوصیات الصادرة عن الاجتماع ما یلی "تقر الحکومات بأن حوض الصرف یقدم أفضل بیئة منتجة، من شأنها تحقیق التعاون بین الدول الحوضیة لتحقیق التنمیة المتکاملة"، ومع ذلک فقد وجهت بعض الانتقادات لفکرة حوض الصرف الدولی، ومن أبرزها بأنه ذو طبیعة نظریة ولا یتوافق مع الجانب العملی الذی تتطلبه قواعد القانون الدولی للأنهار، کما أنه فی الوقت ذاته یغض النظر عن الخصائص التی تمیز کل نهر دولی على حده، فضلاً عن ارتکاز المصطلح المذکور على المساحة الجغرافیة حیث یعتبرها من احد المعاییر الممیزة له رغم أنه من المفروض أن ینصب الاهتمام على المجرى المائی ذاته.
الثانیة: مصطلح شبکة المجاری المائیة الدولیة
تبنت لجنة القانون الدولی عام 1980 مفهوم شبکة المجاری المائیة الدولیة، فی ضوء حقیقة واقعیة وهی أن استخدامات میاه الأنهار الدولیة بمعرفة بعض الدول المشاطئة فی کثیر من الأحیان تؤثر على استخدام بعض المشاطئة الأخرى لهذه المیاه فی أجزاء أخرى من تلک الأنهار، وذلک عن طریق اتصال معظم المجاری الرئیسة للأنهار بالمیاه الجوفیة سواء عن طریق تسریب هذه المیاه من المجرى الرئیس أحیاناً وتغذیة ذلک المجرى أحیاناً أخرى. ومن ثم أخذت اللجنة المذکورة بهذا المفهوم للدلالة على المفهوم المعاصر للأنهار الدولیة، ولوصف هذا المفهوم جاء بمذکرة لجنة القانون الدولی أن شبکة المجاری المائیة الدولیة تتألف من عناصر هیدروغرافیة مثل الأنهار والبحیرات والقنوات والمیاه الجوفیة التی تشکل بحکم علاقتها الطبیعیة کلاً متکاملاً، وان أی استخدام یؤثر على المیاه فی جزء من الشبکة یمکن أن یؤثر على المیاه فی جزء آخر، وشبکة المجاری المائیة الدولیة هی شبکة مجاری مائیة تقع العناصر المکونة لها فی دولتین أو أکثر.
وقد أخذت اتفاقیة الأمم المتحدة بشأن استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة لعام 1997 بمفهوم شبکة المجاری المائیة الدولیة فی المادة الثانیة منها، على الرغم من أن هذا المصطلح لیس جدیداً إذ تمت الإشارة إلیه فی بعض الاتفاقیات الدولیة خلال القرن العشرین ومنها معاهدة فرسای لعام 1919 التی احتوت على العدید من الإشارات إلى (الشبکات النهریة) ومن ذلک المادة (331) التی ذکرت الأجزاء الصالحة للملاحة من هذه الشبکات النهریة، والمادة (262) من ذات المعاهدة التی أشارت إلى شبکة نهر الراین.
ویقصد بالنهر الدولی على وفق هذا المفهوم بأنه "شبکة المیاه السطحیة والجوفیة التی تشکل بحکم علاقتها الطبیعیة ببعضها البعض کلاً واحداً وتتدفق صوب نقطة وصول مشترکة". وعرفت الفقرة ب/م2 المجرى المائی الدولی بأنه "أی مجرى مائی تقع أجزاءه فی دول مختلفة".
ویعکس هذا المفهوم للمجرى المائی الدولی التطور فی أوجه استخدام میاه النهر الدولی، فنجد الاتجاه الأول الذی کان ینظر إلى النهر الدولی بأنه النهر الصالح للملاحة، ثم نجد مفهوم حوض النهر الدولی والذی یأخذ فی اعتباره النهر ورافده کوحدة جغرافیة وبالتالی یأخذ فی مضمونه التوزیع العادل لمیاه النهر فی غیر الشؤون الملاحیة، ثم یأتی هذا المفهوم المعاصر الذی ینظر للنهر کشبکة میاه دولیة للدلالة على المفهوم المعاصر للأنهار الدولیة کمورد طبیعی مشترک وما یتطلبه ذلک من ضرورة التعاون والتشاور بین دول الشبکة بصور أکثر ایجابیة لتحقیق أکبر فائدة منه. وهذا المفهوم للنهر الدولی یقوم على الواقع الهیدرولوجی له حیث یعد النهر شبکة من العناصر الهیدروجغرافیة التی تتدفق المیاه من خلالها فوق سطح الأرض وتحته على حد سواء، وهذه العناصر تشمل الأنهار والبحیرات وطبقات المیاه الجوفیة والمسطحات الجلیدیة والخزانات والقنوات، وهکذا فإن المیاه قد تتسرب من المجرى إلى باطن الأرض تحت قاع المجرى وتنتشر وراء ضفاف المجرى وقد تعود إلى الظهور فی المجرى، وتتدفق نحو بحیرة تصب بدورها فی نهر ثم تحول إلى قناة وتنقل إلى خزان، وهکذا...الخ. وهذا التعریف لا یتفق مع الطبیعة الهیدرولوجیة فقط، وإنما یدعو إلى انتباه الدول إلى أهمیة العلاقة المتشابکة بین جمیع أجزاء الشبکة من میاه سطحیة ومیاه جوفیة والتی تشکل المجرى المائی الدولی، حیث یجب أن یکون واضحاً أن أی تأثیر فی جزء من الشبکة سوف یؤثر على باقی أجزاء الشبکة.
ویدخل فی عداد الشبکة ((المیاه الجوفیة الطلیقة)) وذلک بحکم ترابطها واتصالها مع میاه الأنهار والبحیرات وکونها فی حرکة مستمرة شأنها شأن المیاه السطحیة، أما ((المیاه الجوفیة المحصورة)) فلا تدخل فی عداد الشبکة وذلک لعدم وجود علاقة طبیعیة بینها وبین المیاه السطحیة، ولأنها بالتالی لیست جزءاً من وحدة متکاملة. کما یدخل فی عداد الشبکة القنوات الصناعیة، فلیس من المهم أن یکون جزء من الشبکة طبیعیاً أم صناعیاً طالما تکوُن مع الشبکة وحدة متکاملة، کذلک یدخل فی عداد الشبکة الأشغال الهیدرولیکیة لضبط تدفق المیاه فی المجرى المائی على الأقل بقدر ما تتطلبه سلامتها وأمنها الذی یؤثر على تدفق المیاه.
ویمکننا القول أن الأخذ بمفهوم شبکة المجاری المائیة الدولیة على هذا النحو یمثل تلبیة واستجابة للحقائق الهیدروجغرافیة لعدید من شبکات المیاه العذبة التی توجد عناصرها فی أکثر من دولة واحدة، والأخذ بهذا المفهوم أیضاً ینشئ التزاماً على الدولة التی تشارک فی الشبکة وهو أنه یمتنع علیها القیام بأی عمل من شأنه الإضرار بالآخرین أیاً کانت صورة الاستخدام المضرة، سواء بسحب کمیات میاه مؤثرة أو بتلویث المیاه أو تغییر طبیعة المیاه بصورة قد تمنع الاستخدام الأمثل للمیاه فی الدول الأخرى المشارکة.
ونجد بعد بیان هذا المفهوم لشبکة المجاری المائیة الدولیة أنه یتلافى النقد الرئیس الذی وجه لفکرة حوض الصرف الدولی، إذ یصدر مفهوم حوض الصرف الدولی عن رؤیة جغرافیة ضیقة والأخذ به قد یسبب مشکلات عملیة عند نقل المیاه لاستخدامها خارج الحوض فی حدود الحصة المسموح بها، أما شبکة المجاری المائیة الدولیة فهو یصدر عن حقیقة هیدروجغرافیة تبنى على طبیعة اتصال شبکة المیاه بعضها بالبعض الآخر مع ما یرتبه ذلک من التأثیر والتأثر الطبیعی بین أجزائها نتیجة استعمال أی جزء منها.
ومع ذلک فهناک من یرى أن شمول التعریف للمیاه السطحیة والجوفیة التی تنساب باتجاه واحد سیؤدی إلى إثارة عدد من الإشکالیات بالنسبة لبعض انهار الشرق الأوسط ویمکننا للتدلیل على ذلک أن نشیر إلى مسألتین:
الاولى: مسألة میاه نهر دجلة التی تسهم إیران فی قسم من میاهه، على الرغم من أنها لا تطل على النهر، لکنها تغذیه بعدد من الروافد الآتیة منها وفی ذلک محاولة لزج إیران فی الصراع حول میاه نهری دجلة والفرات.
الثانیة: مسألة نهر اللیطانی، فقد زعم جون کولارز الخبیر فی شؤون المیاه لمنطقة الشرق الأوسط أنه توجد إثباتات جیولوجیة قویة تفید بأن القسم الأسفل من نهر اللیطانی یغذی میاه نهر الأردن ویضیف هذا الباحث على أن قیاسات هطول المطر وتصریف النهر تدل على أن هناک کمیة من المیاه مقدارها (100) ملیون متر مکعب تختفی فی القسم الأسفل منه سنویاً ومن الظاهر أن هذه المیاه تغذی خزاناً جیولوجیاً مقعراً، یمکن أن یغذی نهر الدان ونهر الحاصبانی ومن ثم نهر الأردن، ویصبح الأمر أکثر تعقیداً إذا أدخلنا فی حساباتنا نص المادة (2/ج) من اتفاقیة 1997 الذی یجعل من دولة تحتوی على جزء من المجرى المائی الدولی دولة من دول المجرى.
وهکذا تستطیع إسرائیل أن تعقلن ما لا یقبله العقل وهکذا یصبح نهر اللیطانی نهراً دولیاً زوراً وبهتاناً لأن حوضه یغذی على وفق هذه المزاعم حوض نهر الأردن بمیاهه الجوفیة ومن ثم تصبح المطالبة الإسرائیلیة بحصتها فی موارد نهر اللیطانی المائیة، مستندة إلى أحکام القانون الدولی والمبادئ المعمول بها فی هذا المجال، فتحقق إسرائیل حلماً طالما راودها وهو جر القسم الأکبر من میاه نهر اللیطانی إلى إسرائیل.
لقد لاقى مفهوم شبکة المجاری المائیة الدولیة تأییداً وبعض المعارضة المحدودة من بعض الدول، فقد واجه معارضة محدودة تتمثل فی أن الأخذ به یشکل انتهاکاً لسیادة الدول وتدخل فی حق کل دولة فی استخدام مواردها المائیة على وفق أولویاتها ومصالحها الوطنیة، وهذا ما أشار إلیه مندوب بلجیکا بقوله أن الدولة التی تملک ثروات طبیعیة لا تستطیع التنازل عنها ولو جزئیاً إلى دولة مجاورة لا تملک مثل هذه الثروات.
کما أعلن رئیس الوزراء الترکی سلیمان دیمیریل عام 1994 فی أثناء وضع حجر الأساس لسد أتاتورک بأن نهری دجلة والفرات ینبعان من الأراضی الترکیة وأنهما ملک لترکیا، وأن ترکیا تستطیع التصرف فی میاههما کما تشاء کما تقوم سوریا والعراق باستغلال أبارهما النفطیة، على اعتبار أن میاه النهر مثل الثروات الطبیعیة التی تملک الدول علیها سیادة دائمة، وشبه میاه نهر الفرات بالبترول العربی الذی تنفرد الدول النفطیة باستغلاله من دون قیود، ودافع عن موقف ترکیا حین منعت میاه نهر الفرات لمدة (33) یوما بدایة من شباط 1990 بداعی حاجة سدود أتاتورک إلى هذه المیاه، مما الحق أضراراً کبیرة وفادحة فی العراق وسوریا وهما الدولتان المجاورتان لترکیا ویتشارکان معها فی نهر الفرات، ویؤکد المسئولون الأتراک أن نهری دجلة والفرات هما نهران ترکیان عابران للحدود، وقد ظهر هذا المفهوم الترکی فی آذار 1998 خلال الاجتماعات التحضیریة للدول المشارکة فی الدورة الرابعة والعشرین للشرق الأدنى الذی تنظمه منظمة الأغذیة والزراعة.
ویتضح لنا أن هذه الاعتراضات لا تأخذ فی الحسبان التطورات التی طرأت على مفهوم السیادة، أی أنها لا تأخذ فی اعتبارها ضرورة مواکبة قواعد القانون الدولی للتطور التقنی المعاصر فی استغلال میاه الأنهار الدولیة للوصول إلى الدرجة القصوى من إمکانیة استغلال میاه الأنهار الدولیة، فضلاً عن الاتجاهات الفقهیة المتزایدة التی تدعو إلى تقلیص فکرة السیادة الوطنیة أمام المشکلات الدولیة التی اصطبغت بسمة العولمة، وأن مفهوم شبکة المجاری یعد هو المفهوم الأمثل الذی یحقق ذلک، ولذا قوبل بالاستحسان فی اللجنة السادسة التابعة للأمم المتحدة، فعلى سبیل المثال ذکر ممثل یوغسلافیا فی اللجنة "إن التعبیر لیس مقبولاً فقط ولکنه مناسب بغرض تقنین قانون المجاری المائیة الدولیة، وذکر ممثل ایطالیا أن مفهوم الشبکة متطور ویعد أفضل من التعریفات الأخرى للنهر الدولی".
وفی ضوء ما تقدم یمکننا القول أن القانون الدولی المعاصر قد توسع فی مفهوم النهر الدولی الذی یتاخم الحدود الدولیة أو یخترقها، ولم یعد قاصراً على مجرى النهر، أو الحوض النهری بل أصبح یشمل شبکة المیاه الدولیة التی تغذی المجرى الرئیس من فوق سطح الأرض متمثلة فی البحیرات والأنهار الدولیة والأنهار الوطنیة التی تصب فی المجرى الرئیس بطریق مباشرة، کذلک یتفق هذا المفهوم الحدیث للمیاه الدولیة مع التطور العلمی والفنی الذی لحق بالمجاری المائیة الدولیة وبطرق استغلالها منذ بدایة القرن العشرین بحیث لم یعد الأمر یقتصر على الملاحة والزراعة، بل امتد الاهتمام بمجالات أخرى أکثر تطورا مثل تولید الطاقة الکهربائیة، إقامة المشاریع والسدود، والعمل على زیادة الرقعة الزراعیة...الخ.
ویتضح لنا بعد العرض السابق، أنه لا یتمسک بالمفهوم الضیق للأنهار الدولیة إلا الدول التی یقع فی أقالیمها المجرى الأعلى من النهر الدولی، فهی تنظر إلى مصلحتها البحتة بغض النظر عن حقوق الدول الأخرى التی تشارکها فی هذا النهر، أما القول بأن الأخذ بالمفهوم الحدیث للأنهار الدولیة یعد تدخلاً فی الشؤون الداخلیة للدول الأخرى فیرد علیه أن مثل هذا القول لا یتفق مع المفهوم الحدیث لفکرة السیادة، ولیس صحیحاً تشبیه میاه الأنهار بالثروات الطبیعیة ذلک لأن لو صح أن دولة المنبع تستطیع التصرف فی میاه النهر من دون الإقرار بمصالح وحقوق الدول الأخرى لتهددت مصالح المجتمع الدولی وهذا ما لا یتفق مع قواعد حسن الجوار التی یفرضها القانون الدولی فیما بین الدول المتجاورة. وتأسیساً على ما تقدم فإننا نجد أنه لا یجب النظر للمیاه من منظور ضیق یراعی مصالح الدولة الذاتیة على حساب باقی دول المجرى المائی الواحد، بل یجب النظر إلیها من منظور دولی واسع یعدها مورداً طبیعیاً مشترکاً یجب أن تتعاون جمیع دول المجرى المائی الواحد فی المحافظة علیه وتنمیته بالوسائل کافة الممکنة والتحلی بحسن نیة فی استخدام میاه ذلک المجرى.
المبحث الثانی
المبادئ القانونیة التی تحکم استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة
أولت الأمم المتحدة موضوع الأنهار الدولیة واستخدامها فی غیر شؤون الملاحة اهتماماً فائقاً، ویأتی ذلک نتیجة لإدراکها للعواقب الوخیمة التی یمکن أن تنجم عن الصراع بین الدول النهریة للحصول على میاه الأنهار، لذا أوصت الجمعیة العامة للأمم المتحدة لجنة القانون الدولی التابعة لها أن تضع على جدول أعمالها موضوع استخدام المجاری المائیة الدولیة فی غیر شؤون الملاحة وذلک بموجب قرارها المرقم 669/25 الصادر بتاریخ 28/ کانون الأول 1970، وقد قامت اللجنة بإدراج هذا الموضوع على جدول أعمالها اعتبارا من دورتها الثالثة والعشرین عام 1971. وفی الحادی والعشرین من أیار 1997 اعتمدت الجمعیة العامة للأمم المتحدة مشروع اتفاقیة قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی غیر شؤون الملاحة، وقد تضمنت هذه الاتفاقیة مبادئ عدة، وتکاد أن تکون هذه المبادئ لا تخرج عن کونها مبادئ عرفیة فی مجال استخدام المجاری المائیة الدولیة، ترسخت فی عرف الدول من خلال ممارستها الدولیة، وتمثل ذلک فی مواقف محددة لبعض دول تلک المجاری المشترکة تجاه تصرفات بعض الدول المشترکة معها، أو من خلال ما أبرمته من اتفاقیات خاصة بینها فی هذا المجال، و أکدت هذه المبادئ عدداً من الأحکام القضائیة سواء على المستوى الدولی أو الداخلی، وانطلاقاً مما تقدم فإننا سنتناول المبادئ القانونیة الناظمة لاستخدام میاه المجاری المائیة الدولیة على وفق ثلاثة مطالب، نبحث فی المطلب الأول منها مبدأ الانتفاع والمشارکة المنصفان والمعقولان، فیما نتطرق فی المطلب الثانی إلى مبدأ الالتزام بعدم التسبب بضرر ذی شأن، أما المطلب الثالث فسنخصصه لبحث مبدأ الالتزام العام بالتعاون وکما یأتی:
المطلب الأول
مبدأ الانتفاع والمشارکة المنصفان والمعقولان
یعد مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول بمیاه الأنهار الدولیة واحداً من الرکائز الأساسیة للقانون الدولی العرفی، وقد حاولت رابطة القانون الدولی تقنینه من خلال ما یعرف بقواعد هلسنکی لعام 1966، إذ هذا المبدأ واحداً من أهم المبادئ القانونیة التی یستند إلیها القضاء للفصل فی المنازعات الدولیة التی یمکن أن تثار نتیجة لتعارض الاستخدامات للنهر الدولی، وفی ضوء ما تقدم فإننا سنتناول مبدأ الانتفاع والمشارکة المنصفان والمعقولان على ضوء ثلاثة فروع على وفق ما یأتی:.
الفرع الأول
مفهوم مبدأ الانتفاع والمشارکة المنصفان والمعقولان
یعد مبدأ الانتفاع والمشارکة المنصفان والمعقولان من أهم المبادئ الحاکمة والمنظمة للاستخدامات القانونیة للمیاه على المستوى الدولی، ویقصد بهذا المبدأ أن یکون لکل دولة من دول المجرى المائی الدولی حقاً فی نطاق إقلیمها فی حصة أو تقاسم منصف ومعقول للمکاسب التی یوفرها هذا المجرى وغایة التقاسم المنصف هی تأمین أقصى فوائد وأقل الأضرار من استعمالات المیاه لکل دولة من دول المجرى.
فکل دولة من دول المجرى المائی لها حق الانتفاع بالتساوی مع حقوق بقیة الأطراف على نحو معقول ومفید، وحق الانتفاع هو حق تتساوى فیه الدول المشترکة فی المجرى المائی، ولکن هذا الحق لا یعنی المساواة فی حصص المیاه، فالعدالة فی هذا السیاق تنطوی على فکرة التناسب، فالحصة والانتفاع یجب أن یکونا متناسبین مع عدد سکان الدولة المعنیة ومع احتیاجاتهم الاجتماعیة والاقتصادیة، بما یتماشى مع حقوق الأطراف الأخرى المشترکة فی المجرى المائی.
ویعنی تعبیر ((الاستخدام المعقول)) استغلال المیاه بطریقة تحافظ على المورد وتصونه لمنفعة الأجیال الحاضرة والمستقبلیة عن طریق التخطیط والإدارة بعنایة ودقة، ومن ثم فإن کل دولة من دول المجرى المائی الدولی لها الحق بتقسیم منصف للفوائد المقدمة من قبل مجرى الماء، وجوهر القسمة المنصفة هو تامین الفائدة القصوى من استخدامات المیاه لکل دولة مع اقل ضرر لکل منها.
وقد لعبت الهیئات واللجان العلمیة الدولیة دورا فی إبراز وتحدید الانتفاع المنصف والمعقول من خلال الدراسات والأعمال الفقهیة التی قامت بها، فقد نصت المادة الثانیة من قرار مجمع القانون الدولی فی دورته المنعقدة عام 1961 فی سالزبورج والمعنیة بالمبادئ الناظمة للاستخدامات غیر الملاحیة لمیاه الأنهار الدولیة على انه من حق کل دولة استخدام المیاه العابرة للحدود على وفق القواعد التی یحددها القانون الدولی ویتحدد هذا الحق بما للدول الأخرى المشترکة فی ذات المجرى من حق فی استخدامه بصورة منطقیة ومنصفة فی کل المزایا الناتجة عن استخدام هذا المجرى، وفی حالة الخلاف بین الدول المشترکة على استخدام المورد المشترک فنجد أن المادة الثالثة أوصت تلک الدول باللجوء إلى التسویة على أساس من الإنصاف ومراعاة الحاجات المائیة للدول المعنیة، ویتبین لنا أن مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول یتمثل بما ورد فی نص المادة الثانیة التی ربطت بین حق دولة مشترکة فی استخدام مجرى مائی وحق دولة أخرى فی استخدام میاه ذات المجرى على وفق مبادئ القانون الدولی وقواعده المقررة فی هذا الصدد.
وقد حاولت رابطة القانون الدولی تقنین مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول فیما یعرف بقواعد هلسنکی عام 1966 عندما نصت علیه المادة الرابعة من تلک القواعد بقولها "لکل دولة الحق داخل حدودها الإقلیمیة فی نصیب منصف ومعقول من الاستخدامات المفیدة لمیاه حوض الصرف الدولی". ثم عدلت رابطة القانون الدولی من تعریفها لمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول الوارد بقواعد هلسنکی بنصها فی المادة (12) من قواعد برلین على أن الدول المشترکة فی حوض صرف واحد، تدیر میاه الحوض بطریقة منصفة ومعقولة مع مراعاة القیود والواجبات التی یفرضها الالتزام بعدم إحداث ضرر جوهری، فضلاً عن قیام هذه الدولة بتنمیة واستخدام میاه المجرى المائی بقصد تحقیق الاستخدام الرشید والمستدام، مع أخذها فی الاعتبار مصالح الدول المشترکة معها فی المجرى ذاته.
ویمکننا الاستشهاد بالتوصیة رقم (51) التی تبناها مؤتمر منظمة الأمم المتحدة حول البیئة والمنعقد فی 16 حزیران 1972 فی استوکهولم والتی نصت على ضرورة الاقتسام المنصف للمزایا الناتجة عن المناطق المائیة المشترکة بین عدة دول. ویتضح لنا أن قواعد برلین أدرجت عبارات جدیدة على النحو الوارد فی قواعد هلسنکی وان من شأنها توضیح وإظهار مفهوم الاستخدام المنصف، فی الوقت ذاته أدرجت قواعد برلین لفظ (إدارة) محل لفظ (یحق) کما تم إضافة عبارة (آخذة) واجب العنایة فی عدم إلحاق ضرر جوهری بدولة مشترکة فی المجرى المائی.
ویستند مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول إلى مبدأ المساواة فی السیادة بین دول المجرى المائی، وهو ما ینتج عنه أن کل دولة من دول المجرى المائی لها فی استخدام المجرى المائی، متعادلة نوعیا مع حقوق دول المجرى المائی الأخرى ومترابطة معها، ولا یعنی أن مبدأ المساواة فی الحقوق أن لکل دولة من دول المجرى الحق فی حصة مائیة متساویة من میاه المجرى المشترک. ولا یعنی أن المیاه ذاتها تنقسم إلى حصص متساویة، بل یعنی أن لکل دولة الحق فی استخدام میاه المجرى المائی بطریقة منصفة، فالمساواة المقصودة هنا لیست مساواة فعلیة ولکنها مساواة منصفة ومعقولة وتتوقف على اعتبارات عدیدة یتم أخذها بنظر الاعتبار عند تقریر المصالح المتنازعة فیما بین الدول النهریة.
وفی ضوء ما تقدم یمکننا القول أن مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لمیاه المجرى المائی یعنی تقاسم المیاه بطریقة منصفة بین دول الاستخدام، ومن ثم فلا یجوز لدولة بعینها أن تنفرد باستخدام میاه المجرى المائی دون باقی الدول الأخرى المشترکة معها فی مورد طبیعی واحد إلا إذا وجد اتفاق یخولها هذا الحق. ولا یعنی هذا المبدأ أبداً أن کل دولة نهریة تأخذ نصیباً مساویاً بالتمام والکمال لنصیب غیرها من الدول الأخرى المعنیة بالاستخدام والمزایا المستمدة من النهر، بل إن المبدأ یعنی فقط أن لکل دولة الحق فی استخدام میاه المجرى المائی والإفادة منه على منصف ومعقول، حتى ولو کانت هناک دول أخرى تأخذ حصة اکبر أو أقل من حصتها فی المیاه، فالدولة الأکبر من حیث عدد السکان إذا أخذت کمیة أکبر لا یعنی أبدا أنها لم تحترم مبدأ المساواة.
الفرع الثانی
موقف اتفاقیة الأمم المتحدة من مبدأ الانتفاع والمشارکة المنصفان والعادلان
إن الحصول على أفضل انتفاع وفائدة هو الهدف الذی یجب أن تسعى إلیه دول المجرى لدى استخدام المجرى المائی الدولی، والحصول على أفضل انتفاع وفوائد لا یعنی تحقیق الاستخدام الأقصى أو الاستخدام الأکثر فعالیة من الوجهة التکنولوجیة، أو الاستخدام الأکثر قیمة من الوجهة النقدیة، و لا یدل حتماً على أن الدولة القادرة على استخدام المجرى المائی على الوجه الأکثر فعالیة_ سواء من الناحیة الاقتصادیة أو فیما یتعلق بتجنب الهدر أو معنى آخر_ ینبغی أن یکون لها ادعاء قوی فی استخدام المجرى المائی، بل یدل على الحصول على أقصى المنافع الممکنة لدول المجرى المائی جمیعها، وتحقیق اکبر قدر ممکن للوفاء باحتیاجاتها جمیعاً، وفی الوقت ذاته تخفیف الضرر أو الاحتیاجات غیر الملباة لکل منها إلى أدنى حد، وبناءً على ذلک فلیس لدولة أن تشکو من أنها لم تحقق أقصى انتفاع إلى الحد الذی لا یصطدم بمصالح دول المجرى الأخرى أو مع مقتضیات حمایة المجرى.
وقد جاءت المادة الخامسة من قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة تحت عنوان((الانتفاع والمشارکة المنصفان والمعقولان)) وقد نصت على ما یأتی:
"1. تنتفع دول المجرى المائی، کل فی إقلیمها، بالمجرى المائی الدولی، بطریقة منصفة ومعقولة، وبصورة خاصة تستخدم هذه الدول المجرى المائی وتنمیه بغیة الانتفاع به بصورة مثلى ومستدیمة والحصول على فوائد منه، مع مراعاة مصالح دول المجرى المائی المعنیة، على نحو یتفق مع توفیر الحمایة الکافیة للمجرى المائی.
2. تشارک دول المجرى المائی فی استخدام المجرى المائی الدولی وتنمیته وحمایته بطریقة منصفة ومعقولة، وتشمل هذه المشارکة حق الانتفاع بالمجرى المائی وواجب التعاون فی حمایته وتنمیته على النحو النصوص علیه فی الاتفاقیة".
ولذا تضمنت المادة الخامسة النص على التزام دول المجرى المائی بالانتفاع به بطریقة منصفة ومعقولة، وتنمیته للحصول على امثل انتفاع، وقررت مشارکة دول المجرى المائی فی استخدامه، وتنمیته، وحمایته، وتشمل هذه المشارکة حق الانتفاع بالمجرى المائی وواجب التعاون على حمایته وتنمیته، وقد کانت مسألة المشارکة المنصفة، من بین أکثر الموضوعات حرجا فی مناقشات لجنة القانون الدولی، لتباین مواقف الدول التی تقع عند منبع النهر الدولی عن تلک التی تقع فی أسفل المجرى المائی أو وسطه، إذ قیل أن لکل دولة مشاطئة حق المشارکة المنصفة والمعقولة لمیاه النهر المشترک داخل إقلیمها.
ویرى عدد من الفقهاء أن هناک العدید من النقاط التی یمکن تناولها فیما یتعلق بصیاغة المادة الخامسة، فإذا کان المتفاوضون قد حرصوا على أن یکون مشروع المواد المقدم من قبل لجنة القانون الدولی کل متکامل بحیث یعکس التقدم فی القانون الدولی المعاصر للبیئة، وإذا کانت المادة الخامسة تعتبر تطبیقا لهذا، فقد أدخلت مجموعة العمل فضلاً عن نص هذه المادة بإضافة عبارة ((الأمثل والمستمر)) فی الفقرة الاولى وهذه الإضافة لها أثر فی إصباغ هذه الطبیعة بجعل هدف الاستخدام المنصف والمعقول هو تحقیق ((الانتفاع الأمثل والمستمر)) للمجرى المائی الدولی والاستفادة منه.
وعلى أیة حال فإن تحقیق هذا الهدف یجب أن یتم مع "مع مراعاة مصالح دول المجرى على نحو یتفق مع توفیر الحمایة الکافیة للمجرى المائی" وهذه العبارة الأخیرة تم إضافتها بمعرفة مجموعة العمل وبرى البعض انه لم یکن هناک حاجة لها، ویتطلب مفهوم الاستخدام المنصف والمعقول الأخذ فی الاعتبار مصلحة باقی الدول المشترکة فی المجرى المائی.
ویلحظ أن تعبیر ((امثل انتفاع)) الوارد فی نص الفقرة الاولى من المادة الخامسة هو لمصلحة دول الحوض جمیعها ولیس لمصلحة دولة واحدة حتى لا تطلق بعض الدول العنان لنفسها لتفسیره بشکل یضر بالدول الأخرى، فهو یدل على الحصول أقصى المنافع الممکنة لجمیع دول المجرى المائی، وتحقیق اکبر قدر ممکن من الإیفاء باحتیاجاتها جمیعاً وفی الوقت ذاته تخفیف الضرر أو الاحتیاجات غیر الملباة لکل منها إلى أدنى حد. وتؤکد العبارة الأخیرة من الفقرة الاولى، أن الجهود المبذولة للحصول على أفضل انتفاع وفوائد یجب أن تتم (بما یتفق مع مقتضیات توفیر الحمایة الکافیة) للمجرى المائی الدولی، ولا تشمل الحمایة التدابیر المتعلقة بالصیانة والأمن فحسب، بل تمتد لتشمل أیضا تدابیر المراقبة بالمعنى التقانی والهیدرولوجی للکلمة، کتدابیر الضبط لتنظیم التدفق، وضبط الفیضانات، وتشغیل الخزانات ومکافحة التلوث، والتخفیف من شدة الجفاف. ثم جاءت الفقرة الثانیة لخلق توازن بین حقوق الدول المتشاطئة فی أعلى وأسفل مجرى النهر، لتنص على مفهوم المشارکة المنصفة الذی ینبع من قاعدة الانتفاع المنصف، المنصوص علها فی الفقرة الاولى ویرتبط بها، ویستتبع الحصول على أفضل انتفاع وجود التعاون بین دول المجرى المائی، من خلال مشارکتها فی حمایة وتنمیة المجرى المائی الدولی.
لذا فإن تسعیر المیاه الدولیة وبیعها مخالف لأحکام الاستخدام المنصف والمعقول، إذ یفترض تسعیر المیاه الدولیة وبیعها حق التملک الکامل لهذه المیاه من الدولة البائعة، لأنه من البدهی أن البائع لا یستطیع حسب القانون بیع مالا یملک، والتملک یجد تعبیراً له فی نظریة السیادة المطلقة على المیاه التی تمر فی أراضی دولة ما، إذ تستطیع هذه الدولة أن تتصرف بمیاهها کما تشاء سواء بتخزینها أو تحویلها من مجراها الطبیعی أو حتى بیعها.
لکن لا تصل نظریة السیادة المطلقة فی الواقع إلى درجة طلب ثمن المیاه الدولیة التی تذهب إلى الدولة المجاورة للدولة التی تأخذ بهذه النظریة، بل کانت تکتفی بالقول بأن النهر الذی ینبع منها هو نهر وطنی عابر للحدود ولیس نهرا دولیا، ومن ثم فقد أثبتت تقاریر لجنة القانون الدولی المختلفة، أن لجمیع الدول المشاطئة لمجرى مائی دولی، حق استخدام میاه المجرى بشکل منصف ومعقول ومن الطبیعی أنه لا یترتب على هذا الاستخدام دفع أی مبلغ ثمنا للمیاه المستخدمة. و یلحظ على نص الفقرة الاولى من المادة الخامسة أنها أوردت لفظ ((التنمیة المستدامة)) ویرجع ذلک إلى الأمام الاهتمام الدولی الکبیر بتحقیق الإنصاف بین الأجیال الحاضرة والمستقبلیة فی توزیع الموارد المائیة، إذ تؤدی التنمیة المستدامة دورا کبیرا فی القانون الدولی للأنهار الدولیة لان هذا القانون لا یعنى فقط بتنظیم استخدامات المیاه بین دول المجرى المائی فی وضعها الحالی فحسب بل امتدت نظرة خبرائه إلى المدى البعید للوصول للاستخدام الأمثل والتفکیر فی الاستخدامات المستقبلیة للمیاه.
وفی الوقت الذی یکاد یجمع الفقه على احترام مبدأ الاستخدام المنصف لمیاه المجاری المیاه الدولیة، فإنه فی الوقت ذاته یکاد یجمع على صعوبة وضع قواعد جامدة لتضع أسس الانتفاع العادل بمیاه تلک المجاری، فی غیبة اتفاقیات دولیة أو عرف یحکم الانتفاع بها، فلا یوجد إجماع _حتى الآن_ على الأسس التی یجب أن تراعى لتحقیق مبدأ الاستخدام المنصف لتلک المیاه، إذ یتصل الانتفاع بمیاه المجاری المائیة بعدد من العوامل التی ترتبط وهی فی مجملها عوامل شدیدة الحساسیة إذا ما نظر المرء إلیها من خلال الحاجات الحیاتیة للشعوب التی تعتمد بشکل أساس على تلک المیاه غیر أن ذلک لم یمنع من وجود محاولات فقهیة جادة، سواء کانت جماعیة أو فردیة، لوضع قواعد عامة أو إرشادیة تسترشد بها الدول عند وضع اتفاقیة دولیة تحکم الانتفاع بمیاه المجرى المائی انتفاعا عادلا، ویمکن للقاضی الدولی الاسترشاد بها فی تقریر ما یعد انتفاعاً عادلاً، وإذا کانت قواعد هلسنکی تمثل جهداً فقهیاً یحظى باحترام المجتمع الدولی المعاصر فقد أشارت المادة الخامسة منها على سبیل المثال ولیس الحصر إلى بعض العوامل ذات الصلة التی یجب مراعاتها لتحقیق الاستخدام المنصف.
وفی هذا السیاق أشارت المادة السادسة من قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة إلى مجموعة من العوامل التی تتصل بمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول فجاء بنصها ما یأتی:
"1. یتطلب الانتفاع بمجرى مائی دولی بطریقة منصفة ومعقولة بالمعنى المقصود فی المادة الخامسة، أخذ جمیع العوامل والظروف ذات الصلة فی الاعتبار بما فی ذلک ما یلی:
- العوامل الجغرافیة الهیدروغرافیة والهیدرولوجیة والمناخیة والایکولوجیة والعوامل الأخرى التی لها صفة طبیعیة.
- الحاجات الاجتماعیة والاقتصادیة لدول المجرى المائی المعنیة.
- السکان الذین یعتمدون على المجرى المائی فی کل دولة من دول المجرى المائی.
- آثار استخدام أو استخدامات المجرى المائی فی إحدى دول المجرى المائی على غیرها من دول المجرى المائی.
- الاستخدامات القائمة والمحتملة للمجرى المائی.
- حفظ الموارد المائیة للمجرى المائی وحمایتها وتنمیتها والاقتصاد فی استخدامها وتکالیف التدابیر المتخذة فی هذا الصدد.
- مدى توافر بدائل، ذات قیمة مماثلة، لاستخدام معین مزمع أو قائم.
2. لدى تطبیق المادة (5) أو الفقرة (1) من هذه المادة، تدخل دول المجرى المائی المعنیة عند ظهور الحاجة فی مشاورات تقوم على روح التعاون.
3. یحدد الثقل الممنوح لکل عامل من العوامل وفقا لأهمیته بالمقارنة مع أهمیة العوامل الأخرى ذات الصلة، وعند تحدید ماهیة الانتفاع المنصف والمعقول، یجب النظر فی جمیع العوامل ذات الصلة معا والتوصل إلى استنتاج على أساسها بصفة عامة."
ویلحظ أن التعلیق الرسمی على هذه المادة یتمتع بأهمیة خاصة إذ جاء فیه "إن هذه القاعدة إرشادیة ولیست شاملة، إذ أن التنوع الواسع للمجاری المائیة الدولیة، وللحاجات البشریة التی تلبیها، یجعل من المستحیل وضع قائمة شاملة بالعوامل التی یمکن أن تکون ذات صلة فی الحالات الافرادیة، وقد تکون بعض العوامل المدرجة فی القائمة ذات صلة بحالة معینة، فی حین قد لا تکون عوامل أخرى ذات صلة بتلک الحالة، ومع ذلک فإن عوامل أخرى قد تکون ذات صلة ولکنها غیر واردة فی القائمة، ولا تعطى أیة أولویة أو وزن، للعوامل والظروف المدرجة فی القائمة إذ أن بعضها قد یکون أکثر أهمیة فی بعض الحالات، فی حین أن بعضها الآخر قد یستحق أن یعطى وزنا أکبر فی حالات أخرى". وورد فی التفسیر الرسمی لنص المادة السادسة أنها تهدف إلى بیان الطریقة التی یتوجب بها على الدول أن تنفذ مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، الواردة فی المادة الخامسة، وهو بالضرورة مبدأ عام ومرن، ویقتضی لحسن تطبیقه، أن تأخذ الدول فی الاعتبار عوامل محسوسة تتصل بالمجرى المائی الدولی المعنی، وبحاجات دول المجرى المائی المعنیة واستخداماتها، وبالتالی فإن ما یشکل انتفاعاً منصفاً ومعقولاً فی حالة انفرادیة، سوف یتوقف على تقییم جمیع العوامل والظروف ذات الصلة وعملیة التقویم هذه یجب أن تؤدیها کل دولة من دول المجرى المائی، على الأقل فی المرحلة الأولى، بغیة ضمان مراعاة مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول المنصوص علیه فی المادة الخامسة.
وفی ضوء ما تقدم یمکننا القول أن اتفاقیة الأمم المتحدة لعام 1997 أضافت لمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول بمیاه المجاری المائیة الدولیة بعداً جدیداً، فعلى الرغم من استقرار المبدأ فی هذا المجال ومحاولة تقنینه فی قواعد هلسنکی، إلا أنه جاء أکثر شمولا فی هذه الاتفاقیة إذ أصبح یشمل الانتفاع والمشارکة العادلین والمنصفین، فالفقرة الاولى أضافت بعد النص على المبدأ وجوب مراعاة کل دولة فی هذا الانتفاع لمصالح الدول المعنیة الأخرى وضرورة اتفاق ذلک مع مقتضیات توفیر الحمایة الکافیة للمجرى المائی نفسه، ثم جاءت الفقرة الثانیة من المادة الخامسة متضمنة النص على مبدأ المشارکة، فأصبح لزاما على کل دولة من دول المجرى المائی أن تشارک بصورة منصفة ومعقولة فی استخدامه وتنمیته وحمایته. وقد وجد هذا المبدأ تکریساً له فی عدید من الاتفاقیات الدولیة بوصفه من أهم المبادئ العامة التی تنظم عملیات استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة المشترکة، ومن بین الاتفاقیات الدولیة التی أشارت إلى مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول الاتفاقیة الموقعة بین النیجر ونیجیریا عام 1990 إذ أشارت المادة الاولى من الاتفاق إلى أهمیة المشارکة المنصفة فی تنمیة وحفظ واستخدام مواردهما المائیة المشترکة. ویعد البروتوکول المعروف بـــ (سادک) الموقع عام 1995 الذی یعنى بشبکة المجاری المائیة الدولیة المشترکة، من الاتفاقیات التی تبنت مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول فی مجال المجاری المائیة الدولیة. والاتفاقیة المعنیة بنهر الدانوب والموقعة عام 1994 إذ ورد بنص الفقرة الاولى من المادة الثانیة منها على حث الأطراف المتعاقدة بالسعی نحو تحقیق أهداف مستدامة ومنصفة لإدارة المیاه.
الفرع الثالث
إعمال المبدأ فی أحکام القضاء والتحکیم الدولیین
یتسم القضاء الدولی فی مجال الأنهار الدولیة بالندرة متى تم مقارنته بغیره من مجالات القانون الدولی الأخرى، ویرجع السبب فی ذلک إلى لجوء الدول إلى تسویة منازعات الأنهار الدولیة بالتفاوض، والذی غالباً ما یسفر عن إبرام اتفاقیات دولیة ثنائیة أو إقلیمیة.
غیر أن هناک عدداً من التطبیقات القضائیة لمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لمیاه المجاری المائیة الدولیة، إذ ورد المبدأ فی عدید من الأحکام الصادرة عن التحکیم الدولی، والأحکام الصادرة عن محکمة العدل الدولیة الدائمة، وفی عدد من الأحکام الصادرة عن محکمة العدل الدولیة.
ومن أبرز الأحکام التی یمکننا الإشارة إلیها فی هذا المجال قضیة تحکیم بحیرة لانو لعام 1957بین کل من اسبانیا وفرنسا، إذ کانت الحکومة الفرنسیة تعتزم إقامة بعض المشاریع للاستفادة من میاه البحیرة، وهی المیاه التی تصب فی نهر کارول وتجری إلى أراضی اسبانیا، وأجریت مشاورات ومفاوضات متقطعة من عام 1917 إلى عام 1956 بین حکومتی فرنسا واسبانیا بشأن التحویل المقترح لمیاه بحیرة لانو استقر رأی فرنسا أخیراً على خطة للتحویل تترتب علیها الإعادة الکاملة للمیاه المحولة قبل الحدود الاسبانیة، ومع ذلک فقد خشیت أسبانیا أن یکون للأشغال المزمعة ألأثر الضار على حقوقها ومصالحها، وطلبت من هیئة التحکیم أن تعلن أن فرنسا ستعتبر منتهکة لأحکام معاهدة بایون المعقودة بینهما عام 1866 إذا قامت بتنفیذ خطة التحویل دون موافقة أسبانیا، فی حین تمسکت فرنسا بأنها تستطیع ذلک قانوناً من دون موافقة أسبانیا. وبموجب اتفاق التحکیم الذی کان مبرماً بین الدولتین عرض النزاع على هیئة التحکیم التی أصدرت حکمها فی 16 نوفمبر 1957 الذی قررت فیه عدة مبادئ قانونیة أهمها منع دول المنابع من تحویل میاه المجرى المائی بشکل یلحق أضراراً جسیمة بدولة المصب، وأیضاً دول المنابع ملزمة على وفق لقواعد حسن النیة بأن تأخذ فی الاعتبار جمیع المصالح المختلفة وان تجتهد فی إعطائها کل الترضیات المناسبة، وأشارت المحکمة إلى ضرورة إقامة توازن بین المصالح الفرنسیة ونظیرتها الاسبانیة، فی ضوء قواعد الاستخدام المنصف واجبة الإتباع دون تعسف من جانب دولة على حساب دولة أخرى.
ومن الأحکام القضائیة الدولیة الصادرة فی هذا المجال یمکننا الإشارة إلى الحکم الصادر عن محکمة العدل الدولیة الدائمة عام 1937 بشأن تحویل میاه نهر الموز بین بلجیکا وهولندا، حیث أبرمت الدولتان اتفاقاً فی 12 أیار 1863 لتنظیم استغلال میاه هذا النهر، وفی عام 1925 تم إبرام اتفاق آخر ینظم إقامة المشروعات الجدیدة على النهر، وفی ضوء ذلک قامت هولندا بشق قناة جولیانا على الجانب الأیمن للنهر لتولید الطاقة الکهربائیة بأسلوب سحب المیاه من النهر ثم إعادتها إلیه مرة أخرى، کما قامت بلجیکا بإنشاء قناة ألبیر تستهدف بها تولید الطاقة الکهربائیة عن طریق خزان للمیاه معد لهذا الغرض.
وقد أدت مثل هذه المشروعات إلى احتجاجات ومنازعات متبادلة بین الدولتین، ولم تفلح الجهود والمفاوضات المتواصلة بینهما للوصول إلى اتفاق، فتقدمت هولندا بدعوى إلى محکمة العدل الدولیة الدائمة، وکانت تدعی بأن الأعمال التی قامت بها بلجیکا تعد مخالفة للاتفاقیة المبرمة بینهما ومن ثم فإن مسلک بلجیکا یعد عملاً غیر مشروع، وطلبت من المحکمة أن تأمر بلجیکا بالکف فوراً عن الاستمرار فی مثل هذه الأعمال، وأن تقوم بإعادة الوضع إلى ما کان علیه تنفیذاً للاتفاق المبرم بینهما. وقد انصب الحکم الصادر من المحکمة حیال هذا النزاع على معاهدة الرافد المبرمة بین الدولتین، وقد راعت المحکمة کافة الظروف المرتبطة بتلک المعاهدة، ومن بینها عامل الحقوق التاریخیة، بوصفها من عناصر الاتفاق الموقع بین الدولتین، واستندت المحکمة إلى مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لمیاه النهر الدولی بوصفه من المبادئ العامة للقانون، وتمثل ذلک فی اشتراطها استمرار التدفقات والمستویات الطبیعیة للنهر عند نقطة معینة، مراعاة لعامل الحقوق التاریخیة الذی یعد من أهم عناصر الإنصاف.
المطلب الثانی
مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن
یعد مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن واحداً من المبادئ المستقرة فی مجال الأنهار الدولیة، فإذا کان من حق کل دولة مشترکة فی مورد طبیعی مع دول أخرى استخدام میاه هذا المورد، فإن هذه الدولة یقع على عاتقها فی ذات الوقت التزام جوهری مفاده عدم تسببها بإحداث أیة أضرار لباقی الدول المشترکة معها فی میاه ذات المجرى، وبالتالی یجب أن یکون استخدامها للمیاه استخداما یتفق مع مجریات الاستخدام الطبیعی للمجرى المائی المشترک، وانطلاقا مما تقدم فإننا سنتناول مبدأ الالتزام بعدم التسبب بضرر ذی شأن على وفق ثلاثة فروع وکما یأتی:
الفرع الأول
مفهوم مبدأ الالتزام بعدم التسبب بضرر ذی شأن
یعتبر مبدأ الالتزام بعدم التسبب بضرر ذی شأن (الضرر الجوهری) من المبادئ الهامة التی تتوازى مع مبدأ الانتفاع والمشارکة المنصفان والمعقولان، ویعد هذا المبدأ من أکثر المبادئ إثارة للجدل والخلاف، ویرتبط مفهوم الضرر بمبدأ الاستخدام المنصف، لأن مفهوم الاستخدام المنصف قد یستتبع عدم الوفاء بکامل احتیاجات جمیع الدول المعنیة، أی أن الاستخدام المنصف من جانب إحدى الدول یمکن أن یسبب ضررا لدولة أخرى تستخدم نفس المجرى المائی، ومعنى ذلک أن مبدأ الاستخدام المنصف یسمح بان یکون هناک قدرا من الضرر یلحق بالدول النهریة الأخرى نتیجة استخدام هذه الدول لحقها فی المجرى المائی طالما کان هذا الضرر داخل الحدود التی یجیزها الانتفاع المنصف والمعقول، ولذلک یمکننا القول أن مضمون هذا المبدأ ینحصر فی ذلک الضرر الذی یتجاوز الحدود التی یجیزها مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول.
ویقصد بالضرر على وجه العموم فی القانون الدولی بأنه ((انتهاک لحق قانونی معین))، کما یعرف بأنه ((المساس بحق أو مصلحة مشروعة لأحد أشخاص القانون الدولی)). ویعرف البعض فی مجال استخدام المجاری المائیة بأنه ((التأثیر السلبی على کمیة المیاه أو جودتها العابرة لحدود دولة متشاطئة أخرى)). فالدولة تسأل عن الأضرار المادیة المباشرة الناجمة عن قیامها بانتقاص نصیب دولة أخرى من المیاه، أو تغییر طبیعتها، وذلک إما بتحویل مجرى النهر، أو أحد روافده، أو القیام بمشروع یکون من نتیجته التأثیر على نصیب دولة أخرى، أو تصریف مخلفات صناعیة أو طبیعیة فی المجرى تؤثر على صلاحیة المیاه فی الدول الأخرى.
إن مبدأ عدم التسبب فی ضرر ذی شأن یقوم على أساس أن تبذل الدول المشترکة فی المجرى المائی الدولی کل العنایة الواجبة عند استخدامها لمیاه المجرى المائی المشترک، وأن یکون ذلک الاستخدام بطریقة معقولة وفقا للمجرى العادی للأمور، وهذه العنایة الواجب اتخاذها من الدولة هی التزام یجب أن یتناسب مع أهمیة الموضوع، ومع مستوى السلطة التی تمارسها، ویجب أن لا تقل العنایة المبذولة من جانبها عن العنایة التی تبذلها فی المحافظة على أمنها وعلى مصالحها وعلى رعایاها، والاستخدام الآمن من المبادئ الرئیسیة فی القانون الدولی، ویرجع أصله إلى القاعدة العرفیة المعروفة ((استعمل ما هو مملوک لک دون الإضرار بالغیر))، وکما قال لوتر باخت "إن هذا المبدأ ینطبق فی العلاقات بین الدول کما ینطبق على العلاقات بین الأفراد وهو أحد المبادئ القانونیة العامة التی تکون محکمة العدل الدولیة ملزمة بتطبیقها بموجب م/ 38 من نظامها الأساسی".
والحقیقة أن واجب عدم الإضرار لیس مبدأً طارئاً على النظم القانونیة، إذ لا یمکن أن تقوم لأی نظام قانونی قائمة بدونه، وهذا ما أکدته الأمم المتحدة عام 1949 إذ أعلنت أن هناک اعترافا بالرأی القائل بأنه یجب على أی دولة ألا تسمح باستخدام إقلیمها لأغراض ضارة بمصالح الدول الأخرى، وهذا ما عبر عنه أیضا الفقیه دی فاتیل بقوله "لیس لدولة على وجه العموم أن تلحق الضرر بدولة أخرى، فالدولة ملزمة بعدم التعرض لدولة أخرى على نحو یخرق سیادتها أو یهدد أمنها، أو یعیق تقدمها أو یلحق الضرر بها على أی نحو". ویظهر مبدأ ((استعمل مالک دون الإضرار بالغیر)) بوضوح فی میثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادیة الذی وافقت علیه الجمعیة العامة للأمم المتحدة بقرارها المرقم (3281) لعام 1974 إذ تنص المادة (3) على أنه "لدى استغلال الموارد الطبیعیة التی تتقاسمها دولتان أو أکثر، یجب على کل دولة أن تمد ید التعاون على أساس نظام للإعلام والتشاور المسبق لتحقیق الانتفاع الأمثل بهذه الموارد من دون إلحاق الضرر بالمصالح المشروعة للغیر".
لکن السؤال الذی یطرح نفسه هنا هو: هل أن کل الأضرار التی تلحق بالدول المشترکة فی المجرى المائی تدخل فی نطاق مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر؟ أم لا بد أن یصل الضرر لدرجة معینة من الجسامة والخطورة؟
وللإجابة عن هذا التساؤل یمکننا القول، أنه یکاد یجمع الفقه الدولی على أن الضرر المراد على صعید القانون الدولی للأنهار الدولیة لا یقصد به الأضرار البسیطة التی تنجم عن الاستخدام، إذ أن دولة ما قد تتسبب فی أثناء استخدامها للأنهار الدولیة فی إحداث بعض الأضرار التی تفرضها علاقات الجوار، ویکشف لنا الواقع العملی أنه لا یمکن منع حدوث تلک الأضرار، وقد حدث خلاف على مستوى الفقه الدولی حول المدى الذی یمکن احتمال الضرر فیه، فیکتفی بعض الفقهاء بوصف الضرر بأقل الأوصاف سعیاً منهم إلى إعلاء مبدأ عدم إحداث الضرر فی مواجهة استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة، فیما یذهب فریق آخر إلى ضرورة وضع الأوصاف المقیدة لمفهوم الضرر، ویرفع من سقف القیود المحددة له رغبة فی استخدام میاه الأنهار الدولیة فی مواجهة الضرر، ولذلک تطالب دول المنبع أن یصل الضرر المعمول به لأقصى درجات الضرر، حتى تتمکن من استخدام میاه النهر دون مغبة أن تجد نفسها فی موقع للمطالبة بوقف أشغالها ومشروعاتها أو إزالتها، أو على أقل تقدیر تقدیم التعویض لصالح الدول المشترکة معها فی المجرى المائی، فی حین تطالب دول المصب بأن یتم الاعتداد بالضرر فی أقل درجاته سعیاً منها للحفاظ على حصصها المائیة وخوفا من أن یؤدی ذلک إلى الانتقاص منها، أو یؤدی إلى تغییر جودة المیاه العابرة للحدود بما یؤثر على الجوانب البیئیة.
ولقد جرى استخدام مجموعة من الأوصاف فی هذا السیاق لتحدید العتبة التی یتسبب الضرر إذا تجاوزها فی تحمیل الدولة المسؤولیة الدولیة، ومن أهمها، الکبیرSubstantial، والجوهری Significant، والمحسوس Sensible، والملموس Appreciable، والخطیر Grave، وقد شاب هذه المصطلحات کلها الغموض تبعا لمواقف الدول المتشاطئة منها، واختارت جمعیة القانون الدولی تعبیر ((الضرر المهم))، فی حین فضلت لجنة القانون الدولی تعبیر ((الضرر الجسیم)).
کما وقع الخلاف على صعید الفقه الدولی حول أوصاف الضرر واجبة الاعتبار، فذهب جانب من الفقهاء وفی مقدمتهم الفقیه دولوبادیر الذی تولى صیاغة قواعد مدرید عام 1911 إلى ضرورة السماح بقدر من الضرر یتوقف عند حد الخطیر(Grave)، إذ یجد أنه من الإجحاف إیقاف الاستخدام من دول المنبع إذا لم یرق ذلک الاستخدام لمرتبة الضرر الخطیر، فی حین یذهب الفقیه اندراسی إلى الأخذ بوصف الضرر الجدی (Serious) وذلک عند صیاغته لنص المادة الرابعة من قواعد سالزبورج عام 1961. فیما یذهب جانب آخر من الفقه إلى القول أن مبدأ الضرر یرتبط بمذهب التدفق الطبیعی، إذ یرى أن الاعتداد بالقاعدة التی تقرر استخدم ما لک من حق دون الإضرار بحقوق الآخرین یعتبر نتیجة طبیعیة لمعیار التدفق الطبیعی، فهذا المعیار یقوم على منع إحداث أیة تغییرات سلبیة فی المجرى المائی، سواء من حیث الکمیة أو الجودة.
ویذهب الفقیه Kent فی هذا السیاق إلى أنه من القواعد المستقرة فی القانون الدولی إن أی تعدیل فی مستوى المیاه لا یسمح به کقاعدة عامة دون تنظیم اتفاقی، وذکر الفقیه Oppenheim أنه من القواعد المستقرة فی القانون الدولی ألا یسمح لأیة دولة بتعدیل الأحوال الطبیعیة لمیاه النهر الدولی أو استغلال میاهه استغلالا ضارا، وفی هذا السیاق أیضا یذکر الأستاذ M.schwebel فی تقریره الذی قدمه إلى لجنة القانون الدولی عام 1982 فی موضوع قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی غیر الشؤون الملاحیة أن القاعدة التی توجب منع الإضرار أو قاعدة (استعمل مالک دون الإضرار بالغیر) تحتل الآن مکانا راسخا بین الأسانید الفقهیة لواجب الدول فی عدم إلحاق ضرر ملموس بالدول الأخرى، ولاسیما للضرر المنقول بوساطة المجاری المائیة الدولیة.
فضلاً عما تقدم تبرز عدید من الاتفاقیات الدولیة التی تفید بحظر الأنشطة التی تسبب أی ضرر کان لدولة أخرى من دول المجرى المائی، ومنها ما ورد فی المادة الرابعة من قواعد سالزبورج لعام 1961 إذ نصت على مبدأ عدم إحداث الضرر بصورة عامة، واستخدمت للتعبیر عن مفهوم الضرر مصطلح (الضرر الخطیر) وهذا ما تبناه أیضا مجمع القانون الدولی على الرغم من اعتراض بعض أعضائه الذین طالبوا باستبداله بمصطلح هام (important) لأنه الأکثر قرباً إلى المفاهیم القانونیة من المصطلح الوارد فی المادة الرابعة. واعتبرت رابطة القانون الدولی مبدأ الالتزام بعدم إحداث الضرر قاعدة جوهریة من قواعد العرف الدولی الأمر الذی جعلها تقوم بصیاغتها فی قواعد برلین لعام 2004، وهو ما تجلى فی إفرادها لبعض النصوص التی تتعلق بالضرر بشکل عام فضلا عن بیان بعض تطبیقاته، ومن ذلک ما نصت عیه المادة (16) بقولها ((یقع على عاتق الدول المشترکة فی حوض واحد واجب الامتناع عن الأعمال التی قد تتسبب فی أضرار جوهریة للدول المتشاطئة معها أثناء إدارة میاه هذا الحوض)).
إن البحث فی مفهوم مبدأ الالتزام بعدم إحداث الضرر یقتضی منا طرح السؤال الآتی: ما هی صور الاستخدام الضار للنهر الدولی؟
وللإجابة عن هذا التساؤل یمکننا القول أن الأضرار التی تصیب الدول المشترکة فی المجرى المائی الدولی تتنوع بقدر التنوع الموجود فی استخدامات النهر الدولی فی الأغراض غیر الملاحیة، ومن ثم یصعب حصر تلک الأضرار ولاسیما فی ظل التطور التقنی والتکنولوجی الذی أدى إلى ظهور استخدامات جدیدة لمیاه المجاری المائیة الدولیة.
ویمکننا فی هذا السیاق أن نورد بعض الأمثلة عن صور الاستخدام الضار للمجرى المائی، ومنها أن تقوم دولة المنبع التی لا تعترف بحقوق دول المصب ببیع الماء إلى الدول المشترکة معها فی المجرى المائی عوضاً عن إعطائهم حقوقهم المشروعة، وبما أنه لا تستطیع أیة دولة من دول المجرى المائی أن تتصرف بمیاهها بحیث تسبب ضرراً جسیماً للدول المشاطئة الأخرى، لذلک فإنه عندما تطلب ما ثمناً لمیاهها التی تمر عبر حدودها إلى دولة أخرى، فإنها بذلک تلحق ضرراً اقتصادیاً بالدولة المجاورة لها، وإذا ما حاولت دولة المنبع وقف مرور أو تحویل مجراه أو تخزینه وذلک بسبب عدم رغبة الدولة المجاورة بدفع ثمن الماء، أو عدم قدرتها على ذلک لذا یکون الضرر حینها أشد وأبلغ. کما قد تلجأ دولة المنبع إلى بناء السدود بطریقة تعسفیة وهو ما قد یترتب علیه تقلیل کمیة المیاه المتدفقة إلى دولة المصب، وهو ما یلحق ضرراً بالغ الأثر لا یمکن تجنبه بسهولة. وهناک أضرار تنتج عن الأنشطة التی تمارسها دول أسفل المجرى المائی فقد یؤدی التلوث فی المجرى السفلی أو وجود أماکن لتوالد الحشرات الناقلة للأمراض أو الفشل فی إزالتها أو تطهیر أماکنها وعلى الأخص فی منشآت الری وقنوات الصرف ومناطق المستنفعات إلى انتشار الأمراض أو الحشرات الناقلة لها فی الدول الواقعة فی أعلى المجرى المائی کما قد یؤدی إفراط دولة أسفل المجرى المائی فی الصید إلى تخفیض المتاح من الأسماک للدول الأخرى العلیا.
إن ما أوردناه من أمثلة لبعض صور الاستخدام الضار للمجاری المائیة الدولیة یخالف صراحةً مبدأ حسن الجوار بین الدول، فلیس هذا المبدأ مجرد قاعدة أخلاقیة، أو مجرد سلوک تقتضیه العلاقات الدولیة الطبیعیة، بل إنه مبدأ قانونی من مبادئ القانون الدولی، وقد ورد النص علیه فی میثاق الأمم المتحدة فی المادة (74) منه، فمبدأ حسن الجوار فی العلاقات المائیة بین الدول أهم منه فی العلاقات الأخرى لما یتمتع به من أهمیة قصوى نظراً إلى أهمیة دور المیاه فی حیاة الناس لا سیما على صعید الشرب والغذاء، فإذا کان جائزاً فی القانون الدولی أن تلجأ إحدى الدول إلى قطع العلاقات الاقتصادیة أو الدبلوماسیة فإنه لا یجوز بأیة حال من الأحوال قطع المیاه عن الدولة المجاورة أو وضع شروط مالیة أو غیرها، کما لا یجوز لدولة تحتل موقعاً جغرافیاً متمیزاً (دولة المجرى الأعلى) أن تفرض شروطها لان القانون الدولی یحمی دولة المجرى الأسفل.
وفی ضوء ما تقدم یمکننا القول أن مبدأ الالتزام بعدم إحداث الضرر یتلخص فی عدم جواز قیام دولة مشترکة فی مجرى مائی أن تتخذ أی عمل أو تصرف من شأنه التأثیر فی الحقوق والمصالح المقررة للدول الأخرى المشترکة معها من دون تشاور واتفاق مسبق، ولا یجوز لها القیام بأیة ترتیبات من شأنها الإضرار بالدول النهریة الأخرى کأن تتسبب بإحداث فیضان، أو إنقاص کمیة المیاه المتدفقة نحو دول المصب، أو تقلل من جودة المیاه بسبب صرف مخلفاتها الصناعیة فی مجرى النهر الأمر مما یؤدی إلى تلویث المیاه أو زیادة ملوحتها بشکل یجعلها غیر صالحة للاستخدام الآدمی أو لأغراض الزراعة أو الصناعة أو غیر ذلک من النتائج التی تقلل فرص الدول الأخرى فی الاستفادة من میاه المجرى المائی کما ینبغی على وفق الأحوال العادیة.
کما یمکننا القول إن الأوصاف التی تبین درجة الضرر المقبول من غیره قد مرت بتطورات مختلفة، وانعکس هذا التطور على آراء فقهاء القانون الدولی ما تسبب بنشوب الخلاف بینهم بشأن درجة هذا الضرر وهو ما ألقى بضلاله على العدید من الاتفاقیات سواء کانت ثنائیة أو جماعیة، وذلک کله فی ظل التطورات التقنیة التی ألقت بظلالها على الموارد الطبیعیة واستخداماتها المختلفة، ومن ثم فإن تحدید مفهوم ووصف الضرر یختلف من حالة لأخرى، بحسب درجة الضرر الذی سیصیب باقی الدول المشترکة فی المجرى المائی، وبالتالی ینبغی الرجوع إلى الخبراء الفنیین باعتبارهم الأقدر على تحدید وصف الضرر، وذلک على ضوء ظروف کل مجرى مائی، مما یتطلب بدوره إقامة هیئات أو لجان خاصة ذات صبغة دولیة، تضم ممثلین عن الدول المشترکة فی مجرى مائی واحد وهو ما من شأنه أن یسهم فی حل المنازعات التی قد تؤثر بین دول المجرى المائی الواحد.
الفرع الثانی
موقف اتفاقیة الأمم المتحدة لعام 1997 من مبدأ الالتزام بعدم التسبب بضرر ذی شأن
یعد مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی الإضرار بالدول النهریة الأخرى قیداً عاماً على وفق مبادئ القانون الدولی العرفی، ومن ثم فإنه یعد قیداً کابحاً لمبدأ الاقتسام المنصف للمیاه وموازیاً له، وجاء مشروع لجنة القانون الدولی فأحدث تطوراً مهماً فی هذا المجال حیث قدم الاقتسام المنصف على مبدأ عدم التسبب فی الضرر، ولکن التطور الأخطر والأهم هو الوصف الذی وصفت به اللجنة الضرر، إذ کانت تصفه فی البدایة بأنه الضرر الملموس، ثم قامت فی مرحلة لاحقة، فیما عد تطوراً بالغ الخطورة، من جانب دول المصاب، بالعدول عن هذا الوصف مستخدمة تعبیر الضرر الجوهری، وهو ما کان یعنی إعطاء مزید من حریة التصرف لدول المنابع وتخویلها رخصة التسبب فی إضرار دول المصاب أو المجرى الأوسط للنهر ما دام الضرر لا یبلغ مرتبة الضرر الجوهری، ومن هنا فإن المادة السابعة من الاتفاقیة کانت محلاً لمفاوضات شاقة وربما تعد من أکثر الأحکام إثارةً للجدل والخلاف على صعید الاتفاقیة بِرمتها، وقد تم الاتفاق على الصیاغة النهائیة للمادة السابعة باعتماد وصف ((الضرر ذی الشأن)) فی نهایة الدورة الثانیة لمجموعة العمل، إذ جاءت المادة السابعة فی صیاغتها التی تم إقرارها على قدر من التوازن، بربطها بالمادتین الخامسة والسادسة، والنص فی الفقرة الأولى من المادة الخامسة عند تقریر مبدأ الاقتسام المنصف على وجوب مراعاة مصالح دول المجرى المائی المعنیة، والترکیز على التزام الدولة بالعمل على تخفیف الضرر وإزالته والتعویض عنه عند الضرورة.
وفی ضوء ما تقدم فقد عالجت المادة السابعة من اتفاقیة الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن على الوجه الآتی:
"1. تتخذ دول المجرى المائی، عند الانتفاع بمجرى مائی دولی داخل أراضیها، کل التدابیر المناسبة للحیلولة دون التسبب فی ضرر ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى.
2. ومع ذلک، فإنه متى وقع ضرر ذی شأن لدولة أخرى من دول المجرى المائی، تتخذ الدول التی سبب استخدامها هذا الضرر، فی حالة عدم وجود اتفاق على هذا الاستخدام، کل التدابیر المناسبة، مع المراعاة الواجبة لأحکام المادتین 5 و6 وبالتشاور مع الدول المتضررة، من أجل إزالة أو تخفیف الضرر والقیام حسب الملائم، بمناقشة مسالة التعویض".
وتنص المادة السابعة من الاتفاقیة على المبدأ الأساسی الذی یفید بأن الدولة التی تنتفع بــ ((شبکة)) مجرى مائی دولی علیها أن تفعل ذلک على وجه لا یسبب ضرراً (ذی شأن) لدول المجرى المائی الأخرى، ذلک لأن الاختصاص ألحصری الذی تتمتع به دولة من دول المجرى المائی داخل إقلیمها یجب ألا یمارس على وجه یسبب ضرراً لدول المجرى المائی الأخرى، فالتسبب فی ضرر کهذا یعادل التدخل فی اختصاص دول المجرى المائی الأخرى فی المسائل داخل أقالیمها.
والالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى یکمل الالتزام بالانتفاع المنصف والمعقول، فحق دول المجرى فی الانتفاع بـــ (شبکة) مجرى مائی دولی بطریقة منصفة ومعقولة یتقید فی واجب تلک الدولة بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى، وبعبارة أخرى، ولأول وهلة على الأقل، یکون الانتفاع بـــ (شبکة) مجرى مائی دولی انتفاعاً غیر منصف إذا تسبب فی ضرر ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى.
إن صیاغة وصف الضرر الوارد فی نص المادة السابعة بکونه ((ضرر ذی شأن)) یعطی لمصطلح ((الضرر)) مفهوماً واقعیاً وموضوعیاً، إذ ینبغی أن یکون هناک قدرة على إثبات الضرر بأدلة موضوعیة، کما یجب أن یکون هناک انتقاص حقیقی من الاستخدام، أی أن یترک
ذلک الاستخدام أثراً له عواقب لا یستهان بها، سواء کان ذلک على مستوى الصحة العامة، أو الزراعة، أو البیئة بشکل عام، أو على صعید إنقاص کمیة المیاه الواردة لإحدى الدول المشترکة فی المجرى المائی، ولذلک فإن الضرر ذی الشأن هو ذلک الضرر الذی لا یکون طفیفاً أو قابلاً لاکتشافه بالکاد، ولکنه لیس بالضرورة جسیماً، وتضع المادة السابعة من الاتفاقیة التزاماً عاماً على دول المجرى المائی بأن تبذل أثناء انتفاعها به العنایة على وجه لا یسبب ضرراً جسیماً لبقیة دول المجرى المائی، وقد أید هذا الاتجاه البنک الدولی على الرغم من اهتمامه الکبیر بالتقدم الاقتصادی والاجتماعی، فقد رجح قاعدة عدم التسبب بالضرر، بتعلیماته التی نشرها بتاریخ 18/9/1989 بقوله ((على البنک أن یصل إلى القناعة بان المشروع المقدم إلیه من أجل تمویله، لا یسبب ضرراً ملموساً للدول المتشاطئة الأخرى)).
إن إمعان النظر فی مضمون نص المادة السابعة من الاتفاقیة یبین لنا أن هناک مجموعة من التغیرات التی أدخلت على النص الموضوع مقارنةً بما کانت علیه فی القراءة الأولى والثانیة لمشروع الاتفاقیة، إذ یتبین لنا أنه قد تم استبدال مصطلح ((الضرر الملموس)) الوارد فی القراءة الأولى بمصطلح ((الضرر الجسیم)) أو ((الضرر ذی الشأن)) فی القراءة الثانیة، وهنا لا بد من التأکید على ضرورة وضع معاییر موضوعیة، یمکن من خلالها التمییز بین الضرر ذی الشأن وبین ((الضرر المقبول)) لأن مصطلح ذی شأن لا یعطی وصفاً کافیاً لمدى الضرر الذی یعد انتهاکاً لمبدأ الانتفاع المنصف والمعقول، وهو ما یعطی حججاً قانونیة للدولة المتسببة بالضرر لتجاهل مصالح الدولة أو الدول المتضررة.
ومن التغییرات المهمة التی أدخلت على نص الفقرة الأولى من المادة السابعة ما یتعلق بإحلال عبارة ((تبذل العنایة الواجبة)) بعبارة ((کل التدابیر المناسبة))، وبذلک فإن هناک التزام عام باتخاذ کل التدابیر المناسبة لمنع إحداث ضرر ذی شأن لدول أخرى فی المجرى المشترک، وفی هذا التزام بتحقیق نتیجة، وینبع هذا الالتزام من اعتبارات قانونیة عدیدة کحسن الجوار وعدم الإضرار بالغیر، وهو التزام یتماشى مع العرف الدولی، فسواء انضمت دولة مشترکة فی مجرى مائی إلى الاتفاقیة أو لم تنظم إلیها فالتزامها بعدم الإضرار بالغیر یبقى قائماً قانوناً فی الحالتین.
ویرى الأستاذ Mc caffrey أنه لا یوجد خلاف بین عبارتی ((تبذل العنایة الواجبة)) و((کل التدابیر المناسبة)) ویجد أن العبارتین کلتیهما یؤدیان المعنى نفسه فی الدلالة على أن الالتزام هنا هو التزام بعنایة ولیس التزام بتحقیق نتیجة، والحقیقة أن مجموعة العمل نفسها أوضحت أن التزام دول المجرى المائی هو منع التسبب فی حدوث ضرر وهو ما کان یفهم ضمناً من صیاغة نص لجنة القانون الدولی، إلا أن إضافة التعبیر الذی یشیر إلى المنع یزیل أی شک، کما انه یشدد على الطبیعة المتوقعة للالتزام بکونه یتعلق بتحقیق نتیجة وهی منع وقوع الضرر.
فیما یذهب جانب آخر من الفقه إلى القول بأن نص المادة السابعة یحفل بالصور المتناقضة، فهو یجعل التزام الدولة مجرد التزام بعنایة ولیس التزاما بتحقیق نتیجة، فکل ما هو مطلوب ألا یثبت نحو الدولة التی یتسبب سلوکها فی إحداث الضرر بالدول الأخرى أنها أخلت بواجب العنایة المطلوبة والحرص على مصالح وحقوق الآخرین، سواء کان ذلک یعود إلى سلوک عمدی، أو إلى إهمال من جانبها، أو أنها لم تمنع شخصاً ثالثاً فوف أراضیها من إحداث مثل هذا الضرر، کما یرى أنصار هذا الاتجاه أن صیغة الفقرة الثانیة من المادة السابعة لیست حاسمة فی تقریر مسؤولیة الدول عن منع الإضرار بعضها بالبعض الآخر، ذلک أنها تتحدث عن التشاور، قبل الحدیث عن الالتزام بإزالة الضرر أو تخفیضه أو التعویض عنه، کما أنها لم تحسم المطالبة بإزالة الضرر، بل قد یکفی التخفیف منه.
وقد ورد فی التفسیر الرسمی لنص الفقرة الأولى من المادة السابعة بأنها تشیر إلى أن دول المجرى المائی الدولی لن تعفى من التزامها بالنظر فی مصالح بقیة الدول المتشاطئة، حتى ولو وقع استخدامها لمیاه المجرى المائی الدولی فی نطاق ما تسمح به المادة (5) من انتفاع منصف ومعقول ((کأن تبنی إحدى دول المجرى المائی سداً، فحتى ولو جاء بنائه ضمن ما تسمح به المادة الخامسة وضمن مراعاة عوامل المادة السادسة، فإن الدولة لا تعفى من التزامها بأن تبذل حتى فی تصمیم السد المذکور، وتشییده، وتشغیله، العنایة اللازمة لکی لا تسبب ضرراً جسیماً للدول المتشاطئة الأخرى))، فحق کل دولة فی استخدام مجرى مائی دولی بشکل منصف ومعقول یجب أن یقرأ ضمن واجب الدولة المذکورة فی عدم التسبب بأضرار ملموسة بالدول الأخرى، أما إذا وقع ضرر ذی شأن على الرغم من بذل العانیة اللازمة، فعلى الدول الأطراف أن تتشاور فی مثل هذه الحال وذلک للتأکد من أن استخدام المجرى المائی منصف ومعقول، وللنظر فی ما إذا کان بالإمکان إدخال بعض التعدیلات على المشروع، التی من شأنها إزالة الضرر أو تخفیفه، بما فی ذلک التعویض على من لحق بهم ضرر خاص حسب الفقرة الثانیة.
وتعرف العنایة اللازمة بأنها العنایة المتناسبة مع جسامة الموضوع، ومع کرامة وقوة السلطة التی تمارسها، وهی العنایة التی تبذلها الحکومات بالطریقة المعتادة فی شؤونها الداخلیة، وهی أیضاً التی تضع عتبة للنشاط المشروع للدول، ولا تعتبر الدولة مخلة بالتزاماتها، ببذل العنایة اللازمة، إلا إذا سببت الضرر عمداً أو إهمالاً أی إذا کانت تعلم، أو کان من المفروض أن تعلم، أن هذا الاستخدام بالذات للمجرى المائی الدولی من شأنه أن یسبب ضرراً ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى. وعلى الرغم من اتخاذ الدولة التدابیر المناسبة کلها لمنع إحداث ضرر ذی شأن لدولة أخرى فی المجرى المشترک فقد یتحقق مع ذلک الضرر ذی الشأن، لذا یجب أن نفرق على وفق أحکام الفقرة الثانیة بین حالتین:.
الأولى:. أن هناک اتفاق بین الدولة المتسببة فی الضرر والدولة المتضررة حول الانتفاع بالمجرى المشترک (على أن یکون هذا الانتفاع هو المتسبب فی الضرر)، ففی هذه الحالة لا یکون هناک محل لاتخاذ الإجراءات المنصوص علیها فی هذه الفقرة.
الثانیة:. أما إذا لم یکن هناک اتفاق بین الدولتین على ذلک الانتفاع فعلى الدولة المتسببة فی الضرر أن تتخذ الإجراءات المناسبة کلها التی من شأنها إزالة الضرر أو تخفیفه بالتشاور مع الدولة المتضررة، وأن تتناول مسألة التعویض إذا کان ذلک مناسباً.
ویمکننا القول أن هذا الحکم لا یضع التزامات جدیدة على کاهل الدول الأطراف فی الاتفاقیة، إذ أنه یجد أصله فی المبادئ العامة للقانون الدولی ومیثاق الأمم المتحدة الذین یفرضان على الدول جمیعها تسویة المنازعات التی قد تنشأ بینهم بالطرق السلمیة وأولها التفاوض، وقد کانت الفقرة (2) من المادة السابعة هی محور اهتمام مجموعة العمل وقد حاولت أثناء الصیاغة النهائیة لها إیجاد التوازن بین الاستخدام المنصف وعدم حدوث الضرر، فجاء بها أن ((أنه متى وقع ضرر ذی شأن لدولة أخرى من دول المجرى المائی، تتخذ الدول التی سبب استخدامها هذا الضرر، فی حالة عدم وجود اتفاق على هذا الاستخدام، کل التدابیر المناسبة مع المراعاة الواجبة لأحکام المادتین 5 و 6...)). ومن المعروف أن دول المنبع بصفة عامة تعطی أولویة لمبدأ الاستخدام المنصف الوارد فی المادة الخامسة، کونه یعطیها مرونة فیما یتعلق بالاستخدامات الجدیدة على المجاری المائیة الخاصة بها، وعلى العکس من ذلک فإن دول المصب تفضل مبدأ الاستخدام غیر الضار الوارد فی المادة السابعة، على أساس أنه یقدم وخاصة بالنسبة إلى الاستخدامات المستقرة حمایة أکثر. ویرى الأستاذ Mckaffrey أن الممارسة الدولیة تفضل اللجوء إلى حلول أقل تشدداً حیث أن الحقائق والظروف لکل حالة فی النهایة تعتبر المفتاح المحدد لحقوق والتزامات الأطراف أکثر من إعطاء أولویة لمبدأ معین على الآخر، کما یرى أنه فی حالة الخلافات المستقبلیة، فإنه بالإمکان أن تحل الأمور بالتعاون والمواءمة ولیس بالتمسک المتشدد بالقواعد القانونیة، وفی سبیل ذلک یرى أن النص النهائی للفقرة (2) أدرک ذلک على الرغم من أن ذلک لم یکن واضحاً فی نص لجنة القانون الدولی بالطلب من الدولة المتسببة فی الضرر اتخاذ کل التدابیر المناسبة بالتشاور مع الدولة المتضررة، من أجل إزالة أو تخفیف الضرر.
وینبغی هنا أن ننوه إلى ما نصت علیه الفقرة الثانیة من أن الدولة المتسببة فی الضرر علیها أن تعمل على (to eliminate or mitigate) هذا الضرر، فالنص بصیاغته أعلاه لا یجعل لأیهما أولویة فی الترتیب، مما یعنی أن الدولة المتسببة فی الضرر یمکن لها أن تکتفی بـــ (mitigation) أی أن تکتفی بـــ (تخفیف الضرر)، دون أن تسعى إلى (elimination) أی إزالة الضرر، وإزاء ذلک فقد قدمت وفود بعض الدول المشترکة فی التفاوض طلباً بضرورة تقدیم توضیح للترتیب الذی یجب أن تسیر آلیة معالجة الضرر على وفقه، وقد تم تضمین هذا التوضیح فی بیان رئیس مجموعة العمل على نحو یقرر أنه فی حالة عدم استطاعة الإجراءات المتخذة إزالة الضرر فإنه یلجأ إلى إجراءات تخفیف الضرر، وعلى الرغم من أن البیان لیست له أیة قیمة قانونیة فی حد ذاته (أی أنه غیر ملزم)، إلا أنه یجب اعتباره جزء من الأعمال التحضیریة التی لها قیمة أدبیة وفقاً لأحکام قانون المعاهدات الخاصة بتفسیر المعاهدات فی حدود المادة (32) من اتفاقیة فینا لقانون المعاهدات لعام 1969.
وفی ضوء ما تقدم یمکننا القول أن مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن یمثل جزءاً لا یتجزأ من قانون الجوار الدولی، وإن أی استخدام لمیاه المجاری المائیة الدولیة بصورة تسبب ضرراً للدول الأخرى المشترکة فی المجرى المائی الدولی یعد فعلاً غیر مشروع موجب للمسؤولیة الدولیة. وقد وجد هذا المبدأ تکریساً له فی عدید من الاتفاقیات الدولیة ومنها على سبیل المثال المادة الرابعة من معاهدة نهر السند بین الهند والباکستان لعام 1960 والتی تنص على أن کل طرف یوافق على أن أی استخدام غیر استهلاکی یمارسه یجب أن یجری على نحو لا یحدث تغییراً جوهریاً، بسبب ذلک الاستخدام، فی التدفق فی أی قناة بما یضر باستخدامات تلک القناة من جانب الطرف الآخر وفقاً لأحکام هذه الاتفاقیة.
ونصت المادة (35) من النظام الأساسی لنهر أورجوای الذی اعتمدته أورجوای والأرجنتین عام 1975 على أن تتعهد "الأطراف باتخاذ التدابیر اللازمة لضمان ألا تؤدی إدارة الأراضی والغابات واستخدام المیاه الجوفیة وروافد النهر إلى حدوث تغییر على نحو یسبب ضرراً ملموساً لنظام النهر أو لنوعیة میاهه". وتنص الفقرة الثانیة من إعلان أسونسیون لعام 1971، فیما یتعلق بالأنهار المتعاقبة بأنه "یجوز لکل دولة أن تستخدم المیاه وفقاً لحاجتها شریطة ألا تسبب ضرراً ملموساً لأی دولة من دول الحوض".
الفرع الثالث
إعمال المبدأ فی أحکام القضاء والتحکیم الدولیین
یعد مبدأ الالتزام بعدم التسبب بضرر ذی شأن واحداً من المبادئ الأساسیة التی تلتزم بموجبها الدولة بعدم الإضرار بغیرها من الدول سواء أکان ذلک باستخدام إقلیمها أو السماح باستخدامه بطریق تلحق ضرراً بغیرها من الدول، وهو مبدأ یقره القضاء الدولی سواء فی مجال استخدام الأنهار الدولیة أو فی غیرها من المجالات الدولیة الأخرى.
ومن ذلک القرار الصادر عن هیئة التحکیم الدولیة الخاصة ببحیرة لانو بین فرنسا واسبانیا، حیث نشأ النزاع بین الدولتین بسبب شروع فرنسا فی تحویل میاه البحیرة المذکورة لتحقیق بعض الأغراض، ثم إعادة المیاه بنفس کمیتها لتصل إلى الأراضی الأسبانیة، وقد اعترضت اسبانیا على التدخل الفرنسی فی میاه البحیرة وادعت أمام هیئة التحکیم أن ذلک الإجراء لا یجوز إلا بعد أخذ موافقتها، وأن فرنسا کانت تمارس حقوقها مستهدفة الإضرار بالمصالح الاسبانیة، ودفعت فرنسا بحقها فی تحویل المیاه دون موافقة اسبانیا، وقد جاء فی قرار هیئة التحکیم أن "لأی دولة الحق فی أن تستخدم منفردة الجزء من النهر الذی یمر بإقلیمها بالقدر الذی یحتمل فیه أن لا یسبب هذا الاستخدام فی إقلیم دولة أخرى سوى ضرر محدود، أو حد أدنى من الإساءة یدخل فی حدود ما یستمد من حسن الجوار". وبذلک فقد أشارت المحکمة وجود مبدأ یحرم دولة المنبع وانطلاقاً من مبدأ حسن النیة من تغییر أو تعدیل مجرى النهر إذا ترتب على ذلک أضرار جسیمة بدولة المصب.
کما یمکننا أن نشیر أیضاً إلى حکم التحکیم الصادر بشأن نهر هلمند بین إیران وأفغانستان عام 1905، إذ یعد الحکم الصادر فی هذا النزاع من أوائل القرارات التی تبنت مبدأ عدم إحداث الضرر، فقد کان من شأن الحکم الصادر فی النزاع التأکید على مفهوم الاستخدام المنصف والمعقول للمیاه الذی یوجب الأخذ فی الاعتبار مصالح باقی الدول المشترکة فی المجرى المائی الواحد، وتأسیساً على ذلک فإنه یجب الامتناع عن کل ما من شأنه إحداث الضرر بالدول المشترکة فی المجرى المائی، سواء حدث ذلک بحسن نیة أو بسوء نیة.
ومن الأحکام القضائیة فی هذا المجال الحکم الذی أصدرته محکمة العدل الدولیة الدائمة لعام 1937 بشأن تحویل میاه نهر الموز، إذ أکدت المحکمة على ضرورة الاعتداد بمبدأ عدم إحداث الضرر بوصفه من أهم المبادئ القانونیة المستقرة فی قواعد القانون الدولی للأنهار الدولیة، إذ أرسلت الحکومة الهولندیة مذکرتین إلى سفیریها فی لندن وباریس، تؤکد فیهما أن نهر الموز یعد نهراً دولیاً مشترکاً بین دولتی بلجیکا وهولندا، مما یعطی لکل طرف الحق فی الاستخدام العادل لمیاه النهر، مع الالتزام بتطبیق المبادئ العامة للقانون، التی تقضی بأن الدولتین ملتزمتان بالامتناع عن أی تصرف قد یسبب ضرراً لأحدهما. کما أشارت المحکمة إلى ضرورة مراعاة المستقرة فی القانون الدولی، والتی تمنع الدول من الإقدام على مشروعات مائیة یون من شأنها الإضرار بالدول المشترکة معها، وقد قامت المحکمة بتفعیل مبادئ المساواة بین الدول المشترکة فی مجرى مائی واحد فی استخدام میاهه، ولم تنحاز المحکمة لطرف على حساب آخر، بغض النظر عن موقع الدولة، سواء کانت دولة منبع أو مجرى وسط أو دولة مصب، وکل ذلک یأتی متسقاً ومتوافقاً مع مبادئ العرف الدولی التی تقرر عدم قدرة دولة من دول المجرى المائی المشترک فی اتخاذ إجراءات بصورة منفردة، أو القیام بمشروعات مائیة یکون من شأنها الإضرار بدول الجوار.
المطلب الثالث
مبدأ الالتزام بالتعاون فی مجال المجاری المائیة الدولیة
یعد مبدأ الالتزام بالتعاون من المبادئ القانونیة المستقرة على صعید القانون الدولی بشکل عام، ولاسیما قانون المجاری المائیة الدولیة، وهو عمل مشترک من دول المجرى المائی غایته جلب اکبر قدر من المنافع لکل منها، فالاستخدام المنصف والمعقول، وعدم إحداث الضرر، لا تضمن حقوقاً فحسب بل واجبات وتعاوناً نشیطاً مع الدول الأخرى لحمایة وتقویم المجرى المائی، ویجد هذا المبدأ أساسه فی اعتبارات ومقتضیات حسن الجوار، وحسن النیة، ولإعمال هذا المبدأ بالغ الأثر فی تطبیق مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول ومبدأ عدم إحداث الضرر، مما یمکن دول المجرى الواحد من تحقیق أقصى استفادة من میاهه، الأمر الذی یسهم بدوره فی منع نشوب المنازعات الدولیة، بشأن استخدامات میاه المجاری المائیة الدولیة، وفی ضوء ما تقدم فإننا سنتطرق إلى مبدأ الالتزام بالتعاون على وفق ثلاثة فروع وکما یأتی:.
الفرع الأول
مفهوم مبدأ الالتزام بالتعاون
فی ظل ندرة الموارد المائیة العذبة وزیادة الاستهلاک الناجم عن زیادة السکان، وتغییر أنماط الاستهلاک والتوسع الزراعی، تکون هناک ضرورة لتعاون الدول المشترکة فی المجاری المائیة الدولیة، فی صیانة المجرى المائی والمحافظة على موارده، بل وتنمیتها إذا أمکن وتبنی سیاسات اقتصادیة بناءة فی استعمالها، وتنظیم الفوائد التی تنجم عن هذا الاستعمال، فطبیعة الفائدة المتبادلة المشترکة بین دول المجرى المائی الدولی _مع الأخذ بعین الاعتبار مصادر المیاه لمجرى مائی دولی_ تفرض التعاون مبدأً أساسیاً، فالتعاون یسمح لیس بتحاشی أو تجاوز النزاعات فحسب، التی یمکن أن تنتج عن استخدام غیر مشروع للمجرى المائی الدولی، ولکن یسمح أیضاً بتنسیق العمل لکل الدول المهتمة کی تستخلص اکبر قدر ممکن من فوائد هذه الموارد لهذا المجرى.
إن وضع تعریف محدد وموحد لمبدأ الالتزام بالتعاون یعد من المسائل الصعبة فی ظل تنوع وتشعب مجالات التعاون التی یمکن أن تقوم بین الدول المشترکة فی المجرى المائی، إلا أنه یمکننا القول أن هذا المبدأ یهدف إلى إقرار التعاون المشترک بین الدول النهریة المشترکة فی مجرى مائی لضمان حل المشکلات المائیة الصعبة، ولاسیما فی ظل تمسک الدول بأطر جامدة، مما یؤدی لإعاقة عملیة تنظیم الاستخدام المشترک للمیاه، فضلاً عن أن مقتضیات حسن النیة تقتضی وجود تعاون بین تلک الدول، ویؤدی التعاون النهری دوراً بارزاً فی إنجاح الإدارة المائیة المتکاملة القائمة على ضوابط تسهم فی عملیة الإدارة الجیدة للمورد المائی المشترک لما یوفره من ثقة.
وهذا ما عبرت عنه محکمة التحکیم فی قضیة بحیرة لانو بقولها "إن الدول واعیة تماماً لأهمیة المصالح المتضاربة التی تسببها لا سیما الاستخدامات الصناعیة للأنهار الدولیة، وضرورة التوافق مع الآخرین للوصول إلى التزامات مشترکة عن طریق تقدیم تنازلات متبادلة، والطریقة الوحیدة لتسویة هذه المصالح هی التوصل إلى اتفاق على أسس شاملة، مما ینجم عنه إن ضرورة التعاون بین الدول الذی هو مبدأ قانونی أساسی، لاستخدام موارد المیاه لیس التزاماً غامضاً بل هو معروف ومحدد (فهو یس الالتزام بالمشارکة مع دول أخرى بعمل شامل، بل هو التزام للوصول إلى هدف مشترک)". لذا فقد تبنى مؤتمر الأمم المتحدة الأول للمیاه فی ماردل بلاتا عدداً من التوصیات فی مقدمتها ضرورة تعاون الدول فی مجال الموارد المائیة المشترکة، اعترافاً منها بالترابط الاقتصادی والبیئی والمادی المتزاید عبر الحدود الدولیة، وهذا التعاون یجب أن یقوم على أساس المساواة بین جمیع الدول فی السیادة والملاحة الإقلیمیة.
ویقوم مبدأ التعاون فی مجال المجاری المائیة الدولیة على أسس جوهریة عدیدة تتمثل فی عملیة المشارکة بین دول المجرى المائی، وعملیة اتخاذ القرارات، وأخیراً الاتفاق على وجود آلیة لفض المنازعات التی قد تنشب بین هذه الدول، ویحوی مبدأ التعاون کذلک على عدید من المبادئ ذات الصلة وتشمل التسویة السلمیة للمنازعات فی مجال البیئة، والتنمیة المستدامة، والتعامل على قدم المساواة، فیما یتعلق بإجراءات التقاضی وفض المنازعات، وأیضاً تنفیذ الالتزامات الدولیة، ومتابعة ومراقبة هذه الالتزامات، وهی مبادئ قانونیة استقرت وتم إرسائها من خلال أعمال الأمم المتحدة المعنیة بعملیات استخدام میاه الموارد الطبیعیة المشترکة وحمایة البیئة، وهذا ما عبر عنه قرار الجمعیة العامة للأمم المتحدة رقم 3129 (د28) لعام 1973 بشأن التعاون فی مجالی البیئة فیما یتعلق بالموارد الطبیعیة المشترکة بین دولتین أو أکثر إذ جاء فی دیباجته أنه "لزاماً على الدول أن تسعى فی ممارستها لسیادتها على مواردها الطبیعیة إلى صیانة البیئة وتحسینها عن طریق التعاون الفعال الثنائی والمتعدد الأطراف أو عن طریق الأجهزة الإقلیمیة".
وفی ضوء ما تقدم یمکننا القول أن مبدأ الالتزام بالتعاون فی مجال المجاری المائیة الدولیة یستهدف الحصول على الاستخدام الأمثل لموارد المیاه والعمل على توفیر الحمایة المناسبة لتلک الموارد، وهو التزام ضروری وحیوی لتفعیل الاستخدام المثمر للموارد الطبیعیة المشترکة، وتتمثل المجالات التی یلزم التعاون فیها، فی تنمیة الموارد المائیة المتاحة وحسن استخدامها، وتوفیر البنیة التحتیة اللازمة لصیانتها وحسن إدارتها ومنع الهدر فیها، وهو مبدأ له طبیعة ملزمة ولیس مجرد إرشاد أو توجیه، واستقر العمل الدولی على مبدأ التعاون فی مجال استخدام المجاری المائیة الدولیة.
الفرع الثانی
موقف اتفاقیة الأمم المتحدة لعام 1997 من مبدأ الالتزام بالتعاون
یعد مبدأ الالتزام بالتعاون من المبادئ الراسخة على صعید العلاقات الدولیة فهو واجب یرتبط بشکل وثیق بمبدأ حسن النیة فی العلاقات الدولیة ولذلک فهو یعد مقصداً من مقاصد الأمم المتحدة طبقاً للمادة الاولى الفقرة الثانیة من میثاق الأمم المتحدة، وقد أسفرت جهود لجنة القانون الدولی عن صیاغة مبدأ الالتزام بالتعاون فی کافة أعمالها، وتبنت اللجنة منذ بدایة عملها هذا المبدأ، وأوردته فی المادة الثامنة من قراءاتها الاولى وذکرته تحت عنوان الالتزام العام بالتعاون، وعلى الرغم من الأهمیة التی أولتها اللجنة لمبدأ التعاون أثناء الأعمال التحضیریة لهذه الاتفاقیة إلا أن بعض أعضاء اللجنة حصره فی واجب تبادل البیانات والمعلومات الفنیة، ومنهم سرینیغا ساراو الذی رأى أن الصیاغة المقبولة هی تلک التی تهدف إلى الالتزام بتبادل البیانات والمعلومات. ولم تسفر القراءة الثانیة للجنة عن تغییر فیما أوردته القراءة الاولى بصدد ذلک المبدأ، وجاءت الاتفاقیة وقد تبنت نصاً موسعاً بشأن الالتزام بالتعاون، إذ نصت المادة الثامنة من قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة لعام 1997 على مبدأ الالتزام بالتعاون بقولها:_
"1_ تتعاون دول المجرى المائی على أساس المساواة فی السیادة والسیادة الإقلیمیة والفائدة المتبادلة وحسن النیة من أجل تحقیق الانتفاع الأمثل من المجرى المائی الدولی وتوفیر الحمایة الکافیة له.
2_ لدى تحدید طریقة هذا التعاون، لدول المجرى المائی أن تنظر فی إنشاء آلیات أو لجان مشترکة حسبما تراه ضروریاً لتیسیر التعاون بشأن اتخاذ التدابیر والإجراءات ذات الصلة فی ضوء الخبرة المکتسبة من خلال التعاون فی إطار الآلیات واللجان المشترکة القائمة فی مختلف المناطق".
وهکذا فقد حددت الفقرة الاولى من المادة (8) أسس التعاون وأهدافه بشکل عام ومقبول، فالالتزام التعاون هو أساس مهم لتحقیق توزیع منصف لاستخدامات المجرى المائی ومنافعه، ویبنى التعاون هنا على أساس المساواة فی السیادة والسلامة الإقلیمیة، فضلاً عن مبدأ حسن النیة وحسن الجوار، وفی هذا التزام بما سبق وأن قبلته الدول فی وثائق دولیة مهمة فی مقدمتها میثاق حقوق وواجبات الدول الاقتصادیة وذلک فی المادة الثالثة منها التی تنص على أنه عند استغلال موارد طبیعیة مشترکة بین دولتین أو أکثر یتعین على کل منهما التعاون عن طریق الإعلام والتشاور المسبقین مع باقی الدول بقصد الوصول إلى الاستخدام الأمثل لتلک الموارد من دون إحداث أی أضرار بالمصالح المشروعة للغیر، وقرار الجمعیة العامة للأمم المتحدة رقم (2995) بشأن التعاون بین الدول فی مجال البیئة، والقرار رقم (3129) بشأن التعاون بخصوص الموارد الطبیعیة المتقاسمة بین دولتین أو أکثر.
وقد اعتمدت مجموعة العمل النص أعلاه مع تغییر طفیف عن ما ورد فی القراءتین الاولى والثانیة إذ تم إضافة عبارة ((حسن النیة)) إلى نص الفقرة الاولى، إذ لا شک أن التعاون بین دول المجرى المائی فیما یتعلق بمیاه النهر أساس هام لتحقیق توزیع منصف لاستخدامات المجرى المائی، ولا ریب أن التعاون فی هذا الصدد أمر تفرضه مبادئ حسن النیة، وبالمقابل رفضت لجنة العمل المذکورة اقتراحاً سوریاً ینص على إضافة فقرة إلى نص المادة (8) من مشروع لجنة القانون الدولی وتفید المبادرة السوریة بأن واجب التعاون یجب أن یترجم فی اتفاقیات تبرم بین دول المجرى المائی الدولی تحدد حصة کل دولة من هذه الدول فی میاه هذا المجرى.
وتحدد الفقرة الثانیة من المادة (8) طریقة التعاون بین الدول التی تشترک فی مجرى مائی دولی، فقد نصت على إمکانیة إنشاء آلیات أو لجان مشترکة لتیسیر التعاون بشأن الإجراءات ذات الصلة، وذلک فی ضوء الخبرة المکتسبة من خلال التعاون فی إطار اللجان المشترکة التی تقوم على المستوى الدولی، وقد ترکت الفقرة الثانیة للدول المعنیة السلطة فی تقدیر مدى ملائمة الدخول فی مثل تلک الترتیبات حسبما تراه ضروریاً. ویقصد بهذا الواجب القانونی قیام دول المجرى المائی الواحد، بإنشاء وتشکیل لجان دولیة مشترکة فیما بینها، للقیام ببعض المهام والاختصاصات، ومن ثم فهی تعد أداة جیدة لتفعیل أواصر التعاون بین تلک الدول، ویناط بتلک اللجان تحدید التدابیر اللازمة لإدارة المجرى المائی الدولی، وهناک أسباب متنوعة لإنشاء تلک اللجان ومنها الحاجة إلى الخبرة المعرفیة فی إدارة تلک الموارد، وأیضاً الحیادیة فی التعامل مع المشکلات المرتبطة بالمجرى المائی، ویمکن لهذه اللجان أن تکون وسیلة مباشرة لحسم أیة خلافات قد تنشب بین دول المجرى المائی، وذلک من خلال توسطها لحل الخلافات بما لها من خبرة ودرایة بظروف المجرى المائی.
وفی ضوء ما سبق یمکننا القول أن الإدارة المشترکة للمجرى المائی الدولی سواء أخذت شکل لجان أو هیئات، فإنها تعد من أهم أدوات وآلیات التعاون الفعلی بین الدول المشترکة فی المجرى المائی، ومن ثم یناط بتلک اللجان وظائف عدیدة من أهمها قیام تلک اللجان بوضع إطار تنظیمی للسیاسات المعنیة بإدارة المجرى المائی على المدى القصیر أو الطویل، ثم تتولى هذه اللجان وظیفة تنفیذ وتطبیق تلک السیاسات، وفی سبیل قیام تلک اللجان بالوظائف السابقة، فإنها مطالبة بالتنسیق بین مصالح دول المجرى، وتقوم بجمع البیانات والمعلومات کافة التی یتم جمعها بشأن المجرى المائی للاستفادة منها فی تنمیة وحمایة المجرى. إن نجاح هذه اللجان فی القیام بأعمالها یتوقف على ضمان انتظام جمیع البیانات والمعلومات على مستوى دول المجرى، إذ قد تعترض هذا العمل بعض العقبات ومن بینها تحفظ بعض الدول على تبادل بعض البیانات والمعلومات بدواعی ارتباطها بأمنها القومی، وهناک عقبات أخرى تتعلق بالأمور الفنیة التی قد تؤدی إلى عدم اکتمال البیانات والمعلومات، ومن أمثلتها نقص البیانات والمعلومات فی بعض الدول لأسباب مرتبطة بالإدارة المائیة داخل إقلیمها_ وعلى سبیل المثال_ عدم تحدیث الوثائق التی تتضمن تلک البیانات وأیضاً ضعف عملیة جمع البیانات والمعلومات.
وقد ورد النص على مبدأ الالتزام بالتعاون فی مجال المجاری المائیة الدولیة فی العدید من المعاهدات الدولیة سواء کانت معاهدات جماعیة أو ثنائیة، کما هو الوضع فی الاتفاق المعنی بتنظیم میاه نهر الموز، حیث نص على المبدأ بصورته العامة، إذ جاء فی الفقرة الاولى من المادة (2) على وجوب التعاون فیما بین الدول الموقعة على الاتفاق، بروح من حسن الجوار، مع المساواة بین مصالحها الخاصة والمصالح المشترکة مع غیرها من الدول بقصد حفظ وتحسین نوعیة المیاه.
وهناک دول تذهب إلى مدى أبعد فی التعاون فتنشئ لجاناً أو أجهزة إداریة لتشجیع وتسهیل التعاون بین الدول الأطراف کما فی اتفاقیة عام 1963 المبرمة بین ألمانیا وسویسرا وفرنسا ولوکسمبورج وهولندا بشأن اللجنة الدولیة لحمایة نهر الراین من التلوث، وکذلک الاتفاق المبرم بین بلغاریا والیونان عام 1972 والخاص بإنشاء لجنة یونانیة _ بلغاریة للتعاون بین البلدین فی شؤون الطاقة واستخدام الأنهار العابرة بین البلدین.
وفی ضوء ما سبق یتضح لنا أن مبدأ الالتزام بالتعاون له طبیعة ملزمة ولیس مجرد إرشاد أو توجیه، وإن واقع التعامل الدولی قد استقر على مبدأ التعاون فی مجال استخدام المجاری المائیة الدولیة، ویعد الالتزام العام بالتعاون من المبادئ الجوهریة التی یتضمنها قانون المجاری المائیة الدولیة، وهو التزام ینمو وتظهر آثاره على صعید الواقع فی حالة تطبیق قواعد حسن الجوار وحسن النیة فیما بین الدول المشترکة فی شبکة مجاری مائیة دولیة، وهذا ما أکدته محکمة العدل الدولیة فی قضیة الولایة على مصائد الأسماک بین المملکة المتحدة وأیسلندا عام 1974 حیث أمرت الطرفین بإجراء مفاوضاتهما على أساس واجب کل منهما بان یولی اعتباراً مناسباً بحسن نیة للحقوق القانونیة للطرف الآخر، وکذلک فی الحکم الذی أصدرته بشأن تعیین الحدود البحریة فی بحر الشمال بین ألمانیا والدانمارک وهولندا الذی أکدت فیه وجوب التزام الدول بالتعاون فی حل خلافاتها بالتعاون على أساس حسن نیة.
الفرع الثالث
إعمال مبدأ الالتزام بالتعاون على الصعید الدولی
تتنوع المجالات التی یمکن فیها إعمال مبدأ الالتزام بالتعاون بین الدول المشترکة فی المجرى المائی، وتختلف مجالات إعمال مبدأ التعاون تبعاً لظروف کل مجرى مائی، وهکذا فإن التعاون بین الدول المشترکة فی المجرى المائی یبقى رهناً بالظروف الخاصة بکل مجرى مائی، ویمکننا القول أن أهم مجالات إعمال مبدأ الالتزام بالتعاون فی مجال المجاری المائیة تتمثل فی مجال التبادل المنتظم للبیانات والمعلومات، وفی مجال الإخطار المسبق وهذا ما سنتطرق إلیه فی سیاق الفرع الثالث على وفق ما یأتی:
المقصد الأول
التبادل المنتظم للبیانات والمعلومات
یعد التبادل المنتظم للبیانات والمعلومات واحداً من أهم مجالات إعمال مبدأ الالتزام بالتعاون بین الدول المشترکة فی المجرى المائی، انطلاقاً من أن المجرى المائی هو مورد طبیعی مشترک مرتبط کحدة جغرافیة واحدة تربط دوله طبیعیاً، مما یجعل استخدام أیة دولة للمیاه الموجودة داخل إقلیمها مؤثراً بشکل أو بآخر فی الدول الأخرى، الأمر الذی یدفع هذه الدول إلى التعاون للوصول إلى تحقیق أقصى استخدام لمیاه المجرى المائی المشترک فی ضوء مبادئ الاستخدام المنصف والمعقول، ومبدأ عدم إحداث الضرر، ولن یتأتى ذلک إلا بالتبادل المنتظم للبیانات والمعلومات بین دول المجرى المائی وتحدیداً من خلال تبادل البیانات المتعلقة بالظروف الطبیعیة للمجرى، والخطط المعدة من قبل دول المجرى لتنمیة وحمایة موارده المائیة.
ویعد النص على تبادل المعلومات والبیانات أمراً شائعاً فی الاتفاقیات التی تنظم مجالات مشترکة کالبیئة والفضاء الخارجی والأنهار الدولیة...الخ، إذ یعد تبادل المعلومات بین الأطراف المعنیة لإعداد قاعدة بیانات أمراً حیویاً ولا غنى عنه، وینصب تبادل البیانات والمعلومات على تلک البیانات المرتبطة بالخصائص الطبیعیة للمجرى، وکذلک الاستخدامات الحالیة والمستقبلیة له، مما یساعد على الوصول لتنمیة الموارد المائیة لذلک المجرى وحمایته من التلوث، وأیضاً یتم تبادل البیانات التی تتعلق بالطابع الهیدرولوجی، والحصص المائیة لدول المجرى، ومن البیانات التی تکون محلاً للتبادل، تلک الخاصة بالأرصاد الجویة المائیة، والجیولوجیا المائیة، وأیضاً تلک البیانات المتعلقة بالمیاه المتوافرة فی المجرى فی مکان وزمن معینین. وقد نصت المادة (9) من قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة لعام 1997 على القدر الأدنى المطلوب توفره للتبادل المنتظم للبیانات والمعلومات، وترجع أهمیة الالتزام بالتبادل المنتظم للبیانات والمعلومات فی أن تنفیذ الالتزامات الواردة فی المواد (7،6،5،) یقتضی حصول الدول بصفة دائمة على البیانات والمعلومات التی تمکنها من تقدیر الآثار التی قد تترتب على نشاطاتها المتعلقة بالمجرى المائی المشترک، فالتقصیر فی هذا الشأن یجعل من الصعب على الدولة أن تشعر بالقناعة بان استخدامها للمجرى المائی عادل ومعقول فی مواجهة دول المجرى المائی الأخرى على أساس منتظم، فضلاً عن ذلک، فإنه یکون من الصعب على دول المصب، على سبیل المثال، استخدامها للمجرى المائی الدولی استخداماً أمثل بدون المعلومات کتلک التی تتعلق بسقوط الأمطار ونوعیة المیاه وتدفقها فی الأجزاء العلیا من الحوض.
وتنص الفقرة الأولى من المادة (9) على أن تتبادل دول المجرى المائی البیانات والمعلومات المتوافرة عادةً عن حالة المجرى المائی، کأن تکون هذه البیانات والمعلومات قد جمعتها لاستعمالها الخاص أو التی یسهل الحصول علیها دون عناء خاص تبذله الدولة، ویمکننا القول أن دول المجرى المائی الدولی ملزمة کواجب قانونی عام بتوفیر المعلومات التی تکون تحت تصرفها بطریقة معقولة فقط، دون أن تبذل مجهوداً إضافیاً فی جمع هذه البیانات والمعلومات. وتلزم المادة (9/1) الدول أن تتبادل لیس فقط البیانات والمعلومات عن الحالة الراهنة للمجرى المائی الدولی، وإنما تلزمهم أیضاً بالتوقعات ذات الصلة بالموضوع، ولکن هذا الالتزام مشروط بأن تکون هذه التوقعات متوفرة عادةً، وبناءً على ذلک فان دول المجرى المائی الدولی غیر ملزمة بأن تقوم بجهود خاصة للوفاء بهذا الالتزام لصالح باقی دول المجرى المائی، وقد تتصل التوقعات المتوخاة بأمور مثل التغیرات الجویة وآثارها المحتملة على مستویات المیاه وتدفقها والأوضاع الجلیدیة المتوقعة، والآثار طویلة الأجل المحتملة للاستخدامات الحالة.
وتتعلق الفقرة الثانیة من المادة (9) بالطلبات الخاصة بالبیانات والمعلومات غیر المتوفرة عادةً لدولة المجرى المائی التی تطلب منها هذه البیانات والمعلومات، وینبغی أن تبذل الدولة المعنیة (قصارى جهدها) للامتثال للطلب، أی یجب أن تعمل هذه الدولة انطلاقاً من علاقات حسن الجوار وحسن النیة وبروح من التعاون، التی تجمع بین دول شبکة المیاه الدولیة، لتوفیر البیانات والمعلومات التی ترید دولة المجرى المائی الأخرى الحصول علیها. ولکی تکون هذه البیانات والمعلومات ذات قیمة عملیة لدول المجرى المائی، یجب أن تکون بشکل یسمح لهذه الدول باستخدامها، لذا تتطلب المادة (9/3) من دول المجرى المائی أن تبذل قصارى جهدها من أجل جمع البیانات والمعلومات، وتجهیزها، عندما یکون ذلک مناسباً، بطریقة تیسر الانتفاع بها. وقد استخدمت عبارة عندما یکون ذلک مناسباً لتوفیر قدر من المرونة اللازمة لأسباب عدیدة، ففی بعض الحالات، قد لا یکون ضروریاً توظیف البیانات والمعلومات لجعلها صالحة للاستعمال من دولة أخرى، وفی حالات أخرى قد یکون مثل هذا التوظیف ضروریاً لکفالة استخدام البیانات من دولة أخرى. وقد تطلب الدولة التی طلب منها جمع البیانات والمعلومات أعباء مالیة وفنیة إذا کانت هذه البیانات والمعلومات غیر متوفرة لدیها، وان جمعها سوف یکلفها الکثیر، فإنه یجوز لهذه الدولة على وفق المادة (9/2) أن یتوقف امتثالها على قیام الدولة الطالبة بسداد التکالیف المعقولة لجمع هذه البیانات أو المعلومات وتجهیزها.
وفی ضوء ما تقدم یمکننا القول أن التبادل المنتظم للبیانات والمعلومات بین دول المجرى المائی الواحد، یعد من أهم الواجبات القانونیة المرتبطة بمبدأ التعاون بین تلک الدول، بل یعد من أهم الضوابط الإجرائیة التی یقوم علیها مبدأ التعاون، ومن ثم فإنه من الضروری تطبیق هذا الواجب بین تلک الدول لما لهذا التبادل من أهمیة کبیرة فی تحقیق مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول وأیضاً مبدأ عدم التسبب بإحداث الضرر، ویساهم فی الوقت ذاته فی تنمیة الموارد المائیة المشترکة وحمایتها، کما أن التبادل المنتظم للبیانات والمعلومات المتعلقة بحالة المجرى المائی الدولی بین الدول المطلة علیه، یزود تلک الدول بالبیانات اللازمة لوفائها بالتزاماتها الداخلیة والخارجیة، اللازمة لخططها فی المستقبل.
المقصد الثانی
الإخطار المسبق
یعد الالتزام بالإخطار فی مجال استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة التزاماً جوهریاً وهو ضرورة حتمیة لتفادی الأضرار المترتبة على القیام بمشروعات جدیدة، وهو من الواجبات الأساسیة التی تنشأ عن مبدأ الالتزام بالتعاون بین الدول النهریة، کما أنه یؤدی إلى تجنب الکثیر من المنازعات التی یمکن أن تنشأ بین الدول النهریة وإلى تجنب تعکیر صفو العلاقات بین تلک الدول وذلک من خلال وسیلة بسیطة سهلة التنفیذ وتحقق المصلحة المشترکة لکل الدول المعنیة، وهذه القاعدة الإجرائیة تفرضها مبادئ الانتفاع المنصف والمعقول، وعدم الإضرار بالدول المشاطئة الأخرى، إذ تبقى هذه القواعد نظریة من دون تطبیق وبدون مفعول إذا لم تطبق معها القواعد الإجرائیة الخاصة بالتعاون، ویمثل الإخطار المسبق الحد الأدنى من التعاون الضروری بین الدول ذات الموارد المائیة المشترکة.
ویقصد بالإخطار المسبق أنه على دولة المجرى المائی التی تخطط لتنفیذ مشروع یستخدم المیاه العائدة لمجرى میاه دولیة، أن تخطر دولة أو دول المجرى المائی بالمشروع المرتقب من خلال البیانات العلمیة الدقیقة التی تتعلق بذلک المشروع وأن تمنحها فترة زمنیة مناسبة لدراسة المشروع وإبداء ملاحظاتها واعتراضاتها علیه إن وجدت، ویجب أن یکون الإخطار مصحوباً بالبیانات والمعلومات الفنیة المتاحة، بما فی ذلک نتائج أیة عملیة لتقویم الأثر البیئی من أجل تمکین الدولة التی تم إخطارها من تقییم الآثار الممکنة للتدابیر المزمع اتخاذها.
لکن السؤال الذی یقدم نفسه هنا هو: فی أی نوع من المشروعات ینبغی على الدولة تقدیم الإخطار؟.
وللإجابة عن السؤال أعلاه یمکننا القول أن المادة (12) من قانون استخدام المجاری المائیة الدولیة التی عالجت مسالة الإخطار المسبق لم تتطرق إلى بیان ماهیة المشاریع التی ینبغی إلزام الدولة بالإخطار المسبق عنها، ولکنها اکتفت بالإشارة إلى المشاریع التی یمکن أن یکون لها أثر ضار ذی شأن على الدول الأخرى المشترکة فی المجرى المائی.
ویمکننا هنا الاسترشاد بسیاسة البنک الدولی إذ تقوم سیاساته التمویلیة للمشاریع المرتبطة بالمجاری المائیة الدولیة على أساس إقرار مبدأ الإخطار المسبق باعتباره المبدأ الرئیسی الذی یحکم عملیات التمویل لأی مشروع مقام على مجرى مائی دولی، وقد أشارت سیاسة البنک الدولی إلى أنواع مشروعات بحد ذاتها ینطبق علیها واجب الإخطار المسبق وهی:
1. الکهرومائیة، أو الری، أو السیطرة على الفیضانات، أو الملاحیة، أو میاه الصرف ومیاه المجاریر، أو الصناعیة، أو مشروعات مشابهة، تشتمل على استخدام المجاری المائیة الدولیة أو تلوثها.
2. ولا بد من مخطط تفصیلی ودراسات هندسیة للمشروعات الواردة فی أعلاه بما فیه تلک التی سیضطلع البنک بها کجهة منفذة.
ولکن استثنت سیاسة البنک حالات معینة من الإخطار وهی:.
1. المشروعات التی تتضمن إضافات أو تعدیلات من خلال إعادة التأهیل أو الإعمار لمشروع جارِ، لن یؤدی حسب دراسات وتقدیر البنک إلى تغییر سلبی فی نوعیة أو کمیة تدفقات المیاه إلى مجرى الدول الأخرى.
2. مسوح مصادر المیاه ودراسات الجدوى حول المجاری المائیة أو المرتبطة بها.
وقد عالجت اتفاقیة الأمم المتحدة لقانون استخدام المجاری المائیة الدولیة فی الأغراض غیر الملاحیة مسألة الإخطار المسبق، إذ نصت المادة (12) من الاتفاقیة على التزام الدولة قبل قیامها أو السماح بتنفیذ تدابیر مزمع اتخاذها على إقلیمها ویمکن أن یکون لها ضرر ذی شأن على دول أخرى من دول المجرى المائی، بأن توجه إلى تلک الدولة أخطاراً بذلک فی الوقت المناسب (فی مرحلة مبکرة) أو فی مرحلة التخطیط للمشروع أو فی مرحلة سابقة للعمل الذی قد یؤثر فی میاه الدول الأخرى، وأن یکون الإخطار مصحوباً بالبیانات الفنیة المتاحة بما فی ذلک نتائج أی عملیة لتقییم الأثر البیئی، حتى تتمکن الدولة أو الدول التی یتم إخطارها من تقییم الآثار المحتملة للتدابیر المزمع اتخاذها، ویحق للدولة التی جرى إخطارها أن تطلب بیانات إضافیة من الدولة المخطرة، التی لا یحق لها مطلقاً أن تعطی معلومات مغلوطة أو ناقصة عن مشروعها، إذ ینتج عن ذلک تضلیل للدولة الأخرى، وهو ما فعلته ترکیا حین أعطت للعراق معلومات مغلوطة عن سد کیبان الذی کانت تخطط لبنائه، إذ أقرت أن السد سیخزن (9,3) ملیار م3 بینما کانت تخطط لسد یخزن (30) ملیار م3.
وتمهل المادة (13) من الاتفاقیة دولة المجرى المائی التی وجه إلیها إخطار على وفق المادة (12) فترة ستة أشهر تقوم خلالها بدراسة وتقییم الآثار الممکنة للتدابیر المزمع اتخاذها، ویمکن تمدید المدة المذکورة لمدة أخرى مماثلة بناء على طلب الدولة التی تم إخطارها والتی ینطوی تقییم التدابیر المزمع اتخاذها على صعوبة خاصة بالنسبة لها، ما لم یتم الاتفاق على خلاف ذلک. ولا یقتصر التزام الدولة على مجرد توجیه الإخطار بل یجب علیها خلال مهلة الرد أن تتعاون مع الدولة التی تم إخطارها وأن تزودها بناءً على طلبها بما هو متاح ولازم من المعلومات والبیانات الإضافیة لإجراء التقییم الصحیح کما تلتزم بعدم تنفیذ التدابیر المزمع اتخاذها أو السماح بتنفیذها بدون موافقة الدول التی تم إخطارها. إن الهدف من الإخطار لا یتوقف عند مجرد إحاطة الدول المعنیة علماً بهذه المشروعات بل یلزم اتفاق الأطراف على أن هذه المشروعات لن تؤدی إلى استخدام غیر منصف وغیر معقول، ولن تتسبب بأی ضرر ذی شأن، غیر أن هذا لا یعنی أنه یحق للدولة المراد إخطارها، أن تعرقل تنفیذ المشروع، بتأجیل ردها على الإخطار، لأنه بحسب رأی فقهاء القانون الدولی فإن مدة الشهور الستة کافیة لحد ما للدراسة والتقویم، فإذا وجدت الدولة التی تم إخطارها أن تنفیذ التدابیر المزمع اتخاذها لا یتفق مع أحکام المادة (5) أو المادة (7) فعلیها أن ترفق بالنتائج التی توصلت إلیها شرحاً مدعماً بالمستندات یبین الأسباب التی تقوم علیها هذه النتیجة وفقاً لأحکام المادة الخامسة عشر من الاتفاقیة.
أما إذا ورد اعتراض، فعلى الدول المعنیة التشاور والتفاوض بغیة تسویة النزاع فیما بین الأطراف المعنیة، وفی حالة عدم وصول أی اعتراض خلال فترة الإخطار فیحق للدولة البدء بتنفیذ مشروعها وذلک لأنه بحسب رأی المقرر الخاص السید شوبیل "إن التقاعس عن الرد یحرر الدولة صاحبة الاقتراح من القیود، والتقاعس عن تسلیم الدولة صاحبة الاقتراح ما یثبت (للدولة المبلغة) من ضرر جسیم محدد أو محتمل ضمن المهلة المتاحة، یسمح بإنجاز المشروع". إلا أن واجب الإخطار الوارد فی المادة (12) وما یلیها قد ورد علیه استثناء خطیر، قد یؤدی إذا ما أسئ استخدامه إلى نسف مفهوم الإخطار من أساسه، وهو ما ورد فی المادة (19) من الاتفاقیة، التی سمحت بالشروع الفوری فی تنفیذ التدبیر إذا کان تنفیذه بالغ الاستعجال لحمایة الصحة العامة أو السلامة العامة أو مصالح أخرى توازیها أهمیةً، على أنه ینبغی فی هذه الحالة أن تبلغ دول المجرى المائی دون إبطاء إعلاناً رسمیاً بما للتدابیر من صفة الاستعجال مشفوعاً بالبیانات والمعلومات ذات الصلة، وهو أمر خطیر لأن تعبیر دون إبطاء هو تعبیر مطاط، یمکن أن یمتد لفترة طویلة، وأن یساء استخدامه، فما هو المقیاس لتقدیر ما إذا کانت الدولة قد نفذت التزامها دون إبطاء أو أنها تباطأت، فالأمر فی نهایة المطاف عبارة عن مسألة نسبیة تتفاوت من دولة إلى أخرى وقد لا یوجد لها ضابط أو وازع.
وهکذا یتضح لنا أن الإخطار المسبق یعد من أهم الواجبات الناشئة عن إقرار مبدأ الالتزام بالتعاون فی مجال المجاری المائیة وذلک باعتباره من الإجراءات الواجب القیام بها، بهدف المساعدة فی اتخاذ القرار المناسب فیما یتعلق بالاستخدام الأمثل للمجاری المائیة الدولیة وحمایة مصالح الدول المحتمل تأثرها جراء تلک التدابیر التی تتخذها دولة أخرى من دول المجرى المائی المشترک، وإن الالتزام بالإخطار قاعدة عرفیة ولدت من الممارسات الدولیة واستطاعت بفضل التطور والممارسة المستمرة ومطالبة الدول، أن ترتقی لتصبح واجباً قانونیاً یتوجب على الدول احترامه والالتزام به.
الخاتمـة
بعد أن انتهینا من إعداد بحثنا الموسوم بـــ ((المبادئ القانونیة الناظمة لاستخدام میاه المجاری المائیة الدولیة)) نسجل أبرز الاستنتاجات التی توصلت إلیها الدراسة على وفق ما یأتی:
یقصد بالنهر الدولی "شبکة المیاه السطحیة والجوفیة التی تشکل بحکم علاقتها الطبیعیة ببعضها البعض کلاً واحداً وتتدفق صوب نقطة وصول مشترکة"، وقد جاء هذا المفهوم للمجرى المائی الدولی لیعکس التطور فی أوجه استخدام میاه النهر الدولی، فالاتجاه التقلیدی کان ینظر إلى النهر الدولی بأنه النهر الصالح للملاحة، ثم ظهر مفهوم حوض النهر الدولی والذی یأخذ فی اعتباره النهر ورافده بوصفه وحدة جغرافیة وبالتالی یأخذ فی مضمونه التوزیع العادل لمیاه النهر فی غیر الشؤون الملاحیة، ثم جاء المفهوم المعاصر الذی ینظر للنهر بوصفه شبکة میاه دولیة للدلالة على المفهوم المعاصر للأنهار الدولیة بوصفها مورداً طبیعیاً مشترکاً وما یتطلبه ذلک من ضرورة التعاون والتشاور بین دول الشبکة بصور أکثر ایجابیة لتحقیق أکبر فائدة منه.
یعنی مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لمیاه المجرى المائی یعنی تقاسم المیاه بطریقة منصفة بین دول الاستخدام، فلا یجوز لدولة بعینها أن تنفرد باستخدام میاه المجرى المائی من دون باقی الدول الأخرى المشترکة معها فی مورد طبیعی واحد إلا إذا وجد اتفاق یخولها هذا الحق، ولا یعنی أن المیاه ذاتها تنقسم إلى حصص متساویة، بل یعنی أن لکل دولة الحق فی استخدام میاه المجرى المائی بطریقة منصفة، ولیست المساواة المقصودة هنا مساواة فعلیة ولکنها مساواة منصفة ومعقولة وتتوقف على اعتبارات عدیدة یتم أخذها بنظر الاعتبار عند تقریر المصالح المتنازعة فیما بین الدول النهریة.
یفید مبدأ الالتزام بعدم إحداث الضرر بعدم جواز قیام دولة مشترکة فی مجرى مائی دولی أن تتخذ أی عمل أو تصرف من شأنه التأثیر فی الحقوق والمصالح المقررة للدول الأخرى المشترکة معها من دون تشاور واتفاق مسبق، کما لا یجوز لها القیام بأیة ترتیبات من شأنها الإضرار بالدول النهریة الأخرى کأن تتسبب بإحداث فیضان، أو إنقاص کمیة المیاه المتدفقة نحو دول المصب، أو تقلل من جودة المیاه بسبب صرف مخلفاتها الصناعیة فی مجرى النهر الأمر الذی یؤدی إلى تلویث المیاه أو زیادة ملوحتها بشکل یجعلها غیر صالحة للاستخدام الآدمی أو لأغراض الزراعة أو الصناعة أو غیر ذلک من النتائج التی تقلل فرص الدول الأخرى فی الاستفادة من میاه المجرى المائی کما ینبغی على وفق الأحوال العادیة.
یکمل مبدأ الالتزام بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى مبدأ الالتزام بالانتفاع المنصف والمعقول، ویتقید حق دول المجرى فی الانتفاع بــ (شبکة) المجرى المائی الدولی بطریقة منصفة ومعقولة فی واجب تلک الدولة بعدم التسبب فی ضرر ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى، إذ یکون الانتفاع بــ (شبکة) مجرى مائی دولی انتفاعاً غیر منصف إذا تسبب فی ضرر ذی شأن لدول المجرى المائی الأخرى.
یستهدف مبدأ الالتزام بالتعاون فی مجال المجاری المائیة الدولیة الحصول على الاستخدام الأمثل لموارد المیاه والعمل على توفیر الحمایة المناسبة لتلک الموارد، وهو التزام ضروری وحیوی لتفعیل الاستخدام المثمر للموارد الطبیعیة المشترکة، وتتمثل المجالات التی یلزم التعاون فیها، فی تنمیة الموارد المائیة المتاحة وحسن استخدامها، وتوفیر البنیة التحتیة اللازمة لصیانتها وحسن إدارتها ومنع الهدر فیها.
لمبدأ الالتزام بالتعاون طبیعة ملزمة ولیس مجرد إرشاد أو توجیه، وإن واقع التعامل الدولی قد استقر على مبدأ التعاون فی مجال استخدام المجاری المائیة الدولیة، ویعد الالتزام العام بالتعاون یعد من المبادئ الجوهریة التی یتضمنها قانون المجاری المائیة الدولیة، وهو التزام ینمو وتظهر آثاره على صعید الواقع فی حالة تطبیق قواعد حسن الجوار وحسن النیة فیما بین الدول المشترکة فی شبکة مجاری مائیة دولیة.
یعد التبادل المنتظم للبیانات والمعلومات بین دول المجرى المائی الواحد، یعد من أهم الواجبات القانونیة المرتبطة بمبدأ التعاون بین تلک الدول، بل یعد من أهم الضوابط الإجرائیة التی یقوم علیها مبدأ التعاون، ومن ثم فإنه من الضروری تطبیق هذا الواجب بین تلک الدول وذلک لما لهذا التبادل من أهمیة کبیرة فی تحقیق مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول وأیضاً مبدأ عدم التسبب بإحداث الضرر، ویسهم فی الوقت ذاته فی تنمیة وحمایة الموارد المائیة المشترکة، کما أن التبادل المنتظم للبیانات والمعلومات المتعلقة بحالة المجرى المائی الدولی بین الدول المطلة علیه، یزود تلک الدول بالبیانات اللازمة لوفائها بالتزاماتها الداخلیة والخارجیة، وأیضاً اللازمة لخططها فی المستقبل.
یعد الالتزام بالإخطار فی مجال استخدام میاه المجاری المائیة الدولیة التزاماً جوهریاً وهو ضرورة حتمیة لتفادی الأضرار المترتبة على القیام بمشروعات جدیدة، وهو من الواجبات الأساسیة التی تنشئ عن مبدأ الالتزام بالتعاون بین الدول النهریة، کما أنه یؤدی إلى تجنب الکثیر من المنازعات التی یمکن أن تنشأ بین الدول النهریة وإلى تجنب تعکیر صفو العلاقات بین تلک الدول بوسیلة بسیطة سهلة التنفیذ وتحقق المصلحة المشترکة للدول المعنیة کلها.
The Author declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English) and References (English)
First: Books
1. Dr. Ahmed Abu Al-Wafa, Mediator in Public International Law, Dar Al-Nahda Al Arabiya, Fourth Edition, Cairo, Egypt, 2004.
2. Dr. Ahmed Al Mufti, Study on the Convention on the Law of the Non-navigational Uses of International Watercourses, New International Rivers Law and Arab Interests, Arab Research and Studies Institute, Cairo, Egypt, 2001.
3. Bader Al-Kassem, The International Law Perspective in the International River Pricing Proposition, Without a Publication, Geneva, D., 1994.
4. Dr. Beshir Juma 'Abd al-Jabbar al-Kubaisi, Transboundary Harm to Activities Not Presented by International Law, First Edition, Halabi Human Rights Publications, Beirut, Lebanon, 2013.
5. Dr. Jafar Abdel Salam, Principles of Public International Law, Second Edition, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, Egypt, 1986.
6. Dr. Gamal Abdel Nasser Mana, Public International Law, First Edition, University Thought House, Alexandria, Egypt, 2010.
7. Dr. Hamid Sultan, d. Aisha Rateb, d. Salah al-Din Amer, International Law, Fourth Edition, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1987.
8. Dr. Riad Saleh Abu Al-Atta, International Public Law, First Edition, Ithraa Publishing and Distribution, Amman, Jordan, 2010.
9. Dr. Subhi Ahmed Zuhair Al - Adli, The International River Concept and Reality in Some Rivers of the Arab Orient, First Edition, Center for Arab Unity Studies, Beirut, Lebanon, 2007.
10. Dr. Said Salem Joueili, The Principle of Abuse of the Right to Public International Law, Arab Thought House, Cairo, Egypt, 1985.
11. Dr. Salah Eddin Amer, Introduction to the study of general international law, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 2007.
12. Dr. The General Theory of the Principle of Good Neighborliness in Public International Law, First Edition, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, Egypt, 2003.
13. Dr. Ali Ibrahim, Law of Rivers and International Watercourses, Arab Renaissance House, Cairo, Egypt, 1997.
14. Dr. Ali Sadiq Abu Heif, General International Law, 17th Edition, Al Ma'arif Establishment, Alexandria, Egypt, 1992.
15. Dr. Ghassan Al-Jundi, The Legal Status of International Watercourses, Dar Wael Publishing, Amman, Jordan, 2001.
16. Dr. Mohsen Afkairin, International Public Law, First Edition, Arab Renaissance House, 2005.
17. Dr. Mahmoud Abdelmoumen Mahfouz, Egypt 's Rights in Nile Water in light of the International Law of Rivers, Dar Al - Nahda Al - Arabiya, Cairo, Egypt, 2009.
18. Dr. Assistant of Abdel Ati Shteiwi, Legal Rules Governing the Uses of International Rivers in Non-Maritime Affairs, Dar Al-Nahda Al Arabiya, Cairo, Egypt, 2012.
19. Dr. Mustafa Sayed Abdel Rahman, Law on the Use of International Rivers in Non-Navigational Affairs and its Application on the Nile River, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, Egypt, 1991.
20. Dr. Mansour Al-Adly, Water Law, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, Egypt, 1999.
21. Dr. Mansour Al-Adly, Water Resources in the Middle East, Conflict or Cooperation under the Norms of International Law, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, Egypt, 1996.
22. United Nations, Law on the Non-navigational Uses of International Watercourses of the United Nations General Assembly at its fifty-first session, United Nations, vol. III, 1997.
Second: Research and Legal Studies
1. Dr. Ali Jabbar Kredi Al-Qadi, The International Legal System for the Exploitation of International River Waters between Neighboring States, Gulf Arab Journal, Volume 41, No. (2.1), University of Basra, Iraq, 2013.
2. Dalal Bahri, The Importance of International Law for International Rivers in the Stability of International Water Relations: A Case Study of the Tigris and Euphrates Rivers, The Arab Future Journal, Center for Arab Unity Studies, Beirut, Lebanon, 1990.
3. Dr. Said Salem Joueili, Fanon of International Rivers, Research published in the Third Annual Conference of Assiut University, Arab Water and Challenges of the 21st Century, 1998.
4. Dr. Mohsen Kazem, Water War, Turkish Aliso Dam and its Impacts on Iraq, Research Department, Iraqi Council of Representatives, Third Electoral Session, Baghdad, Iraq, 2013.
Third:. International treaties and conventions
1. The Law on the Use of International Watercourses in Non-navigational Affairs 1997.
2. Vienna Convention on the Law of Treaties of 1969.
Fourth: Foreign sources
1. Berber f.j. rivers in international law, London, Stevens, 1959.
2. De vattel, the Law of Nations, 1952.
3. Stephen mccaffery, international organization and the holistic approach to water problems, vol. 36, see as well fao, 1991.
4. Stephen M. schwebel, Special Reporter, Third report on the law of the non navigate onal uses of international watercourses, A CN.4 348 and corr.1, Website: untreaty .un.org ilc documentation english a-cn4-348.pdf.