الملخص
الغلو او عدم التناسب هو عدم توافق سبب القرار مع محله, ای عدم توافق الاساس القانونی للإدارة فی قرارها مع الأثر المترتب على هذا القرار، إذ یقتضی التناسب دائما عدم الغلو ای توافق السبب مع المحل.
ویتحقق الغلو لیس بالإفراط بفرض العقوبة الشدیدة فحسب و انما ایضا فی جانب التفریط ای التساهل المفرط و الشفقة الزائدة لان الافراط فی العقوبة مما سوف یؤدی الى الامتناع الافراد و فقدانهم الثقة فی التعامل مع الادارة ومن ثم یصدون من العمل بالمرافق العامة مما سیؤدی الى تعطیل سیرها، ولا الشفقة و التساهل الشدید إذ یستهزئ الموظف ویسخر من العقوبة و یحصل حالة تمرد و طغیان تعطل المرفق العام کذلک.
أن معیار الغلو هو معیار موضعی و لیس شخصی قوامه عدم التناسب بین سبب القرار و محله المتمثل بالآثار المترتبة على القرار، ای وجوب ان یکون هناک تناسب بین جسامة الفعل المرتکب من المتعامل مع الادارة و الجزاء المفروض الذی یجب ان یکون الفعل و جسامته لیسوغ اتخاذ القرار او الجزاء.
الموضوعات
أصل المقالة
الغلو فی القرار الاداری-(*)-
قیدار عبد القادر صالح نکتل ابراهیم عبد الرحمن کلیة الحقوق/ جامعة الموصل کلیة الحقوق/ جامعة الموصل Kedar Abdul Qadir Saleh Naktel Ibrahim Abdul Rahman College of law / University of Mosul College of law / University of Mosul Correspondence: Kedar Abdul Qadir Saleh E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 7/5/2014 *** قبل للنشر فی 28/3/2018.
(*) Received on 7/5/2014 *** accepted for publishing on 28/3/2018
Doi: 10.33899/alaw.2018.160774
© Authors, 2018, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
المستخلص
الغلو او عدم التناسب هو عدم توافق سبب القرار مع محله, ای عدم توافق الاساس القانونی للإدارة فی قرارها مع الأثر المترتب على هذا القرار، إذ یقتضی التناسب دائما عدم الغلو ای توافق السبب مع المحل.
ویتحقق الغلو لیس بالإفراط بفرض العقوبة الشدیدة فحسب و انما ایضا فی جانب التفریط ای التساهل المفرط و الشفقة الزائدة لان الافراط فی العقوبة مما سوف یؤدی الى الامتناع الافراد و فقدانهم الثقة فی التعامل مع الادارة ومن ثم یصدون من العمل بالمرافق العامة مما سیؤدی الى تعطیل سیرها، ولا الشفقة و التساهل الشدید إذ یستهزئ الموظف ویسخر من العقوبة و یحصل حالة تمرد و طغیان تعطل المرفق العام کذلک.
أن معیار الغلو هو معیار موضعی و لیس شخصی قوامه عدم التناسب بین سبب القرار و محله المتمثل بالآثار المترتبة على القرار، ای وجوب ان یکون هناک تناسب بین جسامة الفعل المرتکب من المتعامل مع الادارة و الجزاء المفروض الذی یجب ان یکون الفعل و جسامته لیسوغ اتخاذ القرار او الجزاء.
Abstract
Excess or lack of proportionality is because of disproportion of the reason of the decision with its subject . Any incompatibility of the legal basis for the administration in its decision with the impact of this decision، as the proportionality usually requires no huperbole that means the incompatibility of the reason with the subject .
Hyperbole can be achieued not only by the excessive impose of severe pumishment . but also on the side of excession lie . the exassive compromise، indulgence and exassive compassion becase the excessive pamishment will lead to the rejection of individuals and their loss of confidence in dealing whith the administration، and therfor thay will debar from working with the excessive pamishment will lead to the rejection of individuals and their loss of confidence in dealing with the administration ، and therefore they will deber from working with pablicutilities and this will lead to the diraption of its progress . Not pity، the extreme leniency would make the employee beriolicluoys of administration punishment and gets the case of rebellion and tyranny as well as the disruption of publicutility . The criterion of hyperbole is a objective standard، not a personal that strengthen mismatch between the reason of the administrative decision and its subject which are considered its ultimate effects، ine . there must be proportionality between the gravity of the act committed by a trader with the administration with the penalty imposed and that must be the act and gravity justified to make the decision or to impose punishment .
المقدمـة
یدرک المتتبع للقضاء الاداری من دون عناء انهُ قضاء متطور یزید من نطاق اختصاصهِ للتحقق من مشروعیة قرارات الادارة وسار هذا التطور جنباً الى جنب مع تطور عمل اجهزة الادارة فی المجتمعات الحدیثة التی غایتها ضمان حسن سیر المرفق العام بانتظام واطراد لإشباع الحاجات العامة وتقدیم افضل الخدمات للأفراد.
واستقر نهج القضاء الاداری اولاً على عدم رقابة مدى ملاءمة قرارات الادارة عل أساس ان السلطة التقدیریة للإدارة لا معقب علیها من القضاء والا اصبح القاضی هو رجل ادارة, ولکن حصول تعسف وظلم یلحق الافراد فی أثر القرار غیر المتناسب الصادر من الادارة الذی یظهر جلیاً فی أثارهِ, هذا الأمر دفع القضاء الى التدخل وممارسة حقهِ فی الرقابة على التناسب وضمان عدم غلو الادارة فی قراراتها للحیلولة من دون الأخلال بمبدأ الموازنة بین فاعلیة اجهزة الادارة وکفالة وحمایة المتعامل معها وهذا ما أطلق علیهِ بقضاء الغلو وبالشکل الذی لا یتعارض مع مبدأ الفصل بین السلطات.
اهمیة البحث:
تأتی اهمیة موضوع البحث من قلة تناولهِ من الباحثین فی قطرنا ولا سیما اذا علمنا ان مجال السلطة التقدیریة للإدارة قد شابه عدم تناسب فی کثیر من قرارات الادارة اما لاحتوائها لعیب الانحراف لتحقیق غایات غیر المصلحة العامة او کون القرار المتخذ یشکل اعتداء مادیاً من خلال صدورهِ من جهة لم یحدد المشرع انها صاحبة اختصاص فی هذا المجال, خاصة وان مجالات هذه الرقابة هی فی حقول لها مساس بحیاة المواطن سواء فی مجال الضبط الاداری للحفاظ النظام العام او فی جانب العقوبات التأدیبیة للموظف او المجالات الحدیثة للتناسب مثل الموازنة بین المنافع والاضرار او حتى مدى تناسب قرارات الادارة فی فرض الجزاءات على المتعاقد معها.
نطاق البحث:
یتحدد نطاق البحث عن الغلو بنوعیهِ الافراط والتفریط, مع تأکید ان قضاء الغلو والدور الذی یمارسهُ القضاء على أساس هذه الرقابة وهذا القضاء هو الضمانة الاساسیة لحمایة الحقوق والحریات من تعسف الادارة وتجاوزها لحدود تعاملها مع الافراد مما یشکل تهدیداً للحقوق والحریات.
الهدف من البحث:
یهدف هذا البحث لفت نظر القضاء الاداری فی العراق بوجوب تفعیل هذه الرقابة وبشکل کبیر, ولا سیما ان میدان هذه الرقابة یترکز فی جانب المنازعات الاداریة التی تشکل قرارات الادارة النسبة الاکبر منها مما یُعرض الافراد المتعاملین مع الادارة لتعسف من الادارة وظلمها وجورها لعدم تناسب قراراتها.
فرضیة البحث:
تقوم فرضیة البحث على بیان مدى دور قضاء الغلو واثرهُ فی قرارات الادارة, لتصحیح مسارها فی حالة غلوها وتجاوزها الحد المسموح بهِ مما یؤدی الى أما الافراط بالمصلحة العامة او التفریط بحقوق المتعامل معها وهل ان رقابة التناسب تقتصر على الوجود المادی للوقائع ومدى صحة التکییف القانونی لها ام ان هذه الرقابة اتسعت لتشمل ایضاً مدى التناسب من عدمهِ فی قرارات الادارة.
مشکلة البحث:
تدور مشکلة البحث فی قلة النصوص القانونیة أو انعدامها التی تتناول قضاء الغلو, فضلاً عن ضعف الرقابة القضائیة على الادارة للحیلولة من دون وقوعها بالغلو لمعرفة مدى الانحراف او الاعتداء والمخالفة التی ترتکبها الادارة التی یکون لها اثر سلبی على حسن سیر المرافق العامة.
منهجیة البحث:
سنعتمد فی بحثنا هذا على المنهج التحلیلی لقضاء الغلو ومدى التطور الذی بلغهُ فی العراق مقارنةً ببلدان اخرى مثل فرنسا ومصر, خاصة بعد ان اصبح التناسب مبدأ اساسیاً فی دساتیر غالبیة الدول ومعمول بهِ فی جمیع فروع القانون.
هیکلیة البحث:
للإحاطة بموضوع البحث سیتم تقسیمهُ الى ثلاثة مباحث على وفق الخطة الأتیة:
المبحث الأول: ماهیة الغلو
المطلب الأول: تعریف الغلو
الفرع الأول: تعریف الغلو فقهاً
الفرع الثانی: تعریف الغلو قضاءً
أولاً: فی مصر
ثانیاً: فی العراق
المطلب الثانی: الطبیعة القانونیة للغلو
المبحث الثانی: مضمون الغلو ونظریة الخطأ الظاهر فی التقدیر
المطلب الأول: مضمون نظریة الغلو
الفرع الاول: أسباب الغلو
الفرع الثانی: حالات تحقق الغلو ومعیاره
أولا: حالات تحقق الغلو
ثانیاً: معیار الغلو
المطلب الثانی: نظریة الخطأ الظاهر فی التقدیر
الفرع الأول: تعریف الخطأ الظاهر فی التقدیر
أولاً: تعریف الخطأ الظاهر لغةً
ثانیاً: تعریف الخطأ الظاهر فی الفقه الفرنسی
ثالثاً: تعریف الخطأ الظاهر فی الفقه العربی
الفرع الثانی: مضمون نظریة الخطأ الظاهر فی التقدیر
أولاً: اسباب نظریة الخطأ الظاهر
ثانیاً: حالات تحققنظریة الخطأ الظاهر
ثالثاً: معیار النظریة
الخاتمة.
المبحث الأول
ماهیة الغلو
سنتکلم فی هذا المطلب عن ماهیة الغلو فی مطلبین نتناول فی الأول تعریف الغلو وفی المطلب الثانی نتکلم عن الطبیعة القانونیة للغلو.
المطلب الأول
تعریف الغلو
ان مقتضى التناسب ألا تغلو السلطة المعنیة بتحدید الجزاء فی اختیاره, ولا ترکب متن الشطط فی تقدیره, وانما علیها أن تتخذ ما یکون على وجه اللزوم ضروریاً لمواجهة الخرق القانونی أو المخالفة الاداریة, وما یترتب علیها من آثار, وما فیه القدر المتیقن من معقولیة لردع المخالف وزجر غیرهِ على ارتکاب ذات الفعل, لذا تکون ضوابط العقاب موضوعیة, ویُعد کل تجاوز لها استبداداً ینبغی رفضهُ.
یعطی هذا الکلام الذی سبق ذکره تأکیداً لمبدأ التناسب بین الفعل والجزاء وترسیخه الذی یؤکد مبدأ اساس وجوب توافق السبب مع خطورة واثار الجزاء من دون شطط, مما یمکن ان نطلق علیه الغلو, لذا سنتناول تعریف الغلو فی فرعین الأول فی الفقه والثانی فی القضاء.
الفرع الأول
تعریف الغلو فقهاً
یجد بعض الفقهاء ان الغلو اساسه هو وجوب التناسب بین العقوبة والمخالفة وهو احد الأصول العقابیة الحدیثة والتی تفرضها مقتضیات العدالة من دون افراط بالشدة وعدم الاسراف فی الشفقة, لأن الافراط والتفریط فی تقریر العقوبة الاداریة کلاهما ضد المصلحة العامة ولا یحقق الغایة من العقاب.
وهناک من یجد ان الغلو یمکن ان یحصل اذا أتسم الحکم او القرار التأدیبی بعدم الملاءمة الظاهرة بین درجة خطورة المخالفة التأدیبیة وبین نوع الجزاء ومقدارهِ وترد الرقابة على هذه المسألة الادارة الى جادة الصواب اذا ما جنحت فی المبالغة.
عرف البعض الغلو بأنه (اداة قضائیة أبتدعها مجلس الدولة المصری لمواجهة عدم التناسب الجسیم بین العقوبة التأدیبیة الموقعة وبین المخالفة المرتکبة, وأیا کانت طبیعة السلطة التأدیبیة وسواء کان ذلک بالإفراط فی العقاب أو بالتفریط فیه بما یشکل اخلالاً بالصالح العام وفقاً للمعیار الموضوعی على النحو الذی یهدر الهدف المنشود من العملیة التأدیبیة).
یتضح من هذا التعریف انه قد اشترط عدم التناسب الجسیم بین العقوبة والمخالفة, وان لا یؤثر عدم التناسب البسیط فی قرار الادارة مادام انها قد حققت الغایة من القرار طالما کان عدم التناسب البسیط فی اطار محدود ومعقول, ونجد ان عدم التناسب البسیط هو الذی یحقق حدود السلطة التقدیریة للإدارة فی ان تتصرف بحریة إذ انهُ لیس من المعقول ان تحقق الادارة تطابقاً تاماً فی مسألة التقدیر لأنها حالة مثالیة لا یمکن تحققها.
وجعل هذا التعریف عدم تحقق الغلو هو وسیلة لتحقیق الهدف من عملیة التناسب وهو یحقق الموازنة بین فاعلیة اجهزة الادارة وضمانات الموظفین ومن ثم تطلب هذه العملیة من اجل ضمان حسن سیر المرفق العام بانتظام واطراد.
ویقول د. سلیمان محمد الطماوی ان الغلو هو (عدم الملاءمة الظاهرة بین درجة خطورة الذنب الاداری وبین نوع الجزاء ومقداره, والا اصبحت سلطة الادارة فی هذا المجال غیر مشروعة).
ویرى د. سامی جمال الدین ان قضاء الغلو بما یحویه من رقابة مدى التناسب بین الفعل والجزاء یحول دون تعسف الادارة فی استعمال سلطتها التقدیریة الممنوحة لها بموجب القانون.
وذکر د. محمد جودت الملط ان الغاء قرار الجزاء فی حالة الغلو لا یتعارض مع حریة السلطة التأدیبیة فی تقدیر خطورة الجریمة التأدیبیة وما یلائمها من عقوبة, الا ان العقوبة تکون غیر مشروعة اذا جاوزت کل حد معقول وکان عدم التناسب بین العقوبة والجریمة صارخاً تأباه روح القانون.
وعرف الغلو ایضاً بأنه عدم التناسب الشدید بین الجزاء الذی وقعته السلطات التأدیبیة او حکمت بهِ المحکمة التأدیبیة والمخالفة التی فی شأنها وُقِعَ هذا الجزاء.
وعرف ایضاً بأنه عدم التناسب بین سبب القرار ومحلهِ, تباشر المحکمة فیه رقابتها الصارمة على مدى ملاءمة القرار التأدیبی.
الفرع الثانی
تعریف الغلو قضاءً
سنتناول تعریف الغلو فی القضائین المصری والعراقی کلیهما وذلک بصورة مستقلة, ولم یعرف القضاء الفرنسی الغلو وانما عرف نظریة الخطأ الظاهر فی التقدیر.
أولاً: فی مصر
لم نجد تعریفاً محدداً للغلو فی القضاء لکنه حاول جاهداً اعطاء مدلول واضح للغلو, ونجد بالرجوع الى احکام المحکمة الاداریة العلیا فی مصر انها فی حکم لها صادر بتاریخ 11 نوفمبر 1961 أقرت هذا المبدأ الذی یعد من بعض الکتاب (شعلة مضیئة فی طریق الحق والعدل وزینت بهذا الحکم صدر قضائنا الاداری), إذ تعد هذه المحکمة عیب الغلو هو من عیب مخالفة القانون إذ تضمن الحکم ((ولئن کانت للسلطة التأدیبیة ومن بینها المحاکم التأدیبیة سلطة تقدیر مدى خطورة الذنب الاداری وملاءمة الجزاء الموقع له دون معقب علیها فی ذلک الا أن مناط مشروعیة هذه السلطة شأنها شأن ای سلطة تقدیریة أخرى الا یشوب استعمالها غلو ومن صور هذا الغلو عدم الملاءمة الظاهرة بین درجة خطورة الذنب الاداری ونوع الجزاء ومقدارهِ, ففی هذه الصورة تتعارض نتائج عدم الملاءمة الظاهرة مع الهدف الذی ابتغاه القانون من التأدیب وهو بوجه عام تأمین وضمان سیر المرافق العامة بانتظام واطراد, ولا یتحقق ذلک الا اذا کان الجزاء مناسباً للذنب ولا ینطوی على مفارقة صارخة بینهما فرکوب متن الشطط فی القسوة یؤدی لإحجام عمال المرافق العامة عن حمل المسؤولیة خشیة التعرض لهذه القسوة الممعنة فی الشدة, کما أن الافراط فی الشفقة یؤدی لاستهانتهم بأداء واجباتهم طمعاً فی هذه الشفقة المفرطة فی اللین فکل من طرفی النقیض لا یؤمن انتظام سیر المرافق العامة وبالتالی یتعارض مع الهدف الذی یسعى الیه القانون من وراء التأدیب. وعلى هذا الاساس یعتبر اساءة استعمال السلطة التقدیریة فی اختیار الجزاءات مشوباً بالغلو فیخرج التقدیر من نطاق المشروعیة الى عدم المشروعیة فی هذه الصورة لیس شخصیاً بل موضوعیاً قوامهُ ان درجة خطورة الذنب الاداری لا تتناسب البته مع نوع الجزاء ومقدارهِ. وجدیر بالذکر ایضاً ان تعیین الحد الفاصل بین نطاق المشروعیة ونطاق عدم المشروعیة فی الصورة المذکورة مما یخضع ایضاً لرقابة هذه المحکمة)).
یعد هذا الحکم الشرارة التی جعلت القضاء الاداری ینحو مسلک تحقیق الرقابة على تناسب القرار الاداری بین السبب والمحل ولا سیما فی مجال التأدیب اولاً, ثم فی الاتجاهات الحدیثة توسع نطاق الغلو لیشمــل مجالات اخرى منهــا الضــبطـ الاداری والموازنة بین المنافع والاضرار على غرار القضاء الفرنسی.
وقد تأکد هذا التوجه لدى القضاء الاداری المصری فی الأحکام الحدیثة للمحکمة الاداریة العلیا ففی حکم لها فی الطعن المقدم الیها المرقم 7262 لسنة 50ق.ع- جلسة 22/2/2009 نص على ((ولئن کانت لسلطة التأدیب تقریر خطورة الذنب الاداری وما یناسبهُ من جزاء بغیر معقب علیها فی ذلک, الا ان مناط مشروعیة هذه السلطة شأنهُ شأن ای سلطة تقدیریة أخرى الا یشوب استعمالها غلو, ومن صور هذا الغلو عدم الملاءمة الظاهرة بین درجة خطورة الذنب وبین نوع الجزاء ومقدارهِ, ففی هذه الحالة یخرج التقدیر عن نطاق المشروعیة الى نطاق عدم المشروعیة, ومن ثم یخضع لرقابة هذه المحکمة)).
وحکمها الصادر فی 15/7/1995 إذ اکدت فیه ((تتمتع السلطات التأدیبیة ومن بینها المحاکم التأدیبیة بسلطة تقدیر خطورة الذنب الاداری وما یناسبهُ من جزاء بغیر معقب علیها فی ذلک- مناطً مشروعیة هذه السلطة الا یشوبها غلو- من صور الغلو: عدم الملاءمة الظاهرة بین درجة خطورة الذنب الاداری ونوع الجزاء ومقدارهُ لأن رکوب متن الشطط فی القسوة یؤدی الى احجام عمال المرافق العامة عن تحمل المسؤولیة خشیة التعرض لهذه القسوة بینما الأفراط المسرف فی الشفقة یؤدی الى الاستهانة فی الواجب طمعاً فی هذه الشفقة المفرطة فی اللین- معیار عدم المشروعیة فی هذه الحالة لیس معیاراً شخصیاً وانما هو معیار موضوعی قوامهُ عدم تناسب درجة خطورة الذنب الاداری مع نوع الجزاء ومقداره- تعیین الحد الفاصل بین نطاق المشروعیة وعدم المشروعیة یخضع لرقابة المحکمة الاداریة العلیا.
ثانیاً: فی العراق
ونلحظ فی العراق أن القضاء العراقی قد اکد وجوب عدم الغلو فی العقوبة لأن الغلو یتعارض مع الهدف الذی توخاه القانون من التأدیب من ذلک حکم مجلس الانضباط العام بقوله ((.....حیث أن الغلو فی العقوبة یتعارض مع الهدف الذی توخاه القانون من التأدیب وبما أن ملابسات القضیة وظروفها لا تستلزم ما یدعو الى هذه الشدة وان اللجنة عند فرضها العقاب لم تراع ذلک وما یتعین تعدیل قرارها وانزال عقوبتهِ الى الحد المتلائم مع جریمتهِ وبناءً على ما تقدم قرر تخفیف العقوبة وجعلها التوبیخ بدلاً من تنزیل الدرجة وتعدیل قرار لجنة الانضباط المعترض علیه المؤرخ 25-11-1972 على هذا الوجه صدر القرار بالاتفاق وانهم فی 23-1-1973)).
عرف القضاء العراقی فی خلال مجلس الانضباط العام الغلو بشقیهِ التخفیف والشدة-الافراط والتفریط- ویتضح ذلک فی حکمین الأول ضمنته وجوب تشدید العقوبة إذ نص (.....وحیث ان المعترض علیهما قد خالفا لواجبات وظیفتهما وعلیه ولما تقدم یکون قرار التجریم الخاص بهما بالنظر لما استند الیه من اسباب موافقاً للقانون قرر تصدیقهِ ولدى عطف النظر الى العقوبة وجد انها خفیفة لا تتناسب مع خطورة عمل المعترض علیهما وغیر رادعة لهما لاسیما وجود سوابق عدیدة ضدهما وعلیه قرر المجلس تشدید عقوبة کل من المعترض علیهما وجعلها التوبیخ بدلاً من قطع قسط عشرة أیام من راتب کل منهما وتعدیل قرار اللجنة.....).
وضمن المجلس الحکم الثانی فی تخفیف العقوبة إذ نص (ان المخالفة التأدیبیة تکون مستقلة عن التهمة الجنائیة واساسها مخالفة الموظف لواجبات الوظیفة.....ولما کان الهدف من العقاب هو الزجر والردع لا الانتقام فتوقیع الجزاء یجب ان یکون بالقدر الذی یقوم اعوجاج الموظف ویحفزهُ لمعاودة السیر على النهج السلیم ویجب ان تکون متناسبة مع خطورة الذنب الاداری وبناءً علیه ولما کانت الافعال التی قام بها المعترض لم تکن من الجسامة بحیث تبرر معاقبتهِ بعقوبة تنزیل الدرجة وبناءً علیه قرر تخفیض عقوبتهِ ومعاقبتهِ بانقاص راتبهِ الشهری بنسبة 10% لمدة سنتین وتعدیل قرار لجنة الانضباط المؤرخ......).
ویجد الباحث بعد استعراض الغلو فی الفقه والقضاء أن التناسب هو الاساس القوی والسلیم الذی یحول من دون احتواء قرار الادارة على الغلو سواء فی الافراط بالعقوبة او التفریط فی الشفقة مما یجعل القرار مشوباً بعیب عدم المشروعیة, مما یحتم على رجل الادارة تحری اقصى درجات التوافق ما بین سبب القرار ومحلهِ, هذا من جانب ونلحظ من جانب اخر ان القضاء العراقی والمتمثل فی مجلس الانضباط العام فی القرارات التی ذکرناها فی هذا الجانب انه قد أقر الغلو واسس له بشکل سلیم فی احکامهِ فی شقیهِ الافراط والتفریط, إذ لحظنا ان المجلس قد اعطى لنفسه- مثله مثل المحکمة الاداریة العلیا فی مصر- حق تعدیل العقوبة التی فرضتها لجنة الانضباط بالتشدید او التخفیف انطلاقاً من مبدأ تحقیق العدالة والتدرج فی العقوبات بما یتناسب مع الواقعة وهذا الاتجاه محمود لمجلس الانضباط العام إذ یسعى فی ذلک الى تأکید اساس فی عمل الادارة وهو الزامها بوجوب البحث عن التناسب فی قراراتها قبل الطعن بها.
المطلب الثانی
الطبیعة القانونیة للغلو
اختلفت الآراء بین الفقهاء بخصوص بیان الأساس القانونی للغلو, وسوف نستعرض هذه الآراء بشکل مختصر لکی تعم الفائدة واستکمالاً لموضوع البحث.
الاتجاه الأول: قال بأن الغلو وطبیعتهِ القانونیة تأتی من اتصالهِ بعیب الغایة ای بانحراف السلطة او اساءة استعمالها, على أساس ان العیب الملازم للسلطة التقدیریة هو اساءة استعمال السلطة او الانحراف بها فلا رقابة على ممارسة الاختصاص التقدیری الا اذا اثبت هذا العیب ولا یدخل تحت مخالفة القانون.
ولکن لا یسلم هذا الاتجاه من جانبین هما, الأول ان الغلو عیب ذو طابع موضوعی ولیس شخصی کعیب الانحراف وهذا ما درج علیه القضاء, ویتعلق عیب الانحراف برکن الغایة او الهدف فی حین ان الغلو یقوم على مدى التناسب بین سبب القرار ومحلهِ.
الاتجاه الثانی: ارجع الطبیعة القانونیة للغلو الى اتصالهِ بعیب السبب ولا علاقة لهُ بعیب الانحراف, والغلو لا یمکن اعتبارهُ عیب من عیوب الانحراف بل هو فی حقیقتهِ عیب ذو طبیعة موضوعیة قوامهُ الخطأ فی تقدیر اهمیة الوقائع.
وقال أنصار هذا الرأی ان الغلو فی تقدیر الجزاء لا یندرج فی عیب الانحراف وانما هو رقابة على السبب فی صورتها القصوى, التی تتضمن التحقق من أهمیة وخطورة الحالة الواقعیة ومدى التناسب بینها وبین الاجراء المتخذ.
وقال البعض بان الغلو أو قضاء التناسب فی التأدیب, انما یتصل بعیب السبب فی القرار الاداری, وقوامه الخطأ فی تقدیر اهمیة الوقائع المکونة للذنب الاداری, والرقابة علیه ان هی الا رقابة الحد الاقصى على السبب فی القرار الاداری.
وقد تعزز هذا الرأی باتجاه المحکمة الاداریة العلیا فی بعض احکامها الى أن یعد مناط مشروعیة الحکم او القرار الا یشوبهُ غلو ینتج عن عدم التناسب بین المخالفة (السبب) وبین الجزاء الموقع علیها, ومن هذه الاحکام عندما نصت على (.....غیر ان هذه السلطة التقدیریة تجد حدها عند ظهور عدم تناسب بین المخالفة وبین الجزاء الموقع عنها وهو ما یعبر عنه بالغلو فی تقدیر الجزاء.... ومن حیث أن مقتضى الانتهاء الى عدم سلامة هذا الاستخلاص لوصف المخالفة ثبوت عدم التناسب بین المخالفة والجزاء الموقع عنها, الأمر الذی یقتضی الغاء قرار مجلس التأدیب المطعون فیه).
ولا یمکن الاعتماد على هذا الاتجاه لأنه یستند الى جانب او عنصر واحد من عناصر التناسب ویتجاهل العنصر الثانی إذ انه یرکز على عنصر السبب من دون عنصر المحل, والحاق قضاء التناسب فی التأدیب بعیب السبب فی صورتهِ القصوى یتجاهل دور عنصر الغرض فی القرار الاداری مما قد یؤثر على المصلحة العامة.
الاتجاه الثالث: یجد اصحاب هذا الاتجاه ان الغلو یتعلق بعیب مخالفة القانون, بمعنى ان القاضی الاداری عندما یقوم بإلغاء قرار تأدیب لوجود عدم تناسب ظاهر بین الجزاء الموقع والخطأ المرتکب انما قضى بذلک لأن فی عدم التناسب مخالفة للقانون فی روحهِ ومعناه.
وقال البعض ان المشرع حین تدرج فی النص على الجزاءات التی یجوز توقیعها على الموظفین عملاً بأحکام القانون لم یهدف بذلک الى أن تنفرد السلطات التأدیبیة بتوقیع الجزاء بلا معقب علیها فی ذلک, وانما قصد المشرع ان یقاس الجزاء بما یثبت من خطأ ای ان یکون هناک تناسب بین التهمة والعقاب, فاذا ثبت وجود عدم ملاءمة بین التهمة والعقاب وقع القرار الصادر من السلطات التأدیبیة مخالفاً للقانون.
وقال البعض أن الغلو فی تقدیر الجزاء هو مخالفة لروح القانون, وأن العقوبة التأدیبیة غیر المتلائمة هی عقوبة غیر مشروعة, ولا یتعارض المبدأ الذی أرسته المحکمة العلیا مع حریة السلطة التأدیبیة فی تقدیر خطورة الجریمة التأدیبیة وما یلائمها من عقوبة, الا ان العقوبة تکون غیر مشروعة اذا جاوزت کل حد معقول وکان عدم التناسب بین العقوبة والجریمة صارخاً تأباه روح القانون.
وقد انتقد هذا الاتجاه بأننا لا نکون امام مخالفة القانون الا اذا کانت هناک سلطة مقیدة, والمعروف ان المحاکم التأدیبیة والسلطة التأدیبیة الاداریة لها سلطة تقدیریة, والعیب المقترن بالسلطة التقدیریة هو عیب اساءة استعمال السلطة أو الانحراف بالسلطة فلا رقابة على ممارسة الاختصاص التقدیری الا اذا ثبت هذا العیب, ولم یصنف القانون الجرائم التأدیبیة ولم یفرد العقوبات التأدیبیة حتى یمکن القول بوقوع المخالفة.
وهناک من أنتقد هذا الاتجاه على أساس أن المقصود بعیب مخالفة القانون هو التعسف فی استعمال الحق ولیس انحراف بالسلطة, ویجد ان الغلو هو تعسف وتشدد قد یدعو الیه فرط الحرص على حمایة المصالح العامة ولیس هناک ما یمنع من توقع حدوثه من المحاکم التأدیبیة.
وهناک من الآراء التی قیلت فی تحدید الطبیعة القانونیة للغلو فمنهم من قال ان هذه الطبیعة تتحدد تبعاً لطبیعة السلطة التأدیبیة الموقعة للجزاء, فاذا صدر القرار من السلطة الاداریة (الرئاسیة) المختصة وتم الطعن به لاقترانهِ بعیب الغلو فان الغلو یتعلق فی هذه الحالة بعیب اساءة استعمال السلطة, أما فی حالة صدور القرار من السلطة الرئاسیة المختصة وأیدتهُ المحاکم التأدیبیة بعد الطعن بهِ, ثم طعن بهِ مرة اخرى امام المحکمة الاداریة العلیا التی قبلت الطعن والغت الحکم فان عیب الغلو هنا یتعلق بالخطأ فی تطبیق القانون.
ویجد الباحث ان الرأی الذی ارجع طبیعة الغلو (رقابة التناسب) سواء فی المجال التأدیبی ام الضبط الاداری او ای مجال اخر یرجع الى وجوب وجود توافق ما بین السبب والمحل وعدم اغفال الغایة من القرار, فاذا ما وجد انحراف فی غایة مصدر القرار فانه وترجع هذه الحال الغلو الى عیب اساءة استعمال السلطة او الانحراف, أما اذا وجد عدم ملاءمة ما بین السبب والمحل فمردهُ الى عیب مخالفة القانون بمعناه الدقیق والسبب ان موضوع الغلو هو تناسب القرار الاداری ولا یمکن أن یتحقق هذا التناسب بحسب اعتراف غالبیة الفقهاء الا بالتوافق ما بین السبب والمحل ای سبب القرار وخطورة الاجراء والآثار المترتبة علیهِ.
المبحث الثانی
مضمون الغلو ونظریة الخطأ الظاهر فی التقدیر
سنحاول فی هذا المبحث بیان مضمون الغلو فی مطلب أول ونسلط الضوء على نظریة
الخطأ الظاهر فی التقدیر فی مطلب ثانی.
المطلب الأول
مضمون نظریة الغلو
سنتناول فی هذا المطلب بیان مضمون الغلو فی بیان اسبابهِ وما هی حالاتهِ ومعیار تحققهِ.
الفرع الأول
أسباب الغلو
یمکن ان نحدد جملة من المسائل قد تکون سبباً لتحقق الغلو فی القرار الاداری ومن ثم یستوجب مراقبتهِ منها: 1- عدم وجود جزاءات مناسبة لکل الافعال او المخالفات التأدیبیة مما ادى الى وجود تفاوت کبیر بین الفعل والجزاء الذی تضعهُ الجهات مصدرهُ القرار عند ممارستها لسلطتها التقدیریة.
2- من الاسباب عدم اهتمام الجهات الاداریة فی تحری عمل التناسب فی قراراتها ومنها على وجوب تحقیق التناسب والا یعد عملها مشوباً بالغلو یوجب الغاؤه. 3- التنبیه الى وجوب تحقیق مقتضیات العدالة وتحقیق التوازن بین فاعلیة أجهزة الادارة وضمان حقوق المتعامل معها سواء أکان موظفاً ام غیرهِ.
4- من الاسباب الموجبة للغلو وجوب العمل على توضیح القیمة القانونیة للغلو وأنهُ لیس هناک تعارض بین سلطة الادارة التقدیریة والجزاءات المتعددة للإدارة وتأکید ان سلطة الادارة فی اختیار المتلائم لیست مطلقة ولا تحکمیة, وأخذ القضاء على عاتقهِ وضع القواعد التی من شأنها ان تحکم مسار الادارة وتوجهاتها فی عملها.
5- ان السلطة التقدیریة کما هو معلوم ممنوحة للإدارة قانوناً ولا تعنی الرقابة القضائیة علیها ان السلطة التقدیریة للإدارة تحت المراقبة نفسها وانما کیفیة ممارسة هذهِ السلطة, وان الخلل فی ممارسة هذهِ الکیفیة هی التی تخلق عدم التناسب ومن ثم اتصاف قرار الادارة بالغلو سواء أکان بالإفراط أو التفریط, من هذه الاسباب نجد تأکید المحکمة الاداریة العلیا فی حکمها الصادر فی 11/11/1961 الذی قررت فیه صراحة ((ومن صور هذا الغلو عدم الملاءمة الظاهرة بین درجة خطورة الذنب الاداری ونوع الجزاء ومقدارهِ.....تتعارض نتائج عدم الملاءمة الظاهرة مع الهدف الذی یبغیه القانون من التأدیب)).
دفع هذا الأمر بعض الکتاب الى القول انه اذا تجاوزت سلطة التأدیب التقدیر السلیم والمعقول, ورکبت متن الشطط فی اختیار الجزاء فأنها لا تکون فی اطار ما هی حرة فیه, وما هو مسموح لها بهِ, وعلیهِ فیشترط لمشروعیة الجزاء التأدیبی الا یشوب تقدیرهُ غلو.
الفرع الثانی
حالات ومعیار تحقق الغلو
بعد ان بینا فی الفرع الأول اسباب الغلو فی القرار الاداری التی تؤدی الى اتسام قرار الادارة بعدم التناسب, سنتناول الأن بیان الحالات التی یتحقق فیها الغلو.
أولاً: حالات تحقق الغلو
ان الغلو کما سبق أنه وضحنا فی مکان سابق انه یعنی لغةً مجاوزة الحد, مما یعنی ان مجاوزة الحد قد تکون باللین او الشدة, مما یوضح سبب لماذا بدأت المحاکم الاداریة عند نظرها فی الطعون المقدمة الیها بالنظر الى طبیعة المخالفة والى الجزاء والاثر المترتب علیها سواء أکان الجزاء متناسب ام غیر متناسب وکل هذا هو فی سعی المحاکم لتحقیق غایة عمل الادارة فی الحفاظ على المصلحة العامة وضمان سیر المرافق العامة بانتظام واطراد وهذا لا یمکن ان یتحقق الا بسعی الادارة الى تحقیق التناسب فی قرارها لضمان مصلحة المجتمع ومصلحة المتعامل معها.
ویلحظ هذا التوجه عند استعراض بعض احکام القضاء الاداری, فمثلاً فی جانب المغالاة فی الشدة اصدرت المحکمة الاداریة العلیا المصریة حکمها فی الطعن الصادر عام 1974 او بینت المبدأ الذی اعتمدت علیهِ بقولها (الانقطاع عن العمل قبل صدور قرار قبول الاستقالة یشکل مخالفة تأدیبیة تستوجب المؤاخذة- مجازاة العامل فی هذه الحالة بالفصل- عقوبة الفصل فیها مغالاة فی الشدة وخروج على المشروعیة- الجزاء المناسب هو خصم عشرة أیام من المرتب.....).
ونلحظ ذلک فی العراق بقرار مجلس الانضباط العام الذی اکد ان الافعال التی قام بها المعترض لم تکن من الجسامة إذ تسوغ معاقبتهِ بعقوبة تنزیل الدرجة, وقرار المجلس تنزیل او تخفیف عقوبة الموظف من تنزیل الدرجة الى عقوبة انقاص الراتب الشهری بنسبة 10% لمدة سنتین, لما رأى المجلس ان الادارة قد أفرطت فی العقوبة وکان لها مغالاة فی العقوبة لا تتناسب مع الفعل.
ویلحظ فی جانب آخر ان المحاکم الاداریة قد دعت الى تشدید العقوبة لأن فی القرار الصادر من الادارة فیه تفریط بالحق العام الذی قد یؤدی الى الاضرار بالمصلحة العامة, مثلا حکم المحکمة الاداریة العلیا فی مصر عندما نصت (....ما تقدم أن للمذکور سجلاً حافلاً بالجزاءات على نحو ما هو ثابت بالأوراق....فیکون الجزاء الحق لمثل هذا العامل هو الفصل من (الخدمة), فیلاحظ ان المحکمة عندما وجدت ان العقوبة قد تؤدی الى الاستخفاف بالمال العام عندما وجدت ان القرار الاداری لا یتناسب البتة مع جریمة الاختلاس التی هی من الجرائم المخلة بالشرف والامانة).
ونلحظ فی العراق ان مجلس الانضباط العام قد دعا الى تشدید العقوبة لأنهُ وجد ان العقوبة المفروضة خفیفة لا تتناسب مع خطورة العمل وغیر رادعة للمعترض علیهما وقرر تشدید العقوبة وجعلها التوبیخ بدلاً من قطع قسط عشرة أیام والغایة من هذا التعدیل هو تحقیق التناسب الذی هو مدار کل عمل صحیح یضمن فاعلیة الادارة وحقوق المتعاقد معها.
ویلحظ على هذه الحالات ان القضاء قد حاول ایجاد اساس یمکن ان نسمیهِ بالتشریعی لکونهِ یساهم فی وضع قواعد تحکم عمل الادارة عندما اقر بوجوب التناسب بین السبب والاجراء مع الاثر المترتب على قرار الادارة, إذ انه کما معلوم ان الاسراف فی التشدید فی العقوبة قد یشکل عامل إحباط لدى عمال المرافق العامة ومن ثم أحجامهم عن تحمل المسؤولیة والعمل فی المرفق, کما أنهُ على النقیض من هذهِ الحالة ان التهاون والأفراط المسرف فی الشفقة یؤدی الى استهانة العمال بأداء واجباتهم.
ثانیاً: معیار الغلو
یمکن تلمس معیار الغلو فی حکم المحکمة الاداریة العلیا فی مصر فی قرارها الشهیر فی 11/11/1961, إذ قضت (....ومعیار عدم المشروعیة لیس معیاراً شخصیاً وانما هو معیار موضوعی, قوامه ان درجة خطورة الذنب الاداری لا تتناسب البتة مع نوع الجزاء ومقدارهِ, وغنی عن البیان ان تعیین الحد الفاصل بین نطاق المشروعیة ونطاق عدم المشروعیة فی الصورة المذکورة مما یخضع ایضاً لرقابة هذه المحکمة).
بمعنى ان الغلو على وفق المعیار الموضوعی عدم وجود تناسب ما بین خطورة الذنب او المخالفة الاداریة مع نوع الجزاء ومقدارهِ, فهو خروج عن نطاق التقدیر السلیم الذی الزم القانون الادارة به فی سبیل ضمان سیر المرافق العامة بانتظام واطراد.
والذی یؤید هذا المعیار الموضوعی أن الادارة قد تغالی فی تقدیر الجزاء من دون أن تستهدف غرضاً آخر غیر الواجب علیها استهدافهُ وهو تأمین انتظام المرافق العامة بردع الموظفین المخالفین, لذا یقوم عیب الغلو اذا کان الجزاء لا یتناسب بشکل ظاهر مع الذنب المرتکب من دون ان یُوهم القرار بالانحراف لأن الادارة لم تستهدف تحقیق غرض آخر غیر الواجب علیها استهدافهُ.
من جانب أخر فان التقدیر السلیم للجزاء المناسب للذنب, عندما تضع السلطة نفسها فی أفضل الأحوال والظروف للقیام بهذا التقدیر, وأن تجربهُ بروح موضوعیة, وبعیداً عن البواعث الشخصیة, بشرط ان یکون لدیها العناصر اللازمة لإجرائهِ, وهذا الالتزام قانونی لا مجرد ضابط من ضوابط الأخلاق.
ویجد الباحث ان الطبیعة الموضوعیة للغلو یمکن الاستدلال علیها فی خلال ان الغالب فی الاتجاه السائد حالیاً ان المحکمة المختصة لها حق البت فی مسائل الغلو وهذا لا یکون الا فی القرارات المشوبة بالغلو حینما تعرض الى المحاکم التأدیبیة ومن ثم المحکمة الاداریة العلیا التی یکون من الطبیعی ان تنظر بموضوعیة الى طبیعة او مدى التناسب الحاصل بین السبب وخطورة الاجراء والاثار المترتبة علیه بعیداً عن اهواء مصدر القرار, وهذا یعنی فی جانب آخر ان مصدر القرار فی حالة رغبتهِ فی تحقیق هدف غیر الصالح العام فإننا نکون امام انحراف بالسلطة وهو شیء ذاتی على خلاف الرقابة التی تفرضها المحکمة على کیفیة ممارسة الادارة لسلطتها التقدیریة فی جملة ملائمات تساهم جمیعها فی منحها هذه السلطة, وفی الغالب یکون القرار المشوب بالانحراف صادر من الجهة التی أصدرتهُ حصراً.
ویجد الباحث ان المعیار الموضوعی للمحکمة یتحدد بقیامها بجملة امور یمکن ان نتلمسها فی قرار للمحکمة الاداریة العلیا عندما قضت (التناسب بین المخالفة التأدیبیة والجزاء الموقع عنها, انما یکون على ضوء التحدید الدقیق لوصف المخالفة فی الظروف والملابسات المشکلة لأبعادها ومؤدى ذلک ان جسامة الفعل المادی المشکل للمخالفة التأدیبیة, انما یرتبط بالاعتبار المعنوی المصاحب لارتکابها, بحیث لا تتساوى المخالفة القائمة على غفلة أو استهتار بتلک القائمة على عمد والهادفة الى غایة غیر مشروعة, اذ لا شک أن الأولى أقل جسامة من الثانیة, وهذا ما یجب ان یدخل فی تقدیر من یقوم بتوقیع الجزاء التأدیبی على ضوء ما یستخلصهُ استخلاصاً سائغاً من جماع اوراق الموضوع).
یوضح هذا الحکم طبیعة الدور الذی یجب ان یقوم به القاضی الاداری عند تصدیه لمسألة عدم التناسب الحاصلة فی القرار الاداری, إذ یضع القاضی نفسه بالظروف نفسها التی کان بها مصدر القرار, وماهی طبیعة الاعتبارات المادیة المصاحبة للاعتبارات المعنویة والتی برمتها او مجموعها قد تؤثر فی اصدار القرار, ثم بعد ذلک یقوم بعملهِ بالتکییف القانونی للواقعة بعد التحقق من توافر الواقعة والاسباب المادیة ثم صحة التکییف القانونی لها وبعد ذلک مدى انطباق الوصف القانونی للنص على الواقعة التی دفعت رجل الادارة الى اصدار القرار, وهل ان ما رافق اصدار القرار من ملابسات واشکالات هل من الممکن ان تؤدی الى المغالاة فی القرار من حیث التشدید ام اللین وهکذا, ثم نلحظ هذا الحکم قد المح الى وجوب التعامل مع المخالفة وصاحبها کلً على حدة تبعاً لمدى توافر سوء او حسن النیة وهل ان الموظف من الذین لهم العود فی ارتکاب المخالفة ام انها المرة الأولى وهکذا فهذهِ جمیعاً عوامل نستطیع بحسب رأینا المتواضع القول انها تسهم فی دعم المعیار الموضوعی للغلو.
المطلب الثانی
نظریة الخطأ الظاهر فی التقدیر
سنحاول تسلیط الضوء على هذه النظریة التی وجدت مساحة واسعة واستخدام لها فی احکام مجلس الدولة الفرنسی واعتباراً من حکمهِ فی قضیة لیبون عام1978.
وسنقوم بتسلیط الضوء على هذه النظریة فی فرعین, الأول نسلط الضوء فیه على تعریف هذه النظریة فی الفقه الفرنسی او العربی وفی الفرع الثانی نتعرض فیه الى مضمونها.
الفرع الأول
تعریف الخطأ الظاهر فی التقدیر
على الرغم من البدایات المتعثرة للفقه والقضاء الاداری فی اعطاء تعریف محدد للخطأ الظاهر فقد ذُکر اکثر من تعریف لهُ الى ان استقرت هذهِ النظریة لدى القضاء الفرنسی فبدأت بالظهور محاولات وضع تعریف محدد لها.
أولا: تعریف الخطأ الظاهر لغةً
الخطأ فی اللغة العربیة ضد الصواب أو الحیدة عنه, وقد یراد به من سلک سبیل الخطأ عمداً أو سهواً, والخاطىء من تعمد مالا ینبغی ولهذا فقد یأتی بمعنى الذنب.
أما لفظ الظاهر فهو من ظهر ظهوراً, بینهُ وأطلعهُ علیه, والظاهر خلاف الباطن, وظاهر الجبل, اعلاه والظاهر من العیون الجاحظة.
أما الخطأ فی الاصطلاح القانونی بوجه عام, فهو اخلال بالتزام قانونی.
ثانیاً: تعریف الخطأ الظاهر فی الفقه الفرنسی
قدم الفقه فی فرنسا تعریفات عدیدة للخطأ الظاهر أو الساطع منها (انه الخطأ الذی یتصف فی الوقت ذاتهُ بخطورتهِ وحتمیتهِ, مما یجعل الابطال مصیر عمل السلطة الاداریة المشوب بمثل هذا العیب), ویحق للإدارة ان تمارس سلطاتها ومهامها ولا یجوز لأحد منازعتها فی ذلک ولکنهُ غیر مسموح لها أن ترتکب حماقاتٍ او تجاوزات أدبیة غیر مقبولة.
ویجد Gosta أن الخطأ الساطع فی التقدیر یقوم فی الحقیقة, بین عدم تناسب وقائع القرار ومحتوى القرار نفسه....ویجب ان یکون عدم التناسب ظاهراً مرة أخرى, بیناً وجسیماً بکلیتهِ.
ویقول Vincent (ان الخطأ الساطع فی التقدیر هو بالنسبة الى القضاء, خطأ اقترفتهُ الادارة. فی تقدیرها الوقائع عند انشائها قرارها, الذی یظهر واضحاً لا یترک مکاناً للشک).
ویعرفه فیدل بأنهُ (الخطأ الذی یکون واضحاً وجلیاً للشخص العادی أو هو الذی لا یوجد ادنى شک فی وجودهِ لمن لهُ عقلً مستنیر, او هو الذی یکون جلیاً واضحاً وبیناً یعنی جسیماً فاحشاً وساطعاً لدرجة أنهُ ظاهر حتى لغیر القانونی).
ویذهب peisey الى أن الغلو یصبح بیناً عندما یصیر مؤکداً لا نزاع فیه, وعندما یبدو واضحاً للقاضی فی أثناء المداولة حتى وان لم یکن کذلک لحظة اتخاذ الادارة لقـــرارهــــا المشوب بذلک الغلط البین.
ثالثاً: تعریف الخطأ الظاهر فی الفقه العربی
اکتفى الفقه العربی ففی بدایتهِ بالإشارة الى هذه الفکرة التی بدأ مجلس الدولة الفرنسی بالإشارة الیها فی احکامهِ إذ تقتضی هذه الفکرة من المجلس القیام بفحص دقیق لملف القضیة وانه یمکن اعتبار الخطأ ظاهراً اذا کان من الوضوح إذ یظهر للقاضی عند شروعهِ فی فحص الملف, واعتبرها احد عناصر القدر الأدنى من الرقابة.
وهناک من عرف الخطأ الظاهر بأنه (خطأ صریح یرتکبهُ الخصم ویتعرف علیه القاضی اذ لا یدعو الى ای شک للعقل الواعی, وهو بهذا المعنى أن الخطأ الظاهر یفرض على السلطة الاداریة التزام الحد الادنى المنطقی والذوق السلیم).
وهناک من عرفهُ بأنهُ (الخطأ الذی یرى فیهِ القاضی ببحثهِ لملف الدعوى ولمختلف الظروف التی جرى فیها هذا التقدیر تجاوزاً لحدود المعقولیة ووضوحاً لدرجة البداهة).
وعرفه البعض بأنه (وسیلة لتجنب التعسف الذی قد ینشأ عن استخدام الادارة لسلطتها التقدیریة, من خلال قیام القاضی الاداری بالبحث عن علاج لما تنطوی علیه رقابتهِ من قصور والتی قد تسفر هذه الرقابة عن نتائج صارخة لا یستطیع القاضی ان یفعل فی مواجهتها شیئاً حال اقتصارها على مشروعیة القرار المطعون فیه).
وهناک من یجد فی تحلیلهِ لحکم لیبون فی فرنسا انه یشکل ضمانة جدیدة فی مجال العقوبات التأدیبیة, فلم تعد الادارة لها کامل الحریة فی اختیار أیة عقوبة تأدیبیة توقعها على الموظف مهما کان خطأهُ وانما اصبح علیها واجب اختیار العقوبة المناسبة للخطأ المرتکب وان لا تبالغ بالعقوبة والا کان لها القضاء بالمرصاد, والمجلس یکتفی بإلغاء العقوبة اذا شاب تقدیرها خطأ ظاهر, ویترک للإدارة حریة اختیار العقوبة التی نص علیها القانون, عدا تلک التی الغاها القضاء.
وهناک من قال انها وسیلة قضائیة تستهدف توسیع مدى رقابة الحد الادنى ونطاقها, یتحرک القضاء لتضییق مدى الصلاحیة التقدیریة التی تتمتع بها الادارة, وهی رقابة قضائیة مرنة تسمح للقضاء بالانتقال من رقابة الحد الادنى الى رقابة التکییف القانونی للوقائع بغیة تعمیمها على جمیع الحالات وفی المجالات جمیعها, ویتعین أن یکون الخطأ الظاهر فی التقدیر بدیهیاً وواضحاً لانطوائهِ على درجة عالیة من الجسامة یلحظها غیر رجال القانون, ویلحق بالخطأ الظاهر فی التقدیر رقابة الموازنة او التناسب, اذ انهما مفهومان متماثلان یستهدفان فی الاساس توسیع سلطات القضاء وتصنیف مدى الصلاحیة التقدیریة التی تتمتع بها الادارة.
ووضح البعض مفهومها على اساس (الا تصل حریة تقدیر الادارة الى حد التفاوت الواضح أو الصارخ فی توقیع العقوبات التأدیبیة مما یقلل الى حد کبیر من قیمة الضمانات التأدیبیة وغایاتها التی کفلها المشرع والقضاء فی هذا الصدد).
وذکر آخر ان الخطأ الظاهر هو الذی یؤدی الى الغاء العقوبات التأدیبیة لعدم تناسبها مع الأخطاء ولارتباطها بخطأ واضح فی التقدیر.
ولم یورد القضاء فی فرنسا تعریفاً محدداً للخطأ الظاهر ولکنه استقر اخیراً الى الأخذ بهذه النظریة بعد الانتقادات التی وجهت الیهِ من الفقه واستقر هذا الموقف عن حکم مجلس الدولة فی قضیة لیبون, إذ عرف القضاء الاداری الخطأ الظاهر بأنه (الخطأ الواضح والجسیم فی التقدیر القانونی للوقائع, ویخضع لرقابة القاضی, خصوصاً عندما تمارس الادارة سلطتها التقدیریة فی الحالات التی تکون متمتعة فیها بمثل هذه السلطة).
وتوحی احکام مجلس الدولة الفرنسی باتجاههِ الى اعمال هذه الرقابة بصورها کافة (الافراط-التفریط-الاقرار), ویتعین على الادارة ان تستخدم السلطة التأدیبیة استخداماً معقولاً والا یکون اختیارها للجزاء التأدیبی معیباً بخطأ بین فی التقدیر.
وهناک من یعد احکام مجلس الدولة الفرنسی فی مرحلة من المراحل بخصوص الخطأ الظاهر اصبحت تطبق فی معظم مجالات العمل الاداری التقلیدی ام الحدیث وسیلة لردع احتمالات تعسف الادارة عند استخدامها لسلطتها التقدیریة, او وسیلة تهدید دائمة للإدارة للتخفیف من رهبتها وهیبتها فی الحالات التی تمکنها من الافراط او التجاوز فی استخدام سلطتها التقدیریة.
یتبین مما تقدم ان هذه النظریة اصبحت شبه مستقرة فی احکام مجلس الدولة الفرنسی, مفادها ان تقدیر الادارة فی هذا الشأن او ذاک لا یخضع لرقابة القاضی الاداری إلا اذا قام على وقائع مادیة غیر موجودة, أو شابه خطأ فی القانون, أو انحراف السلطة, أو بنی على غلط او خطأ ظاهر, من دون ایة محاولة مباشرة من المجلس لتحدید ماهیة الخطأ الظاهر.
الفرع الثانی
مضمون نظریة الخطأ الظاهر فی التقدیر
سنتطرق فی هذا الفرع فی بیان مضمون نظریة الخطأ الظاهر فی بیان اسباب هذهِ النظریة اولاً ثم حالات تحققها ثانیاً وأخیراً وثالثاً معیار هذه النظریة.
أولاً: اسباب نظریة الخطأ الظاهر
لقد ذکر الفقهاء اسباب عدیدة لهذه النظریة منها محدودیة رقابة القاضی الاداری واقتصارها على تحققهِ من ان الوقائع التی استند الیها رجل الادارة صحیحة من الناحیة المادیة من دون التصدی الى تقدیر هذه الاسباب وتقدیرها برقابة التکییف القانونی ای هی رقابة الحد الادنى.
من الاسباب ایضاً ربط هذه النظریة بجزاء عدم المشروعیة, إذ ان جزاء عدم المشروعیة هو نتیجة حتمیة لعدم معقولیة قرار الادارة ووجوب توضیحها ای الادارة الحد الادنى من المنطق السلیم والعقل السلیم.
وجدت هذه النظریة لتقیید سلطة الادارة التقدیریة فی منع الادارة من المغالاة فی التقدیر, ای منع شطط الادارة فی قراراتها بحیث یتحقق التناسب بین الجریمة او المخالفة التأدیبیة مع العقوبة التأدیبیة, بمعنى آخر ان نظریة الخطأ الظاهر تنصهر بالتناسب إذ ان مضمون هذه النظریة وجوب توافق السبب مع المحل فی القرار وهذا هو جوهر التناسب.
ویجد الباحث ان هذه النظریة وجدت للحیلولة من دون تعسف الادارة فی استعمال صلاحیاتها والحیلولة دون انحراف السلطة الاداریة عن هدفها الاساسی وهو المحافظة على المصلحة العامة.
ثانیاً: حالات تحقق نظریة الخطأ الظاهر
لا نرید الاطالة فی بیان حالات تحقق هذه النظریة اذ انها مثل نظریة الغلو فأنها تدور مضامینها فی حالتین الأولى الأفراط فی الشدة, إذ یؤدی الافراط فی الشدة الى خوف الموظف ومن ثم تؤدی الى احداث خلل او حتى شل المرافق العامة لأحجامهم عن تحمل المسؤولیة فالقسوة غیر المبررة یجعل التدبیر الاداری غیر مشروع.
وعلى العکس عندما یکون هناک افراط فی الشفقة فقد تؤدی هذه الشفقة الى استخفاف واستهانة الموظف بالوظیفة واداء الواجب مما یؤثر سلباً على المؤسسة الاداریة والى علاقة الموظف بالرئیس بالاستهتار والاستهزاء به مما یجعل من ثم الشفقة الزائدة تجعل التدبیر الاداری عامل تشجیع على الجریمة والمعصیة والاضرار بالصالح العام.
مما سبق ذکرهُ یتبین اهمیة ان یکون التناسب بین العقوبة والسبب الذی ادى الى هذه العقوبة, ویؤکد التناسب مبدأ اساسی أن الاسراف بالشدة یجعل الحکم مُدان قضائیاً کذلک فأن الاسراف بالشفقة مُدان ایضاً, ومن ثم عندما یکون رجل الادارة فی صدد اتخاذ قرار معین فیجب علیهِ ان یُعْمِل التناسب بین السبب والمحل لتجنب الدخول فی الغلو او الخطأ البین او الظاهر والذی یجعل قرارهُ عرضة للإلغاء لعدم المشروعیة.
ثالثاً: معیار نظریة الخطأ الظاهر
ان معیار نظریة الخطأ الظاهر او الغلط البین کما یسمیها بعض الفقهاء هو معیار موضوعی وقد اکد ذلک الدکتور یحیى الجمل بقولهِ (من استقرار احکام المجلس فی هذا الشأن انهُ یرید ان یضع للغلط البین معیاراً موضوعیاً بحیث لا یعتمد تقدیر وجود الغلط البین على حسن نیة الادارة وسوئها من ناحیة, وبحیث لا یکون أمرهُ متروکاً لمحض تقدیر القاضی من ناحیة اخرى, وانما یقوم الغلط البین على عناصر موضوعیة تکشف عن الخلل فی التقدیر, من هذا یجب ان لا یخلط بین الغلط وبین ان یکون هذا الغلط واضحاً او ظاهراً, ذلک ان الغلط قد لا یکون واضحاً ولا ظاهراً. بمعنى ان الغلط او الخطأ الظاهر لیس بالضرورة ان یکون واضحاً او ظاهراً, مما یعنی ان العلاقة بین الغلط والوضوح لیست ضروریة دائماً ولکنها فی الوقت نفسهُ قد یکون هناک تلازم بینها.
وذکر الدکتور رمضان محمد بطیخ ان بعض الفقهاء قال بوجود معیارین لنظریة الخطأ الظاهر هما المعیار اللغوی والمعیار الموضوعی, بالنسبة للمعیار اللـغـــوی ویعد أصحاب هذا المعیار ان کلمة ظاهر او ساطع التی یوصف بها الخطأ توحی ان الخطأ قد وصل الى درجة من الوضوح تکفی لإقناع القاضی بوجود هذا الخطأ او لإزالة الشک لدیهِ, وان تحقق هذا الخطأ الظاهر هو الجسامة والوضوح هذا المعیار یفید باختصار شدید أن القاضی الاداری لیس فی حاجة للتعرف على هذا الخطأ لأن یجری بحثاً معمقاً او ان یجری تحقیقاً حول تلک الوقائع اذ یمکنهُ تلمسهُ والوقوف علیهِ من مجرد النظر الى وقائع الدعوى أو من مجرد عرض تلک الوقائع علیهِ, ومع وجود الشک ینتفی کل خطأ بین, ومع الیقین یتحقق هذا الخطأ,أما اصحاب المعیار الموضوعی فیرون ان معیار الخطأ الظاهر لا یکمن فی مدى خطورة او وضوح هذا الخطأ, بل ولا فی کونهِ حدثاً بارزاً وانما یکمن اساساً فی اطار درجة عدم الانضباط او الکفایة بالنسبة لعناصر التقییم التی کانت تحت نظر الادارة عند اجرائها هذا التقییم والموضوعیة هنا بحسب رأی الدکتور رمضان محمد بطیخ لا تعنی الثبات والتحدید للمعیار ذاته وانما موضوعیة التقدیر والکیفیة التی یراد بها الاستدلال على الخطأ الظاهر, وهذا الاستدلال والبحث لا یخضع لتقدیر ذاتی للقاضی, وانما عماده تقدیر موضوعی یستخلص من ملف الدعوى.
وهناک من ذکر ان نظریة الخطأ البین کحال نظریة الغــــلو معیــــارها هو معیـــار موضوعی بحیث لا یعتمد وجود الغلط او الخطأ البین على حسن نیة الادارة أو سوئها أو محض تقدیر القاضی وهو ما اکدتهُ المحکمة الاداریة العلیا الذی اکدت فیه ان معیار المشروعیة لیس معیاراً شخصیاً وانما هو معیار موضوعی قوامه ان درجة خطورة الذنب الاداری لا یتناسب البتة مع نوع الجزاء ومقدارهِ.
ونجد الباحث ان معیار الخطأ الظاهر حتى نظریة الغلو لا تقوم فقط على معیار موضوعی وانما قد یکون اجتماع معیارین الموضوعی والغلو کافیاً فی اثبات وجود الغلو او الخطأ الظاهر, فکما قال الدکتور رمضان بطیخ ان المعیار اللغوی والمعیار الموضوعی یکمل کل منهما الآخر, إذ لا یمکن الاعتماد على واحد منهما فقط لاکتشاف الخطأ, فالوضوح وتجاوز حدود المعقولیة فی الخطأ تساعد القاضی عند فحصهِ لملف الدعوى او للظروف التی احاطت بتقدیر الادارة للوقائع وهو المعیار الموضوعی من سرعة اکتشاف هذا الخطأ او التعرف علیهِ.
بدأ حدیث الدکتور سالم الجهمی صحیح فی بیان معیار نظریة الخطأ الظاهر باعتماد المعیار الموضوعی کما فی نظریة الغلو بالاستناد الى احکام مجلس الدولة الفرنسی واحکام مجلس الدولة المصری, واکد من جانب آخر ان الذی یعزز هذا المعیار هو طریقة اثبات والنظریتین کلتیهما إذ ذکر (على هذا الاساس تتجسد موضوعیة المعیار الذی یعتمد علیه القضاء الاداری فی التحقق من مدى جسامة الغلو والخطأ البین اذا لم یکونا على درجة کافیة من الظهور والوضوح.... وبالنظر الى ان الدعوى الاداریة احد طرفیها دائماً شخص اداری, فان القاضی الاداری یلجأ دائماً الى اعادة التوازن بین الطرفین من حیث الأثبات فی مجال تمسک احد الطرفین بالقرائن, کذلک اذا ما قام ادعاء الطاعن وهو المتعامل مع الادارة غالباً على وجود غلو أو خطأ ظاهر على اسباب جدیة مدعمة بقرائن قویة فان عبء الاثبات ینتقل من کاهل الفرد الى عاتق الادارة ولا سیما اذا کان فی حوزتها جمیع الأوراق وعناصر التقدیر التی قامت علیها فی قراراها).
ومع ذلک ان ما سبق ذکرهُ یوحی الى ان المعیار الموضوعی هو الاساس فی تحدید الخطأ الظاهر مما لا یعنی سعی القضاء فی استجلاء الحقیقة من القرائن جمیعها سواء أکانت الموضوعیة او اللغویة, واذا کان المعیار الموضوعی لوحدهِ یکفی للوصول الى الغلو فی القرار الا ان ذلک لا یمنع من اللجوء الى بیان وضوح الخطأ وبیانهِ کقرینة الى وجود الخطأ نفسهِ اضافة الى ما موجود من قرائن من اوراق الدعوى وملفاتها.
ویمکن تحدید أوجه المقارنة بین نظریة الغلو ونظریة الخطأ الظاهر من حیث أوجه التشابه والاختلاف بین النظرتین للتعرف على مدى الفائدة التی تعود للمتعامل مع الادارة فی ضمان الحقوق ومن جانب آخر ضمان فاعلیة الادارة وحثها على وجوب مراعاة التناسب فی قراراتها خاصة وان النظریتان میدانهما ثابت فی وجود عدم تناسب بین المحل والسبب او وجود خلل قائم ما بین الحل القانونی والتصرف الصادر من الادارة والذی قد یؤدی عدم تناسبها الى عدم مشروعیة القرار. فأوجه الشبه بین النظریتین یتجسد فی ان کلاهما من صنع القضاء الاداری, وتم فرضهما لیتمکن القضاء الاداری من ممارسة الرقابة على التناسب بین محل وسبب القرار الاداری ومواجهة اسراف الادارة فی ممارستها لسلطتها التقدیریة, ویدفع عدم التناسب بین العنصرین القاضی الى ان یحکم بعدم مشروعیة القرار وبطلانهِ, وتتحققان فی جانبی الافراط والتفریط, الافراط فی اللین والافراط فی الشدة وان المعیار فیهما هو معیار موضوعی ولیس شخصی.
أما أوجه الاختلاف فان الفقه المصری لم یعطی تعریفاً محدداً فی البدایة للغلو عکس الفقه الفرنسی الذی عرفهُ ای الخطأ الظاهر (الخطأ الجسیم ذو الصفة الظاهرة وهذا الخطأ لا یؤدی الى الغاء القرار الاداری الا اذا کان واضحاً وجسیماً).
والمجال الاساس لتطبیق نظریة الغلو فی مصر هو مجال التأدیب منذ قرار عام 1961, أما مجلس الدولة الفرنسی فلم یأخذ بنظریة الخطأ الظاهر الا منذ عام 1978 حکم لیبون فی مجال التأدیب, وان القضاء المصری اسبق فی استخدام هذه النظریة من القضاء الفرنسی, ولکن مجلس الدولة الفرنسی عمم استخدام هذه النظریة لیس فی مجال التأدیب فحسب وانما فی مجال الضبط الاداری والاقتصادی والبیئی.
وذکر بعض الکتاب ان من الفروقات بین النظریتین ان القضاء الاداری المصری طبق مبدأ الرقابة على التناسب فی العقوبة التأدیبیة مع الجریمة فی الجانب السلبی والایجابی, ای بمعنى حل نفسهُ محل الجهة الاداریة فقام بإنزال العقوبة التأدیبیة التی یجدها مناسبة على الموظف المخطئ, أما مجلس الدولة الفرنسی فقد اکتفى بالجانب السلبی للرقابة وهو الغاء العقوبة التأدیبیة الغیر المتناسبة عدلاً وقانوناً او اقرار هذه العقوبة اذا قُدِرَ انها ملاءمة.
بقی ان نذکر ان هاتین النظریتین هما من انشاء مجلس الدولة وانتقلا بعد ذلک الى القضاء الدستوری, إذ ظهرت نظریة الغلو فی قضاء المحکمة الدستوریة العلیا بعد استقرارها فی قضاء المحکمة الاداریة العلیا, وعلى نفس النحو انتقلت نظریة الخطأ او الغلط البین فی التقدیر من قضاء مجلس الدولة الفرنسی الى قضاء المجلس الدستوری وهو ما عبر عنهُ بان مناط دستوریة التشریع الا یکون تقدیر المشرع قد شابه خطأ ظاهر فی الرقابة التی یمارسها المجلس على تقدیر المشرع لمدى التناسب ما بین العقوبات والافعال محل التأثیم.
الخاتمـة
بعد الانتهاء من کتابة بحثنا هذا والخاص بموضوع الغلو (عدم التناسب) فی القرار الاداری, یمکن ان نحدد جملة من الاستنتاجات من هذا البحث نوجزها بما یلی:
المقترحات:
The Authors declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English)
Sources
First: Dictionaries
1. Al-Munajjid in Language and Information, Dar Al-Mashreq, Beirut, I, 25, 1969.
2. A dictionary of the Arabic language for Ibn Masur, Part VIII, Dar Al-Hadith for Printing and Publishing, Cairo, 2003.
Second: Legal books
3. Dr. Tharwat Abdel Aal Ahmed, Limitations of the Supervision of Legitimacy and Competence in the Constitutional Court, Assiut University, 1999.
4. Dr. Helmi Dagdouki, Control of the Elimination of Internal Legitimacy of Administrative Control, Comparative Study, University Publications House, Alexandria, 1989.
5. Dr. Khalifa Salem Al Jahmi, Judicial Control of the Proportionality between Punishment and Crime in Discipline, New University Publishing House, 2009.
6. Dr. Ramadan Mohamed Batikh, the advanced trends in the jurisdiction of the French Council of State to limit the authority of the discretionary administration and the position of the Egyptian Council of State, Dar al-Nahda al-Arabiya, 1994.
7. Dr. Sami Gamal El-Din, District of Relevance and Discretion of Management, Atlas Press, Cairo, 1992.
8. Dr. Sulaiman Mohammed Al-Tamawi, Administrative Judgment, Book III, Discipline, Comparative Study, Dar Al-Fikr Al-Arabi, Cairo, 1987.
9. Dr. Abdul Aziz Muneim Khalifa, Guarantees of Legitimacy of Administrative Sanctions, First Edition, National Center for Legal Publications, 2008.
10. Dr. Abdulqader Al-Sheikhli, The Legal System of Disciplinary Punishment, Amman, 1983.
11. Dr. Ali Juma Mahareb, Administrative Discipline in the Public Job, Dar Al Thaqafa for Publishing and Distribution, Amman, 2004.
12. Dr. Mustafa Afifi, The Philosophy of Punishment and its Objectives Comparative Study, The Egyptian General Book Press, 1976.
13. Dr. Haitham Halim Ghazi, Discipline Boards and Supreme Administrative Court Control, University Thought House, Alexandria, 2010.
14. Dr. Mohamed Hassanein Abdel Aal, the idea of the reason for the administrative decision and the claim of cancellation, the House of Arab Renaissance, 1971.
15. Dr. Mohammed Farid Sayed Sulaiman Al-Zuhairi, Judicial Control of Proportionality in Administrative Decision, Letter to the Faculty of Law, Mansoura University, 1989.
16. Abdul Razzaq Al-Sanhoury, Al-Waseet in Explaining the New Civil Law Theory of Commitment, Volume II, Arab Heritage House, Beirut, 2011.
17. Essam Abdel Wahab Al-Barzanji, The Discretion of Management and Judicial Supervision, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, 1971.
18. Maya Muhammad Nizar Abu Dan, Judicial Control of Proportionality in the Administrative Decision, The Modern Institution of the Book, Lebanon, 2011.
19. Jodat al-Malt, Disciplinary Responsibility of the Public Employee, Dar al-Nahda al-Arabiya, 1967.
20. Mohamed Zaki Abu Amer, Penal Code General Department, University Publications House, Alexandria, 1986.
21. Mohamed Sayed Ahmed Mohamed, The Proportion between Disciplinary Crime and Disciplinary Punishment with Application to Police Officers and Public Employees, Faculty of Law, Assiut University, 2008.
Magazines
Kuwait Law Journal, Issue 3, Year 6, September 1982.
2 - Journal of Justice, No. 3, 1975, p. 82.
3 - Journal of Law and Economics, September - December 1971, Nos. 3 and 4, year 41, Cairo University Press, 1972.
4. Legal Forum Magazine, Issue 5, Department of Professional Competence and Law, Mohammed Khudair University, Biskra.
5- Journal of Studies of Sharia and Law Sciences, Volume 26, No. 1, 1999.
6 - The modern administrative encyclopedia in Egypt, Saad Mahmoud Ali Aldib Egyptian.