الملخص
الإسناد فی نطاق القانون الجنائی یعد مفترضاً من مفترضات المسؤولیة الجنائیة وهو أمر سابق علیها, باعتبار أن المسؤولیة الجنائیة هی النتیجة الحتمیة لإسناد الفعل الإجرامی إلى فاعله من الناحیتین المادیة والمعنویة، وبعبارة أدق لا یمکن الکلام على مسؤولیة هذا الشخص مالم یسند إلیه هذا الفعل إسناداً مادیا, حیث تقتضی هذه الصورة للإسناد نسبة النتیجة الإجرامیة إلى فعل معین, ومن ثم نسبة هذا الفعل إلى فاعل معین. بید أن الإسناد المادی لا یکفی وحده لتقریر مسؤولیة هذا الشخص. فلا یکفی نسبة النتیجة الإجرامیة مادیا إلى فاعلها, بل ینبغی أن یقترن هذا الإسناد بإسناد آخر هو الإسناد المعنوی, وهذا یقتضی أن یکون هذا الشخص وقت صدور سلوکه الإجرامی متمتعا بالإدراک والإرادة, وان تکون هذه الإرادة حرة ومختارة
الكلمات الرئيسة
الموضوعات
أصل المقالة
فکرة الاسناد فی قانون العقوبات -(*)-
The idea of attribution in the Penal Code
محمد حسین الحمدانی دلشاد عبدالرحمن یوسف کلیة الحقوق/ جامعة الموصل کلیة الحقوق/ جامعة الموصل Mohammad Hosain AlHamdany Dalshad Abd Alrahman Yosif College of law / University of Mosul College of law / University of Mosul Correspondence: Mohammad Hosain AlHamdany E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 3/11/2009 *** قبل للنشر فی 9/11/2009.
(*) Received on 3/11/2009 *** accepted for publishing on 9/11/2009.
Doi: 10.33899/alaw.2010.160596
© Authors, 2010, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
الملخص
الإسناد فی نطاق القانون الجنائی یعد مفترضاً من مفترضات المسؤولیة الجنائیة وهو أمر سابق علیها, باعتبار أن المسؤولیة الجنائیة هی النتیجة الحتمیة لإسناد الفعل الإجرامی إلى فاعله من الناحیتین المادیة والمعنویة، وبعبارة أدق لا یمکن الکلام على مسؤولیة هذا الشخص مالم یسند إلیه هذا الفعل إسناداً مادیا, حیث تقتضی هذه الصورة للإسناد نسبة النتیجة الإجرامیة إلى فعل معین, ومن ثم نسبة هذا الفعل إلى فاعل معین. بید أن الإسناد المادی لا یکفی وحده لتقریر مسؤولیة هذا الشخص. فلا یکفی نسبة النتیجة الإجرامیة مادیا إلى فاعلها, بل ینبغی أن یقترن هذا الإسناد بإسناد آخر هو الإسناد المعنوی, وهذا یقتضی أن یکون هذا الشخص وقت صدور سلوکه الإجرامی متمتعا بالإدراک والإرادة, وان تکون هذه الإرادة حرة ومختارة
الکلمات الرئیسة: الاسناد قانون العقوبات
الموضوعات: القانون الجنائی
Abstract
An attribution within the zone of criminal law is considered as one of the criminal responsibility's hypotheses, or it may be prior to it considering that penal responsibility is the definite result of attributing a criminal act to it's doer materialistically and morally. In a more accurate phrase; a responsibility of a person for an act can not be discussed or talked about unless this act is attributed to him materialistically. This form of criminal attribution needs attributing a criminal result to a certain act, then attributing this act to a certain doer. But the materialistic attribution alone is not quite enough to decide and restrict a person's responsibility but it must be associated with the moral attribution, and such situation needs that a person or a doer of a criminal behavior commits it with a free and chosen will..
Keywords: Attribution Penal Code
Main Subjects: Criminal Law
المقدمة :
أولا: مدخل تعریفی:-
إن نهوض المسؤولیة فی نطاق القانون الجنائی مرهون بأن یسند أو ینسب إلى شخص ما اقترافه من فعل أو امتناع تعتبره نصوص قانون العقوبات أو القوانین المکملة له جریمة، فالمبدأ فی نطاق هذا القانون أن الشخص لا یکون مسؤولا عن هذا الفعل أو ذاک الامتناع إلا حین أمکن إسناده إلیه من الناحیتین المادیة والمعنویة باعتبار أن نسبة الفعل أو الامتناع الإجرامی والنتیجة المترتبة علیه إلى الشخص هی الشرط الأول لإمکان مساءلته عن الفعل أو الأمتناع الذی اقترفه. هذه هی فکرة الإسناد فی نطاق قانون العقوبات, وهذه الفکرة مستقلة عن فکرة التکییف الجنائی, فالإسناد مرحلة مستقلة وهی تلی مرحلة التکییف من الناحیتین الزمنیة والمنطقیة فلا یمکن الحدیث عن الإسناد مالم تنتهی عملیة التکییف فما ینتج عن هذه العملیة یکون موضوع الإسناد. والإسناد فی نطاق قانون العقوبات إما أن یکون إسنادا مادیا أو یکون إسنادا معنویا، فالأول یقتضی نسبة النتیجة الإجرامیة إلى سلوک معین ومن ثم نسبة هذا السلوک إلى شخص معین. أما الثانی فیقتضی نسبة النتیجة الإجرامیة إلى شخص ما لقدرته على الاختیار. وللإسناد الجنائی بنوعیه عناصر تقیم بنیانه القانونی, کما إن لفکرة الإسناد فی نطاق قانون العقوبات ذاتیة، فالإسناد یختلف عن الکثیر من المفاهیم المتعلقة بمبادئ هذا القانون.
ثانیاً :- أهمیة البحث :
إن دراسة فکرة الإسناد الجنائی فی مجال القواعد الموضوعیة من القانون الجنائی ضروریة، باعتبار أن هذه الفکرة تدخل فی البنیان القانونی للجریمة. کما إن دراستها ضروریة أیضا فی مجال المسؤولیة الجنائیة، باعتبارها مفترضا لهذه المسؤولیة، فهی ترسم حدودها وتحدد نطاقها, وذلک باستبعادها کلما توافرت أسباب تحول دون إسناد النتیجة الإجرامیة إلى الجانی سواء من الناحیة المادیة أو المعنویة.
ثالثاً :- نطاق البحث :
یشتمل نطاق موضوع بحثنا على دراسة فکرة الإسناد الجنائی فی نطاق القواعد الموضوعیة من القانون الجنائی أی فی نطاق قانون العقوبات, فهنالک الإسناد الإجرائی الذی یتحدد نطاقه فی مجال قواعد القانون الجنائی الشکلیة. إلا أننا سنقصر دراستنا هذه على الإسناد فی نطاق قانون العقوبات.
رابعا :- منهجیة البحث :
اعتمدنا فی کتابة هذا البحث على:
منهج تحلیلی: ویقوم على استعراض النصوص القانونیة المتعلقة بالموضوع وتحلیلها, وکذلک استعراض الآراء الفقهیة التی طرحت حول الموضوع ومناقشتها للوقوف على الرأی الراجح منها, فضلا عن الاستئناس بقرارات قضائیة تدعم وتعزز موقف التشریع والفقه فی هذا المجال.
منهج مقارن: وإن کان غیر متکامل, حیث قارنا الأحکام التی جاء به المشرع العراقی فی خصوص موضوع البحث, مع الأحکام التی جاء بها المشرع المصری فی هذا الخصوص, وکذلک الأحکام التی جاء بها المشرع الفرنسی بحسب ما توافر لدینا من مراجع. کما اشرنا إلى موقف القضاء الجنائی فی هذه الدول بقدر ما توافر لدینا من قرارات قضائیة.
خامسا :- إشکالیة البحث:
إن فکرة الإسناد فی نطاق قواعد القانون الجنائی الموضوعیة تثیر الکثیر من التساؤلات: منها ما المقصود بالإسناد فی نطاق القانون الجنائی ؟ وما هی عناصره؟, وما هی أنواعه ؟ , وما نوع العلاقة التی تربطه بالجریمة؟, وما مصدره التشریعی ؟. وبماذا یختلف عن بعض المفاهیم الأخرى فی نطاق قواعد هذا القانون کالأهلیة, والمسؤولیة, والتکییف, , والإذناب ؟
سادسا :- هیکلیة البحث :
من أجل الإحاطة بموضوع البحث من کل جوانبه، فقد أرتأینا دراسته وفق الهیکلیة الآتیة:
المبحث الأول : مفهوم الإسناد الجنائی
المطلب الأول : التعریف بالإسناد الجنائی
المطلب الثانی : الطبیعة القانونیة للإسناد الجنائی
المبحث الثانی : ذاتیة الإسناد الجنائی
المطلب الأول : تمییز الإسناد الجنائی من الأهلیة الجنائیة
المطلب الثانی : تمییز الإسناد الجنائی من المسؤولیة الجنائیة
المطلب الثالث : تمییز الإسناد الجنائی من التکییف الجنائی
المطلب الرابع : تمییز الإسناد من الإثم الجنائی
المبحث الثالث : أنواع الإسناد الجنائی وعناصره
المطلب الأول : أنواع الإسناد الجنائی
المطلب الثانی : عناصر الإسناد الجنائی
الخاتمة.
المبحث الأول
مفهوم الإسناد الجنائی
لابد لکل جریمة من شخص أرتکبها أو مجموعة أشخاص, والعدالة والمنطق یقتضیان ان ینسب الى هذا الشخص أو إلى هؤلاء الأشخاص ارتکاب هذه الجریمة, فلکی تقوم المسؤولیة الجنائیة عن هذه الجریمة، لابد أن یسند الفعل المکون لها إلى الجانی مادیا ومعنویاً, فلا یمکن مساءلة أی شخص وان کان هذا الشخص أهلا للتکلیف والمسؤولیة الجنائیة مالم یسند الیه فعل غیر مشروع قانوناً، لذا قیل إن نسبة الفعل ونتیجته إلى الشخص هی الشرط الأول للمسؤولیة الجنائیة, بل إن المسؤولیة ذاتها هی نتاج هذه النسبة, لذلک کان المقرر انه إذا کانت النسبة هذه الشرط الأول للمسؤولیة فان المسؤولیة هی النتیجة المباشرة للنسبة.فالإذناب والإسناد إذن مفترضین أساسین للبنیان القانونی للجریمة. ولغرض الوقوف على فکرة الإسناد فی نطاق قانون العقوبات سوف نقسم هذا المبحث الى مطلبین نبین فی الأول معنى الإسناد الجنائی، أما الثانی فسنخصصه لبیان الطبیعة القانونیة للإسناد الجنائی.
المطلب الأول
التعریف بالإسناد الجنائی
فی الفقه الجنائی المعاصر لا تخرج دراسة المسؤولیة الجنائیة عن حالتین, الأولى: أهلیة الشخص لتحمل الجزاء الجنائی, والثانیة: الشروط التی بمقتضاها ینسب الفعل المکون للجریمة إلى هذا الشخص وهذا ما یعبر عنه بالإسناد "imputabilite", وتعیین الشخص المسؤول جنائیا یتضمن تطبیق قواعد الأهلیة وقواعد الإسناد. فالإنسان - وهو المخاطب أصلا بالقاعدة القانونیة - لا یعد أهلا لتلقی الآثار القانونیة عن مخالفته للقاعدة الموضوعیة, إلا متى أمکن نسبة هذه المخالفة إلیه, أی إدراجها فی حسابه تمهیدا لمساءلته عنها, وهذا یعنی
کون الفعل مسندا Imputable إلى فاعله .
وهکذا فإن تحدید معنى الإسناد الجنائی یتطلب, معرفة معنى الإسناد لغةً واصطلاحاً, ثم بیان تعریفه فی نطاق الفقه والقضاء الجنائیین.
الفرع الأول
الإسناد فی الاصطلاح اللغوی
الإسنـاد : فی اللغة هو إضافة الشیء إلى الشیء, أی إسناد کلمة إلى أخرى على وجه یفیـد معنى تاماً, أسند إسناداً الى الشیء أی جعله یستند إلیه. وأسند فی الشعر إسناداً بمعنى ساند مثل إسناد الخبر, وسـند إلى الشیء من باب دخل وأسـتند الیه بمعنى وأسـند غیره. وفلان سـندُ أی معتمد, وسندتُ الى الشیء اُسند سنوداً. والإسناد فی الحدیث رفعه الى قائله, نسبته إلى رواته حتى یصل به الى قائله فالحدیث مسـتندُ, والأحادیث مَساند ومَسانید. وکل شیء أسندت الیه شیئاً فهو مُسـتند, وقال الخلیل الکلام سندُ ومُسند, کقولک عبدالله رجلُ صالح فعبدالله سَـند, ورجل صالح مُسندُ إلیه.
الفرع الثانی
الإسناد الجنائی فی الاصطلاح القانونی
لم تعالج التشریعات محل الدراسة مفهوم الإسناد الجنائی, فالمشرع العراقی لم یحدد فی نطاق قانون العقوبات النافذ معنى الإسناد حیث جاءت نصوصه خالیة من نص یشیر صراحة إلى معنى الإسناد, بل ترک المشرع أمر تعریفه للفقه.
ومن خلال الرجوع الى نصوص قانون العقوبات العراقی نلاحظ أن المشرع اکتفى بالإشارة إلى مبدأی الإسناد المادی والمعنوی بصورة ضمنیة, فنجد المشرع قد أشار فی الفقرة (1) من المادة (29) من القانون المذکور إلى مبدأ الإسناد المادی, حیث تنص هذه الفقرة على أنه (( لا یسأل شخص عن جریمة لم تکن نتیجة لسلوکه الإجرامی, لکنه یسأل عن الجریمة ولو کان قد ساهم مع سلوکه الإجرامی فی إحداثها سبب آخر سابق أو معاصر أو لاحق, ولو کان یجهله )), یتضح من هذا النص أن الشخص لا یمکن ان یسأل عن فعل وإن کان هذا الفعل مجرما بنص القانون مالم یکن ذلک الفعل مسـنداً الیه من الناحیة المادیة, بمعنى أن تقوم رابطة السببیة المادیة بین سلوکه الإجرامی والنتیجة المعاقب علیها قانوناً, فیکون سلوکه هذا سببا لهذه النتیجة. وهذه هی فکره الإسناد المادی. أما مبدأ الإسناد المعنوی فقد أشار إلیه المشرع بصورة ضمنیة أیضا وذلک فی المواد التی تکلمت عن الرکن المعنوی للجریمة باعتبار أن الإسناد المعنوی هو عنصر فی هذا الرکن, أی فی المواد (33-34) من قانون العقوبات النافذ, فالمادة (33/أ) تقضی بأنه ((القصد الجرمی هو توجیه الفاعل إرادته إلى ارتکاب الفعل المکون للجریمة هادفا إلى النتیجة التی وقعت أو ایة نتیجة جرمیة أخرى)), فالمشرع فی هذا النص یتحدث عن قدرة الجانی على توجیه إرادته إلى ارتکاب الفعل المکون للجریمة, وهذة القدرة تعبر عن حریة الاختیار التی هی جوهر الإسناد المعنوی.
أما بالنسبة للمشرع المصری فلا یختلف الوضع عنده عن الوضع فی المشرع العراقی, فلم یحدد المشرع المصری معنى الإسناد فی نطاق قانون العقوبات النافذ رقم 58 لسنة 1937. وبالرجوع إلى نصوص القانون المذکور نلاحظ أن المشرع المصری لم یشر حتى ضمنا إلى فکرة الإسناد المادی کما فعل المشرع العراقی فی المادة (29) من قانون العقوبات, ومع ذاک نجد أن المشرع المصری قد أشار إلى هذه الفکرة بصورة ضمنیة فی المادة (24) من مشروع المدونة العقابیة لعام 1966, حیث تنص المادة المذکورة بأنه (( لا تنقطع صلة السببیة إذا أسهمت مع سلوک الفاعل فی إحداث النتیجة أسباب أخرى ولو کان یجهلها, سواء کانت سابقة أو معاصرة أو لاحقة لسلوکه, وسواء کانت مستقلة أم غیر مستقلة, ومع ذلک فان هذه الصلة تنقطع إذا تداخل بعد سلوک الفاعل سبب کافٍ بذاته لإحداث النتیجة, وفی هذه الحالة یقتصر عقاب الفاعل على ما اقترفه فعلاً )).
أما فکرة الإسناد الجنائی المعنوی فقد أشار إلیها المشرع المصری فی المواد ( 61-63 ) من قانون العقوبات, فالمادة (62) من هذا القانون تقضی بأنه (( لا عقاب على من یکون فاقد الشعور أو الاختیار فی عمله وقت ارتکاب الفعل ... )). یتضح من هذا النص إن الجانی لا یکون أهلا للإسناد المعنوی وذلک لتخلف مفترضاته فی جانبه باعتباره فاقد الشعور أو الاختیار, وبالتالی لا یمکن إسناد الفعل إلیه من الناحیة المعنویة.
الفرع الثالث
الإسناد الجنائی فی الاصطلاح الفقهی
تعددت التعاریف التی ساقها الفقه الجنائی لمصطلح " الإسناد ", فیعرفه البعض بأنه ( أهلیة تحمل العقوبة لتمتع الشخص بالوعی والإرادة ), یلاحظ على هذا التعریف انه یخلط بین فکرة الإسناد الجنائی وهی فکرة موضوعیة تتعلق بالجریمة ومدى إمکان إسنادها أو نسبتها إلى الجانی مادیا ومعنویا, وبین فکرة الأهلیة التی هی حالة فی شخص الجانی تتعلق بمدى استعداده لتحمل التکلیف والعقاب. وعرف البعض الأخر الإسناد الجنائی بأنه ( یتمثل فی القدرة على الإدراک والإرادة الواجب توافرها لدى فاعل الجریمة حتى یمکن نسبتها إلیه لکی یکون مسؤولا عنها جنائیا, أو هو الصلاحیة العامة للمساءلة جنائیا عن الفعل الخاص ), یلاحظ على هذا التعریف أیضا انه خلط بین فکرة الإسناد الجنائی وفکرة الأهلیة الجنائیة باستخدامه لعبارة " الصلاحیة العامة للمساءلة جنائیا ". وذهب الأستاذ " Delogu " إلى القول
بان الإسناد الجنائی ( هو حالة فی الشخص تعنی تمتعه بالقدرة على الإدراک والإرادة فهو یتطابق تماما مع أهلیة التصرف), یؤخذ على هذا التعریف نفس المأخذ السابق. کما انه من جهة أخرى قصر الإسناد الجنائی على الإسناد المعنوی وحده دون الإسناد المادی. وعرف الإسناد الجنائی أیضا بأنه ( تحدید لأهلیة الشخص وقدرته على التطابق مع القاعدة الموضوعیة ), یلاحظ إن هذا التعریف اعتبر الأهلیة الجنائیة مضمونا للإسناد, عندما اعتبر الإسناد عبارة عن تحدید لهذه الأهلیة, وهذا لا یمکن قبوله باعتبار أن الأهلیة مفترض للإسناد الجنائی ولیست مضمونا له کما سنرى لاحقا.
ومن جهة أخرى یلاحظ أن البعض یعتبر الإسناد الجنائی رکنا فی الدعوى الجنائیة, ومن ثم یقصره – الإسناد- على قانون الإجراءات الجنائیة دون قانون العقوبات وذلک بقوله: " إن قانون العقوبات عندما تکلم عن الجریمة تکلم عنها بشمولیة مطلقة دون تحدید من هو فاعل الجریمة, فتکلم عن جرائم النفس والمال وخلافه بإظهار ما هی الجریمة وکیف ترتکب وعناصرها وأرکانها, أما إسناد هذه الجریمة إلى فلان فهذا الأمر ینظمه قانون الإجراءات أیضا بشمولیة مطلقة ". ولا نمیل إلى هذا القول, باعتبار أن الإسناد الجنائی لا یقتصر على قانون الإجراءات الجنائیة, فهنالک الإسناد الموضوعی وهو إما أن یکون مادیا أو یکون معنویا, ویتحدد نطاقه فی قانون العقوبات, کما سنرى لاحقا.
وعلى هذا یمکننا أن نعرف الإسناد فی نطاق قانون العقوبات بأنه نسبة النتیجة الإجرامیة إلى فعل معین ومن ثم نسبة هذا الفعل الى إرادة فاعل معین لقدرته على الاختیار. فهذا التعریف یجمع بین صورتی الإسناد الجنائی.
الفرع الرابع
الإسناد الجنائی فی الاصطلاح القضائی
لم یعرف القضاء الجنائی العراقی مصطلح "الإسناد ", ولکن هذا لا یعنی أن الإسناد هو مصطلح دخیل على قضائنا الجنائی . فقد تباین هذا القضاء فی قراراته بین استعمال مصطلح "الإسناد" , من ذلک ماقضت به محکمة التمییز فی قرار لها من أنه (( ... إذ لا یکفی فی قرار الإدانة إســناد الفعل الجرمی إلى مادته القانونیة )), وبین استعمال مصطلحات مشابهة لمصطلح الإسناد, منها مصطلح " الجریمة المسندة " من ذلک ماقضت به المحکمة المذکورة بأنه (( إذا کانت الجریمة المسندة إلى المتهم ناشئة عن الوظیفة فلا یسوغ إحالته إلى المحاکمة ... )), ومصطلح " التهمة المسندة " , من ذلک ما قضت به المحکمة المذکورة بأنه (( لدى التدقیق والمداولة وجد إن قرار براءة المتهم من التهمة المسندة إلیه صحیح وموافق للقانون)), ومصطلح " الفعل المسند أو الفعل المنسوب " , من ذلک ما قضت به محکمة التمییز بأنه (( إذا کان الفعل الجرمی المسند إلى المتهمین یکون جریمة واحدة )), وما قضت به (( لا یکون المتهم مسؤولا عن الفعل المنسوب إلیه ...)). یتبین من هذه القرارات أن القضاء الجنائی العراقی لم یورد تعریفا للإسناد الجنائی بصورة صریحة, إنما تعرض له من خلال عبارات قریبة من هذا المصطلح منها عبارة " إسناد الفعل الجرمی ", وعبارة " الجریمة المسندة, أو التهمة المسندة ", وعبارة " الفعل المسند أو المنسوب ".
أما بالنسبة للقضاء الجنائی فی مصر, فان موقفه من تعریف الإسناد الجنائی لیس بأفضل من موقف قضائنا الجنائی فی هذا الصدد. فلم یبین القضاء الجنائی المصری معنى الإسناد الجنائی, وهذا لا یعنی أن الإسناد هو مصطلح دخیل على هذا القضاء, فقد تباینت محکمة النقض المصریة فی قراراتها بین اسـتعمال مصطلح " الإسناد " , من ذلک ماقضت به المحکمة المذکورة بأنه (( رابطة السببیة تتطلب إسناد النتیجة إلى خطأ الجانی ومساءلته عنها طالما کانت تتفق والسیر العادی للأمور )), واستعمال مصطلح " إسناد التهمة " , من ذلک ما قضت به المحکمة المذکورة بأنه (( إن الواقعة تکون محطوطة بالشکوک والریبة فی صحة إسناد التهمة إلى المتهم )), وما قضت به بأن (( لمحکمة الموضوع أن تقضى بالبراءة متى تشککت فی صحة إسناد التهمة إلى المتهم)), وبین استعمال عبارات قریبة من هذا المصطلح مثل" الجریمة المسندة " , من ذلک ما قضت به هذه المحکمة بأنه (( إن الجریمة المسندة إلى المتهم لیست من الجرائم التی أجاز القانون القبض فیها )), ومصطلح " الفعل المسند " , من ذلک ما قضت به المحکمة المذکورة بأنه (( عدم تقید المحکمة بالوصف الذی تسبغه النیابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم )).
أما فی فرنسا, فنلاحظ أن محکمة النقض الفرنسیة قد حاولت فی قرار لها بیان معنى الإسناد الجنائی عندما قضت بأنه (( یتحقق الإسناد متى ما توافرت الإرادة الحرة والتمییز لدى الجانی )). یلاحظ أن هذا القرار رکز على الإسناد باعتباره یتطلب توافر الإدراک وحریة الاختیار لدى الجانی, وهو بهذا قصر الإسناد الجنائی على الإسناد المعنوی دون المادی. ومع ذلک فان موقف القضاء الجنائی الفرنسی فی هذا المجال أکثر تقدما من موقف القضاء الجنائی العراقی والمصری.
المطلب الثانی
الطبیعة القانونیة للإسناد الجنائی
نقصد بالطبیعة القانونیة للإسناد الجنائی, تحدید طبیعة العلاقة التی تربطه بالجریمة. فقد اختلف الفقهاء حول تحدید طبیعة هذه العلاقة, فهل یعتبر الإسناد الجنائی مفترضا اومقدمة ضروریة للقول بوجود الجریمة, وبالتالی لا یدخل عنصرا فی تکوینها, بل هو أمر سابق علیها ؟, أم انه عنصر یدخل فی تکوین أرکان الجریمة, بحیث لا تکتمل أرکانها مالم یتوافر عنصر الإسناد؟. وحول هذا الموضوع ظهرت العدید من الآراء الفقهیة التی حاولت بیان الطبیعة القانونی للإسناد الجنائی. وفیما یلی سنوضح هذه الآراء, مع بیان الأسانید التی یقوم علیها کل رأی, ومن ثم الإشارة إلى الانتقادات الموجهة لکل منها للوقوف على الرأی الراجح منها.
الرأی الأول: ( الإسناد افتراض للجریمة)
یرى أنصار هذا الرأی, وخصوصا الفقیه الایطالی لیون, أن الإسناد الجنائی هوافتراض للجریمة, ومقدمة ضروریة لها, وبالتالی فانه لا یمکن التسلیم بجریمة الشخص غیر الأهل للإسناد, فهذا الأخیر لا یمکنه انتهاک قانون العقوبات حیث لا یکون مخاطبا بأحکامه, وقد تغالى بعض أنصار هذا الاتجاه فقالوا إن الشخص الأهل للإسناد ( الجانی ) هو افتراض للجریمة. فالإسناد الجنائی وفقا لهذا الرأی مفترض من مفترضات أهلیة ارتکاب فعل یطلق علیه وصف الجریمة, فهو حالة شخصیة تسبق ارتکاب الجریمة, وتعد ضروریة لکی ترتب الجریمة آثارها القانونیة.
واضح أن هذا الاتجاه یعتبر الإسناد الجنائی مستقلا عن الجریمة, حیث یعتبره مقـدمة ضروریة لقیامها وترتیب آثارها القانونیة. فالإسناد وفقا لهذا الرأی یعتبر شرطا سابقا على قیام الجریمة.
وقد انتقد هذا الاتجاه, باعتبار انه یبتعد بالإسناد الجنائی عن الجریمة, ویعتبره مفترضا سابقا علیها, ومن جهة أخرى یؤخذ على أنصار هذا الاتجاه قولهم بعدم الاعتراف بجریمة غیر الأهل للإسناد کالصغیر والمجنون, لان هؤلاء ومن فی حکمهم لا یسعهم مخالفة القاعدة القانونیة. فهذا القول یخالف الحقیقة وذلک لان القاعدة الجنائیة ذات مجال عام, فالمشرع حینما یتوجه بالأمر الذی تتضمنه القاعدة الجنائیة, فانه یخاطب الجمیع بلا استثنــاء للمرضى عقلیا, أو غیرهم کالصغار, إذ إن هؤلاء ومن فی حکمهم یخضعون للقاعدة الجنائیة, وإن کان من غیر الجائز إخضاعهم للعقوبة بمفهومها التقلیدی , بل یجب إخضاعهم لتدبیر أمنی من بدائل العقوبة, وهذا ما أکده المشرع العراقی عندما استخدم عبارة " لا یسأل جزائیا" فی المادة (60) من قانون العقوبات, وهذا یعنی أن ما یصدر عن المجنون ومن فی حکمه یعتبر جریمة , وان کان من غیر الممکن عقابه لتوافر مانع من موانع المسؤولیة لدیه, ولو لم یرد المشرع العراقی هذا الحکم لاستخدم عبارة " لاجریمة " بدلا من عبارة " لا یسأل جزائیا " . کما انتقد هذا الاتجاه, لأنه اعتبر الجانی مفترضا للجریمة , وهذا لایمکن قبوله, باعتبار أن الافتراض یسبق الجریمة, فی حین إن الجانی لیس سابقة زمنیة للجریمة بل هو مرتکبها.
الرأی الثانی: ( الإسناد افتراض للرکن المعنوی للجریمة )
یسلم مؤیدو هذا الرأی بان الإسناد الجنائی هو افتراض للرکن المعنوی للجریمة, بمعنى کونه شرطا لازما لتحقق الإثم أو الذنب , أی الخطأ بمعناه الواسع, وعلى ذلک فإذا انتفت أهلیة الإسناد لدى الشخص - لوجود عارض من عوارضها – انعدم الإثم أو الخطأ کرکن فی الجریمة . فلو افترضنا مثلا بان السکران سکرا غیر إرادی قد ارتکب جریمة قتل- وفقا لما تقدم – لایمکن القول بتوافر أی صورة من صور الرکن المعنوی لدیه, -کالعمد أو الخطأ غیر العمدی- لان الإسناد مفترض للاثم, وان ظل الفعل غیر مشروع ومتطابق مع النموذج القانونی للجریمة, ومنسوب لمرتکبه مادیا. فالإسناد یعتبر تنظیما قانونیا مستقلا عن
الرکن المعنوی للجریمة, وهو یعتبر شرطا سابقا ولازما لوجود الخطأ المعنوی.
ونحن لا نمیل إلى هذا الرأی, فهو یعتبر الإسناد الجنائی مفترض للاثم, وهذا لا یمکن قبوله باعتبار انه من المتصور قیام الإثم فی جانب الجانی وان لم یکن أهلا للإسناد,
الرأی الثالث: ( الإسناد صفة أو حالة )
یذهب أنصار هذا الرأی إلى القول بان الإسناد الجنائی لا یعد من مفترضات الجریمة, ولا یعتبر عنصرا یدخل فی تکوین أرکانها, بل هو حالة شخصیة قانونیة, لأنه یرتبط بالجانی لا بالجریمة, وانه یرتب آثاراً قانونیة هی الإعفاء من العقوبة, وقد یؤدی إلى تطبیق بعض التدابیر, ولا یجوز الخلط بین الإسناد الجنائی والظروف, فالأول یتعلق بالمجرم أما الأخرى فتتعلق بالجریمة.
فالإسناد الجنائی وفقا لهذا الاتجاه هو عبارة عن نمط وجود mododi esser , أو حالة status , أو وصف شخصی.
ونحن لا نمیل إلى هذا الرأی أیضا, حیث انه یجعل الإسناد الجنائی حالة شخصیة مستقلة عن الجریمة ومرتبطة بشخص المجرم, وفی هذا خلط بین الإسناد الجنائی والأهلیة الجنائیة.
الرأی الرابع: ( الإسناد عنصر فی الجریمة )
یعتبر الإسناد الجنائی وفقا لهذا الرأی عنصرا یدخل فی تکوین الجریمة, ویذهب أنصار هذا الرأی إلى القول بان هذا التکییف للإسناد الجنائی یتفق تماما مع خطة المشرع المصری , الذی نص فی المادة (62) من قانون العقوبات على أنه (( لا عقاب على من یکون فاقد الشعور أو الاختیار فی عمله وقت ارتکاب الفعل )), فهذه المادة قد جعلت من احتجاب الشعور أو غیاب الاختیار - وهما من عناصر الإسناد المعنوی - سببا یوجب امتناع العقوبة.
ونحن نمیل إلى هذا الٍرأی, حیث انه اعتبر الإسناد المعنوی عنصرا یدخل فی تکوین الرکن المعنوی للجریمة, وبذلک تجنب الخلط بین الإسناد الجنائی والإثم أو الإذناب. على الرغم من انه لم یشر إلى التکییف القانونی للإسناد المادی, الذی یعتبر عنصرا یدخل فی تکوین الرکن المادی , حیث یربط بین عنصری هذا الرکن ویحقق وحدته. فالتکییف الذی نرجحه للإسناد الجنائی, هو أن الإسناد یعتبر عنصراً یدخل فی تکوین رکنی الجریمة, المادی والمعنوی ( الإسناد المادی عنصر فی الرکن المادی, والإسناد المعنوی عنصر فی الرکن المعنوی ).
المبحث الثانی
ذاتیة الإسناد الجنائی
قد یحدث الخلط بین مفهوم الإسناد الجنائی وبین غیره من المفاهیم فی نطاق قواعد القانون الجنائی، فهنالک بعض المفاهیم التی یبدو للوهلة الأولى أنها تعبر عن نفس المعنى الذی یعبر عنه الإسناد الجنائی, من هذه المفاهیم الأهلیة الجنائیة, والمسؤولیة الجنائیة, والتکییف, وأخیرا الإثم الجنائی. لذا لابد من الوقوف على معنى کل من هذه المفاهیم وتمییز الإسناد الجنائی عنها, ولإدراک هذه الغایة ارتأینا تقسیم هذا المبحث إلى أربع مطالب, کما یأتی:
المطلب الأول
تمییز الإسناد الجنائی من الأهلیة الجنائیة
البعض من الفقهاء یخلط بین فکرة الإسناد الجنائی وفکرة الأهلیة الجنائیة, حیث یرون أن هذه الازدواجیة فی المصطلحات لا یقابلها ازدواجیة فی المفاهیم باعتبار أن الشخص ذا الأهلیة یکون أهلا للإسناد, والعکس صحیح, وعدیم الأهلیة هو دائما شخص غیر أهل للإسناد. وابعد من ذلک نجد أن بعض الفقهاء یطلق على الأهلیة الجنائیة اصطلاح " أهلیة الإسناد ".
ویذهب البعض إلى القول: " إن الجریمة لا تقوم إلا بنوعین من الإسناد إسناد مادی هو علاقة السببیة, و إسناد معنوی هو الأهلیة الجنائیة". وفی هذا القول خلط واضح بین الإسناد والأهلیة.
والأهلیة الجنائیة کما یعرفها البعض هی استعداد الشخص أو قدرته على فهم ماهیة أفعاله وتقدیر نتائجها وعواقبها مما یستلزم أن تکون ملکاته العقلیة والذهنیة طبیعیة وقت ارتکاب الجریمة, ویعرفها البعض الآخر بأنها کنایة عن تمتع المتهم بجریمة بالعقل والبلوغ للإدراک أو التمییز ولاختیار المسلک, وتعرف الأهلیة الجنائیة کذلک بأنها وصف أو تکـییف
لحالة الشخص العقلیة وقت ارتکاب الفعل أو الامتناع المکون للجریمة.
من خلال هذه التعاریف لفکرة الأهلیة الجنائیة یتضح أن هناک فرقاً بین الإسناد الجنائی وبین هذا المفهوم من عدة أوجه, فمن جهة فان الأهلیة الجنائیة مفترض من مفترضات الإسناد المعنوی ولیس الإسناد المعنوی ذاته بل هی سابقة علیه ومستقلة عنه, فقبل البحث فی قیام الإسناد الجنائی من عدمه فی حق الشخص یفترض توافر شرط الأهلیة الجنائیة لدى هذا الشخص. لذا لا یمکن أن تنسب الجریمة معنویا إلى مرتکبها مالم یکن متمتعا بالأهلیة الجنائیة. وبالتالی فإنه من البدیهی عدم إمکان الکلام عن الإسناد الجنائی دون توافر الأهلیة الجنائیة, فی حین إن من الممکن تصور العکس.
لهذا فان الإسناد الجنائی لیس کما یذهب البعض إلى أنه لا یعنی شیئاً آخر غیر الأهلیة الجنائیة, ولا یعتبر أیضا مفترضا للأهلیة الجنائیة فهو لا یعد من الشروط الواجبة لصلاحیة الفرد لان یکون مخاطبا بأحکام قانون العقوبات, فالشخص غیر الأهل للإسناد یمکن أن یکون شخصا محروما من الأهلیة الجنائیة کما یمکن أن یکون ذا أهلیة جنائیة. فقد یکون متمتعا بالأهلیة الجنائیة ومع ذلک لا یکون أهلا للإسناد الجنائی, کمن یرتکب الجریمة تحت تأثیر الضرورة أو الإکراه المعنوی, وهو متمتع بکامل ملکاته العقلیة وقت ارتکاب الفعل المکون للجریمة, ولکن الذی یحدث أن حریة الاختیار تضیق لدیه فی هذه الحالة إلى الحد الذی تصبح معه الإرادة متجردة من القیمة القانونیة فلا یعتد بها القانون, وبالتالی لا یمکن إسناد الجریمة إلیه من الناحیة المعنویة.
ومن جهة أخرى فان أساس فکرة الإسناد الجنائی متعلق بقدرة الجانی على الاختیار, فی حین إن أساس فکرة الأهلیة الجنائیة متعلق بمدى صلاحیة الجانی للمخاطبة بأحکام قانون العقوبات ,أی لصدور الفعل على وجه یعتد به القانون. ومن جهة أخرى فإن الأهلیة الجنائیة هی حالة شخصیة باعتبار أنها تتعلق بمدى صلاحیة الشخص للمخاطبة بأحکام القانون, فی حین إن الإسناد الجنائی قد یکون ذا طبیعة موضوعیة, فالإسناد المادی یتعلق بمادیات الجریمة, باعتبار انه عنصر فی الرکن المادی للجریمة.
ویرى جانب من الفقه أن الإسناد الجنائی یختلف عن الأهلیة الجنائیة من حیث إن الأول یخص أو یعنی الشخص الذی یکون موضعا للمساءلة الجنائیة عن فعل یکون جریمة, أما الثانیة فتعنی أو تخص کـل الأشخاص الذین یمکن أن یقترفوا جریمـة ما, أو بمعنى آخر
احد المحظورات الجنائیة illecito penale.
یتضح من کل ما تقدم أن الازدواجیة فی هذین المصطلحین "الإسناد الجنائی والأهلیة الجنائیة " تقابل بازدواجیة فی المعنى والمفهوم أیضا , فالإسناد الجنائی شیء والأهلیة الجنائیة شیء آخر ولکل منهما مدلوله الخاص به, ولکن هذا لا یعنی أنهما مفهومان منفصلان عن بعضهما, بل هناک ترابط وثیق بینهما إلى الحد الذی أدى ببعض الفقهاء إلى اعتبارهما معبرین عن مفهوم واحد, فالشخص لایمکن أن یکون أهلا للإسناد الجنائی مالم یکن ذا أهلیة جنائیة, وهذا یعنی أن الأهلیة الجنائیة مفترض للإسناد الجنائی, ولیس العکس باعتبار أن الشخص قد یکون متمتعا بالأهلیة الجنائیة ومحتفظ بکامل قدراته العقلیة والذهنیة مدرکا لماهیة أفعاله وقت ارتکاب الفعل المکون للجریمة, ومع ذلک لایمکن اعتباره أهلا للإسناد الجنائی لارتکابه الجریمة فی هذه الحالة تحت تأثیر الإکراه المعنوی مثلا، فإرادته هنا خضعت لتأثیر هذا العامل على نحو لم یترک لها حریة الاختیار, ومن ثم أصبحت هذه الإرادة متجردة من القیمة القانونیة, فلا یمکن نسبة الجریمة إلیه من الناحیة المعنویة وإن أمکن إسنادها إلیه مادیا.
المطلب الثانی
تمییز الإسناد الجنائی من المسؤولیة الجنائیة
اختلف فقهاء القانون الجنائی حول مسألة مهمة, هی: هل إن الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة یقابلهما وحدة فی المفهوم, أم ازدواج فیه ؟.
والمسؤولیة الجنائیة کما یعرفها البعض هی صلاحیة الشخص أو أهلیته لتحمل العقوبة المقررة للجریمة, وتعرف المسؤولیة الجنائیة أیضا بأنها الالتزام بتحمل النتائج القانونیة المترتبة على توافر أرکان الجریمة, وموضوع هذا الالتزام هـو العقوبة أو التدبیر الاحترازی الذی ینزله القانون بالمسؤول عن الجریمة, فارتکاب الشخص لفعل یعتبره القانون جریمة یثیر فکرة المسؤولیة الجنائیة وتوقیع العقوبة على هذا الشخص بمقتضى حکم قضائی وهذا یعنی انه مسؤول مسؤولیة جنائیة.
والرأی فی ایطالیا خاصةً هو أن الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة شیء واحد ولا یمکن اعتبارهما مفهومین مختلفین, حیث ذهبت محکمة النقض الایطالیة إلى انه لیس هناک فرق بین الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة عندما ذکرت (( أن التمییز بین الإسناد والمسؤولیة الجنائیة هو فی جوهره سفسطی, ذلک لأنه لا یمکن تقدیر أی فرق بین الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة سوى أن الإسناد کمجموعة شروط شخصیة یکون الشخص بمقتضاها أهلا جنائیا, والمسؤولیة وجود تلک الأهلیة فی شخص معین )). ویذهب جانب من الفقه المصری فی ذات الاتجاه, حیث یساوی بین الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة, بل یعتبرهما مترادفین باعتبار أن إسناد الجریمة إلى المتهم یعنی تمتعه بالقدرة على التمییز والاختیار اللذینِ هما من شروط المسؤولیة الجنائیة.
واتجاه بعض الفقهاء إلى القول بارتباط معنى الإسناد الجنائی بالمسؤولیة الجنائیة مرده, خلطهم بین معنى الإرادة فی الإسناد ومکانتها فی المسؤولیة الجنائیة, لأنه إن کان من الصحیح اعتبار الإرادة مرتبطة بکل من الإسناد والمسؤولیة, فإن دورها یختلف فی کل منهما عن الآخر, فالإرادة فی الإسناد إرادة کامنة فی نفس الشخص, وهی عنصر یجب توافره بجانب التمییز لإمکان تمتع الشخص بالأهلیة النفسیة, أما الإرادة فی المسؤولیة فهی إرادة أساس, أی أنها تعبیر عن فکرة الاختیار الحر, وهی فکرة یرى العدید من الفقهاء أنها أساس المسؤولیة الجنائیة.
کما شاع هذا الخلط بین الإسناد والمسؤولیة الجنائیة فی الفقه الفرنسی, ولربما ساعد على ذلک ما توحی به صیاغة المادة (64) من قانون العقوبات الفرنسی لعام 1810 (الملغی), إذ تنص على (( لا جنایة ولا جنحة إذا کان الفعل ... )), وهذه العبارة هی نفسها التی صدر بها المشرع الفرنسی نص المادة (327) من قانون العقوبات (الملغی), إذ تکلم فیها عن الضرب والجرح المسموح به قانونا أو المقرر من جانب سلطة شرعیة, بهذه العبارة بدأ المشرع أیضا نص المادة (328), التی تخص الدفاع الشرعی, فصیاغة هذه المواد الثلاث على النحو المذکور هو ما دعا جانباً من الفقه الفرنسی للقول بوحدة مفهوم الإسناد والمسؤولیة الجنائیة.
والواقع انه لا یمکن التسلیم بهذه الآراء, فالإسناد الجنائی له مدلوله الخاص به الذی یختلف به عن المسؤولیة الجنائیة التی لها أیضا مدلولها الخاص بها . فالإسناد الجنائی هو علاقة بین الفعل والفاعل من حیث إمکان نسبة هذا الفعل إلى الفاعل مادیا ومعنویا, أما المسؤولیة الجنائیة فهی علاقة تنشأ بین الفرد (مرتکب الجریمة), والدولة (سلطة توقیع الجزاء) بمقتضاه یکلف الشخص بالإجابة عن جریمة, أی یتحمل العقاب, وهذه العلاقة تجد أساسها فی الفعل الإجرامی غیر المباح المرتکب عن خطأ بالمعنى الواسع ومن شخص مسند إلیه, کما أن الإسناد الجنائی یعتبر من مفترضات المسؤولیة الجنائیة, فلا یکفی لقیام المسؤولیة الجنائیة أن یکون الشخص قد ارتکب الخطأ, بل یلزم فوق ذلک أن یسند هذا الخطأ إلیه, بعبارة أدق یجب للقول بقیام المسؤولیة الجنائیة وجود الإرادة والاختیار ونسبة خطأ إلى فاعل الجریمة. وهذا یعنی أن الإسناد الجنائی شرط لازم لقیام المسؤولیة الجنائیة ولیس مرادفا لها. بل حتى الآراء التی تعتبر الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة مترادفین, تتضمن ما یشیر إلى أن الإسناد هو شرط للمسؤولیة الجنائیة حیث جاء فی قرار محکمة النقض الایطالیة الذی سبقت الإشارة إلیه " لا یمکن تقدیر أی فرق بین الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة سـوى أن الإسناد کمجموعة شروط شخصیة یکون الشخص بمقتضاها أهـلا جنائیا,
والمسؤولیة وجود تلک الأهلیة فی شخص معین ".
ومن ناحیة أخرى فان الإسناد الجنائی- کما اشرنا -, یعتبر عنصرا یدخل فی تکوین أرکان الجریمة, فالإسناد المادی عنصر فی الرکن المادی للجریمة, والإسناد المعنوی عنصر فی رکنها المعنوی, فی حین أن المسؤولیة الجنائیة لیست عنصرا من العناصر القانونیة للجریمة, بل هی أثر مترتب على السلوک الإجرامی,
وفی صدد التمییز بین الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة یقول الأستاذ "Manzini" : إن الإسناد هو مجموعة من الشروط المادیة والنفسیة التی یتطلبها القانون حتى یمکن اعتبار الشخص الأهل سببا کافیا للجریمة, أما المسؤولیة فهی الالتزام بالخضوع کنتیجة للإسناد المؤکد لإحدى الجرائم, وبعبارة أدق إن المسؤولیة هی الالتزام بتحمل النتائج القانونیة عن الفعل المسند إلى المتهم, یتضح من هذا القول بان المسؤولیة الجنائیة هی نتیجة فوریة ومباشرة لإسناد الفعل المجرم إلى مقترفه عندما تتوافر فیه شروط هذا الإسناد.
فالتمییز بین الإسناد الجنائی والمسؤولیة الجنائیة أمر یفرض نفسه, حیث هناک أشخاص هم ذوو أهلیة جنائیة فی نظر قانون العقوبات, ولکن فی حالات معینة لایسألون جنائیاً عن الأفعال التی اقترفوها, کما فی حالة من یرتکب الجریمة وهو سلیم العقل وبالغ السن ولکن تحت تأثیر الإکراه المادی أو القوة القاهرة, وسبب عدم مساءلة مثل هذا الشخص جنائیاً فی مثل هکذا ظروف, یکمن فی عدم توافر شرط لازم لقیام هذه المسؤولیة, وهذا الشرط هو إسناد الفعل إلى مرتکبه من الناحیة المادیة. فمثل هذا الشخص غیر أهل للإسناد الجنائی وان کان متمتعا بالأهلیة الجنائیة.
نخلص من کل ما تقدم ذکره إلى أن الإسناد الجنائی شیء, والمسؤولیة الجنائیة شیء آخر. ولکل منهما مدلوله الخاص به, لذا لا یمکن اعتبارهما تعبیرا عن مدلول واحد واعتبارهما مصطلحین مترادفین, إلا أن هذا لا یعنی الانفصال التام بینهما, فلا یتصور قیام المسؤولیة الجنائیة بدون قیام الإسناد الجنائی حیث انه لا مسؤولیة بدون إسناد جنائی, وهذا یعنی أن الإسناد الجنائی مفترض للمسؤولیة الجنائیة وشرط لازم لقیامها, حیث إن المسؤولیة الجنائیة تتبع زمنیا ومنطقیا الإسناد الجنائی, الذی هو عنصر فی الجریمة على خلاف المسؤولیة الجنائیة التی هی مجرد أثر یترتب على ارتکاب الجریمة وقیام الإسناد الجنائی.
المطلب الثالث
تمییز الإسناد الجنائی من التکییف الجنائی
قد یتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن الإسناد الجنائی یعبر عن نفس المفهوم الذی یعبر عنه التکییف الجنائی والواقع انه هناک فرقاً بین الإسناد الجنائی وبین هذا المفهوم, وهذا ما سنلاحظه فی هـذا المطلب.
فالتکییف فی نطاق القانون الجنائی هو رد الواقعة الجنائیة إلى أصل من نص القانون واجب التطبیق علیها , والتکییف هو شکل من أشکال تطبیق القانون؛ ذلک لأنه یتضمن جملة من الأفعال التی تعتبر تطبیقا للقانون وهی تتعلق بدراسة الوقائع المکونة للظاهرة القانونیة ومن ثم اختیار القاعدة القانونیة المناسبة والقیام بتفسیرها, وفی ضوء ذلک اتخاذ القرار عن مدى صلاحیة تطبیقها على الظاهرة المذکورة. ویعرف التکییف بأنه (عمل قانونی إلزامی یقوم به القاضی, به یتفهم الواقعة ویحدد عناصرها, ویتفهم القانون فی الواقع ویحدد عناصره ویطبق احدهما على الآخر ویصف الواقعة وصفا قانونیا), فالتکییف هو جوهر العمل القضائی وهو وسیلة الوصل بین الوقائع والقانون, وهو یقابل التشخیص فی علم الطب, وهو إما أن یکون قانونیا عندما یکون خلاصة لتطبیق فکرة قانونیة, أو یکون غیر قانونی عندما یکون خلاصة تطبیق أفکار ذات طابع غیر قانونی , مثال الأول تکییف المنقول فی السرقة بأنه مملوک للغیر , ومثال الثانی تکییف الواقعة المسندة إلى المجنی علیه فـی جریمة القذف بأنها توجب احتقاره عند أهل موطنه.
فالإسناد الجنائی یختلف عن التکییف بالمفهوم السابق من أوجه عدیدة, فمن جهة یرتبط الإسناد الجنائی بمسائل الواقع, باعتبار أن البحث فی توافر الإسناد المادی والمعنوی من مسائل الواقع التی تختص بها محکمة الموضوع دون رقابة محکمة التمییزفی حین إن التکییف وحسب ما هو مستقر علیه فقهاً وقضاءاً هو من مسائل القانون ویخضع للرقابة, فلمحکمة التمییز تصحیح الخطأ فی تکییف الواقعة وتبدیل الوصف القانونی إلى وصف أخر, أما الخطأ فی تکییف الجریمة فغالبا ما یترتب علیه إعادة الدعوى إلى المحکمة المختصة. ومن جهة أخرى فإن الإسناد الجنائی یأتی من الناحیة الزمنیة والمنطقیة فی مرحلة لاحقة على التکییف الجنائی, فمن البدیهی أن یقوم القاضی أولا بتکییف الواقعة الإجرامیة ویعطیها الوصف القانونی المناسب, لیتمکن من إسنادها إلى المتهم, بل قد یتبین للقاضی بعد القیام بعملیة التکییف عدم وجود نص قانونی ینطبق على الواقعة المرتکبة , فهنا لا یمکن الکلام عن الإسناد الجنائی لانعدام موضوعه.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الإسناد الجنائی لا یعتبر عنصرا فی التکییف, إذ هو لا یدخل ضمن المراحل التی یمر بها التکییف من فهم الواقع والقانون وتطبیق احدهما على الآخر, ومن ثم المطابقة, وأخیرا الوصف بل هو مرحلة مستقلة تماما عن مرحلة التکییف, فقد یقوم القاضی بتکییف الواقعة, ولکن لا یتمکن من إسنادها لکون المتهم غیر أهل للإسناد الجنائی. کأن ینتهی القاضی من تکییف الفعل الذی اقترفه الجانی بأنه ضرب أفضى إلى موت مثلا, ثم تبین أن الجانی لم یکن فی قواه العقلیة الکاملة وقت ارتکاب الفعل, وبالتالی لا یمکن إسناد هذا الفعل إلى هذا الجانی . ولکن هذا لا یعنی انعدام کل صلة بین الإسناد الجنائی والتکییف, فالتکییف قد یؤثر فی الإسناد الجنائی.
فمثلا إذا تم تغییر أو تعدیل التکییف الجنائی بناءا على إنقاص بعض الوقائع مثلا فان ذلک یؤدی إلى تعدیل وصف الواقعة المسندة إلى المتهم, من ذلک تعدیل وصف التهمة من فاعل أصلی فی الجریمة إلى شریک, وذلک بعد إسقاط عنصر فی الواقعة لم یتم إثباته هو البدء فی التنفیذ. فإذا استبعدت المحکمة أو قاضی التحقیق إحدى الوقائع المسندة إلى المتهم فان ذلک مرتبط بتعدیل التکییف. وقد أکدت محکمة التمییز العراقیة هذه الصلة بین التکییف والإسناد, فی قرار لها حیث رتبت على تغیر الوصف القانونی للواقعة تغییر التهمة المسندة إلى المتهم بإدانته وفق المادة التی تنطبق على الوصف الجدید , فقضت ((... فی حین لم یتوفر أی دلیل قانونی یؤید ما ذهبت إلیه المحکمة من أن المتهم کان یقصد إحداث العاهة بالمشتکی خاصة وان النزاع الذی أدى إلى وقوع الحادث حدث اثر نزاع آنی, الأمر الذی یعتبر فعل الممیز منطبقا وأحکام الفقرة الثانیة من المادة 412 ق.ع لذلک واستنادا إلى المادة 260 من قانون أصول المحاکمات الجزائیة قرر تبدیل الوصف القانونی للجریمة وإدانته المتهم " أ "وفق الفقرة الثانیة من المادة 412 من قانون العقوبات ...)).
نخلص من کل ما تقدم إلى أن لکل من الإسناد الجنائی والتکییف الجنائی مدلولاً خاصاً به ولا یجمع بینهما وحدة المفهوم, فالإسناد الجنائی هو: نسبة النتیجة الإجرامیة إلى فعل معین ومن ثم نسبة هذا الفعل إلى إرادة فاعل معین لقدرته على الاختیار, أما التکییف الجنائی فهو رد الواقعة الجنائیة إلى أصل من نص القانون واجب التطبیق علیها. کما لا یمکن اعتبار الإسناد مرحلة من المراحل التی یمر بها التکییف الجنائی, حیث تنتهی مرحلة التکییف لتبدأ مرحلة إسناد الواقعة إلى الجانی, ولکن هذا لا یعنی الانفصال التام بین هذین المفهومین, فالإسناد الجنائی یتأثر بالتعدیلات والتغیرات التی قد تطرأ على التکییف الجنائی.
المطلب الرابع
تمییز الإسناد الجنائی من الإثم الجنائی
الإثم الجنائی أو الإذناب کمفترض من مفترضات العقوبة هو دلالة على الرکن المعنوی اللازم قیامه بجانب الرکن المادی کحد أدنى لنشوء الجریمة قانونا, وکثیرا ما یطلق الفقهاء للتعبیر عن استلزام الخطأ بمعناه الواسع کرکن مکون للجریمة, القاعدة اللاتینیة القائلة بأنه (( لا جریمة بلا إثم Nullum erimen sine culpa )), حیث یلزم للقول بوجود جریمة أن یتوافر فیها الرکن المعنوی أو النفسی فضلاً عن رکنها المادی, فلا یمکن أن تنسب جریمة إلى شخص لم یکن قد نوى القیام بها, والنیة فی ارتکاب الجریمة هی نیة آثمة طالما اتجهت لارتکاب فعل غیر مشروع,وهـذه الإرادة الآثمة هی المحور الذی تدور حوله فکرة الجریمة.
والإثم الجنائی کما یعرف هو تعبیر عن العلاقة النفسیة التی یستوجب المشرع قیامها بین الجانی وفعله, وهذه العلاقة قد تتخذ صورة العمد أو الخطأ غیر العمدی, أو هو تعبیر عن إرادة خاطئة فی علاقتها بالقاعدة القانونیة. فجوهر الإثم الجنائی هو تهدید الإرادة الإنسانیة بسلوکها غیر المشروع - ارتکابا أو امتناعاً – المصلحة القانونیة التی أسدل علیه المشرع العقابی حمایته, أی تعریضها للخطر ولو فی صورة الشروع فی إتیان الفعل المؤثم قانوناً. ومع ذلک فان تحدید مفهوم الإثم الجنائی بقی محل خلاف بین الفقهاء والتعاریف التی اوردوها لفکرة الإثم الجنائی ترکز على الإثم باعتباره جوهر الرکن المعنوی, إذ تتمثل ابرز سماته بإرادة عاصیة للواجب, اتجهت من ثم اتجاها منحرفا من ورائه مخالفة القانون, والإثم من هذه الناحیة وثیق الصلة بالمفهوم العام للخطأ من ناحیة القانون باعتبار أن الخطأ هو خرق لنص مقترن بعقوبة.
ویرى البعض أن الإثم أو الإذناب هو محتوى أو مضمون للإسناد الجنائی, باعتبار أن الإسناد المعنوی کنایة عن فکرة الرکن المعنوی للجریمة, حیث یراد به ذلک المسلک الذهنی أو النفسانی الآثم أو الجانی لدى المتهم, فعبارة "الإسناد المعنوی" مشتقة إذن من إسناد الواقعة الإجرامیة إلى خطأ المتهم العمدی أو غیر العمدی, بحسب طبیعة کل جریمة.
وانتقد البعض هذا الرأی, وذلک بالقول: " لا یسعنا قبول اقتران معنى الإسناد المعنوی بالخطأ بالمعنى الواسع, وذلک لاعتبارات قانونیة ومنطقیة مختلفة, فالإسناد والإثم هما مقدمتان للمسؤولیة الجنائیة ولکل منهما دوره الخاص فی استحقاق مرتکب الجریمة للعقوبة, وربما کان مرد الخلط الشائع لدى جانب من الفقهاء بین الإسناد والإثم, هو کون الإرادة عنصرا فی کل منهما ".
إلا أنه ینبغی أن یلاحظ بأن الإرادة وإن کانت عنصراً فی کل منهما, فان الدور الذی تؤدیه فی احدهما یغایر الدور الذی تلعبه فی الآخر, فالإرادة فی الإسناد المعنوی إرادة عامة ساکنة تمثل مکنة لدى الشخص فی أن یعمل بحریة اختیار, فی حین إن الإرادة فی الإثم الجنائی هی إرادة خاصة تمثل حقیقة فعلیة ولهذا یجب البحث عنها فی کل جریمة على حدة. ومادام دور الإرادة فی الإسناد المعنوی یختلف عن دورها فی الإثم, فقد یفقد الشخص الإرادة بوصفها عنصراً فی الإسناد, وتبقى لدیه إرادته الخاصة المتمثلة فی العمد, أو الخطأ, أو القصد المتعدی. فالمجنون والسکران سکرا تاما کل منهما یعتبر غیر أهل للإسناد الجنائی, وبالرغم من ذلک یمکن أن یتصرف أی منهما عن عمد أو خطأ أو قصد متعدی.
ومن جهة أخرى فإن الإسناد الجنائی والإثم الجنائی وان کانا یشترکان فی کون کل منهما شرطاً لازماً لقیام المسؤولیة الجنائیة فلا مسؤولیة من دون إثم, ولا مسؤولیة کذلک من دون إسناد, فهذا لا یعنی أنهما متشابهان إلى الحد الذی یؤدی إلى الخلط بینهما, فالمصطلحان متمایزان عن بعضهما, ولکل منهما مدلوله ومجاله الخاص فی قانون العقوبات, فالإسناد إما أن یکون عنصراً فی الرکن المادی للجریمة –الإسناد المادی- أو یکون عنصراً فی الرکن المعنوی للجریمة -الإسناد المعنوی- , فی حین إن الإثم الجنائی هو رکن قائم بذاته فی الجریمة.
وإذا کان کل من الإسناد والإثم لازما لقیام المسؤولیة الجنائیة باعتبارهما من مفترضات هذه المسؤولیة ومدحضین لأصل البراءة فی الشخص, فان الإسناد قد ینتفی فی حق الفاعل على الرغم من توافر الإثم فی جانبه, کما فی حالة اقتراف المجنون لجریمة فان عدم مساءلته جنائیا لا یرجع إلى امتناع الذنب لأنه متوافر فی حقه, ولکن لان المجنون غـیر أهل للإسناد.
ویذهب جانب من الفقهاء - وخصوصا فی الفقه التقلیدی – إلى القول بان الإسناد الجنائی مفترض للاثم الجنائی, بمعنى انه لا یمکن توجیه أی لوم أوعقاب إلى الجانی مالم یکن أهلا للإسناد, فالشخص غیر الأهل للإسناد الجنائی لا یمکن أن یتوافر لدیه أیة صورة من صور الإثم الجنائی ( العمد , الخطأ غیر العمدی).
ونحن لا نمیل إلى هذا الرأی باعتبار أن الإثم یمکن أن یتوافر لدى الشخص غیر الأهل للإسناد, فمثل هذا الشخص یمکن – کما قلنا – أن یتصرف عن عمد أو خطأ غیر عمدی، فالمجنون مثلا -وهو شخص غیر أهل للإسناد- یستطیع توجیه الإرادة وتمثل النتیجة الجرمیة بل وإرادتها مباشرة.
وهذا یعنی أن المجنون لدیه إرادة وان کانت إرادة غیر عادیة, ومن ثم لا یمکن غض النظر عنها, وبالتالی فان هذه الإرادة تکون آثمة عندما تتجه إلى ارتکاب الجریمة ولا یغیر من هذه الحقیقة کون المجنون غیر أهل للإسناد , لذا لا یمکن القول بان الإسناد الجنائی مفترض للاثم باعتباره - الإثم- متوافر لدى المجنون هنا وان کان غیر أهل للإسناد الجنائی .
فالتفرقة بین الإسناد الجنائی والإثم الجنائی لیست من قبیل التمییز العقیم المستهدف فی ذاته, إذ یترتب علیها نتائج عملیة مهمة, فمتى سلم بان یکون الإسناد والإثم مفترضین متمیزین, فانه یتعین توافرهما معا لاستحقاق المتهم للعقوبة, بحیث یتغیر أو ینتفی رد الفعل المترتب على الجریمة بانتفاء أو انتقاص احد هذین المفترضین, سواء کنا بصدد عقوبة بمعناها التقلیدی, أو إزاء بدیل من بدائل العقوبة کالتدابیر.
نخلص من کل ما تقدم ذکره بان الإسناد الجنائی والإثم الجنائی مفهومان متمایزان ولا یعبران عن مفهوم واحد, حیث إن لکل منهما مدلوله الخاص به, فالإسناد الجنائی لا یعتبر رکنا قائما بذاته فی الجریمة بل یعتبر عنصرا یدخل فی تکوین رکنی الجریمة المادی والمعنوی, بخلاف الإثم الجنائی الذی هو رکن قائم بذاته فی الجریمة ( الرکن المعنوی ), فجانب کبیر من الفقهاء, یستخدم مصطلح الإثم الجنائی للتعبیر عن الرکن المعنوی للجریمة. فالإسناد الجنائی شیء والإثم الجنائی شیء آخر ولا یمکن اعتبار الإسناد الجنائی مفترضا للاثم الجنائی, فمن المتصور توافر الاثم الجنائی لدى الشخص على الرغم من عدم قیام الإسناد فی جانبه کالمجنون فهو غیر أهل للإسناد.
المبحث الثالث
أنواع الإسناد الجنائی وعناصره
الإسناد فی نطاق القانون الجنائی نوعان, فهو إما إسناد مادی أو إسناد معنوی. والإسناد الجنائی بنوعیه المادی والمعنوی یعتبر من عناصر المسؤولیة الجنائیة ولا تقوم لها بغیرهما قائمة, فقیام الجریمة على مجرد الإسناد المادی دون المعنوی أمر غیر مستساغ, حیث إن الجریمة تکتمل حین یقترن هذا الإسناد المادی بإسناد آخر هو الإسناد المعنوی. وللإسناد الجنائی بنوعیه – المادی والمعنوی – عناصر لابد من توافرها لقیام الإسناد فی حق الجانی علیه سنبین فی هذا المبحث أنواع الإسناد الجنائی, مع تحدید العناصر التی یقوم علیها الإسناد, وذلک فی مطلبین نخصص الأول منهما لبیان أنواع الإسناد الجنائی, أما الثانی فسوف نخصصه لبیان عناصر الإسناد الجنائی.
المطلب الأول
أنواع الإسناد الجنائی
قلنا أن الإسناد فی نطاق قانون العقوبات نوعان فهو إما إسناد مادی, أو إسناد معنوی, ولکل نوع مدلول خاص به. علیه سنحاول فی هذا المطلب بین مدلول کل منهما, وذلک فی فرعین کما یأتی
الفرع الأول
الإسناد الجنائی المادی
یعتبر مبدأ الإسناد المادی من المبادئ الدستوریة الثابتة منذ انتهاء عصر الطغیان والهمجیة, إذ لا سبیل إلى تحمیل شخص بعینه تبعة واقعة مؤثمة جنائیا مالم ترتبط هذه الواقعة بنشاط ذلک الشخص برابطة السببیة المادیة أو العضویة, وجوهر الإسناد المادی فی القانون الجنائی هو إضافة النتیجة التی یجرمها القانون فی حساب الشخص المخاطب بالنصوص العقابیة تمهیدا لمحاسبته علیها, وفکرة الإسناد بهذا المعنى هی فکرة قانونیة موضوعیة بحته لا شخصیة, إذ یعنی توافر إسناد أثر نشاط إجرامی للجانی الحکم بتوافر رابطة العلة بالمعلول بعیداً عن مفردات مکنة الامتثال للأوامر والنواهی. ویعرف الإسناد المادی بأنه ( نسبة الجریمة إلى فاعل معین, وهذا هو الإسناد المفرد فی ابسط صوره, کما قد یقتضی نسبة نتیجة معینة إلى فعل ما بالإضافة إلى نسبة هذا الفعل إلى فاعل معین وهذا هو الإسناد المزدوج ), یتضح من هذا التعریف أن الإسناد المادی إما أن یکون إسناد مفرد حیث یکتفی بنسبة النتیجة الإجرامیة إلى السلوک الإجرامی, أو یکون إسناد مزدوج حیث لا یکتفی بنسبة النتیجة الإجرامیة إلى السلوک الإجرامی بل یتطلب فوق ذلک نسبة هذا السلوک الإجرامی إلى فاعل معین. ومثال ذلک أنه فی جریمة القتل العمد لا یکفی إسناد فعل القتل إلى الجانی, بل یلزم إسناد وفاة المجنی علیه إلى هذا الفعل وإلا کانت الواقعة مجرد شروع فیه. ویعرف الإسناد المادی أیضا بأنه ( نسبة نتیجة ما بوصفها إلى فعل معین, ویقتضی فوق ذلک نسبة هذا الفعل إلى شخص مکلف بأوامر القانون, مکلف بنواهیه وهذا هو الإسناد المزدوج ), یلاحظ أن هذا التعریف استخدم عبارة " نسبة نتیجة ما بوصفها " للتدلیل على أن الإسناد یتم بعد وصف الجریمة, وبدیهی أن یتم وصف الجریمة قبل إسنادها إلى فاعلها لذا فإن کلمة " بوصفها " جاءت تزیدا,ً ولا مبررلذکرها فی التعریف, کما انه خلط بین الإسناد والأهلیة عند ذکره لعبارة " شخص مکلف بأوامر القانون مکلف بنواهیه". لذا یمکننا أن نعرف الإسناد المادی بأنه نسبة النتیجة الإجرامیة إلى السلوک الإجرامی الصادر عن الجانی.
هذا وإذا کان الإسناد المادی مقدمة ضروریة لتحدید العلاقة بین الشخص و رد الفعل القانونی, أی العلاقة بین الفاعل واستحقاق العقاب, إلا انه لا یکون شرطا کافیا للمساءلة الجنائیة, إذ قد تسند نتیجة ما إلى شخص معین ومع ذلک لا یعد هذا الشخص مسؤولا عنها , وهو یعد کذلک إذا لم یکن متمتعا بالأهلیة المفروضة لتحمل المسؤولیة الجنائیة.
أما عن المصدر التشریعی لمبدأ الإسناد المادی, فقد ورد ذکر هذا المبدأ فی الفقرة (1) من المادة (29) من قانون العقوبات العراقی النافذ, إذ تقضی بأنه (( لا یسأل شخص عن جریمة لم تکن نتیجة لسلوکه الإجرامی, لکنه یسأل عن الجریمة ولو کان قد ساهم مـع سلوکه الإجرامی فی إحداثها سبب آخر سابق أو معاصر أو لاحق , ولو کان یجهله )).
فالمشرع فی هذا النص یشیر إلى مبدأ جوهره أن الشخص لا یمکن أن یسأل جنائیا عن فعل أو امتناع تجرمه نصوص قانون العقوبات, مالم یسند إلیه هذا الفعل مادیا بأن یکون نتیجة لسلوکه الإجرامی, بمعنى أن تقوم رابطة السببیة المادیة بین هذا السلوک والنتیجة التی یعاقب علیها القانون.
الفرع الثانی
الإسناد الجنائی المعنوی
الإسناد المعنوی مقتضاه أن یکون مرتکب الجریمة سببا نفسیا لفعله, وهذا حکم یکون الفاعل فیه موضوعا لتقدیر سلبی یؤدی إلى تطبیق الجزاء علیه لأنه أقام بإرادته – غیر المعیبة – صلة نفسیة بین شخصه والفعل الإجرامی. ویذهب البعض إلى أن الإسناد المعنوی هو إسناد الخطأ إلى المتهم بجریمة, یلاحظ أن هذا التعریف یخلط بین الإسناد المعنوی والإثم الجنائی, فجوهر الأخیر هو إسناد الخطأ إلى نفسیة الفاعل. ویعرف الإسناد المعنوی کذلک بأنه ( إسناد الواقعة الإجرامیة إلى خطأ المتهم ), یلاحظ على هذا التعریف أیضا انه خلط کسابقه بین الإسناد المعنوی والإثم الجنائی. وعرف الإسناد المعنوی بأنه ( نسبة الجریمة معنویا إلى مرتکبها الذی یفترض تمتعه بالأهلیة الجنائیة ), وهذا التعریف وان کان قد تجنب الخلط بین الإسناد المعنوی والأهلیة الجنائیة حیث اعتبر الأهلیة الجنائیة مفترضا للإسناد المعنوی, إلا انه وقع فی الخلط بین الإسناد المعنوی والرکن المعنوی للجریمة إلى الحد الذی جعل الإسناد المعنوی یشمل هذا الرکن برمته, فی حین أن الأول عنصر فی الأخیر وهو متعلق بالقدرة على الاختیار. وعرف البعض الآخر الإسناد المعنوی بأنه ( نسبة الجریمة إلى شخص متمتع بالأهلیة المطلوبة لتحمل المسؤولیة الجنائیة, أی شخص یتمتع بالملکات النفسیة والعقلیة والإدراکیة السلیمة على نحو لا یخالطها عوار, ومن ثم یتاح له مکنة الإدراک ویتوافر لدیه حریة الاختیار ), یلاحظ أن هذا التعریف قد تجنب الخلط بین الإسناد المعنوی والأهلیة الجنائیة, حیث یتضح من صیاغة التعریف أنه أعتبر الأهلیة شرطاً لنسبة الجریمة معنویا إلى فاعلها. وأیاً کان الأمر فإن التعریف الذی نفضله للإسناد المعنوی هو الذی یرکز على توافر حریة الاختیار لدى لفاعل لإمکان نسبة الجریمة إلى نفسیته, وعلى هذا الأساس یعرف الإسناد المعنوی بأنه ( نسبة الفعل إلى إرادة الجانی لقدرته على الاختیار ), ونحن نتفق مع هذا التعریف حیث أنه تجنب الخلط بین الإسناد المعنوی والرکن المعنوی للجریمة بأن اعتبر الإسناد المعنوی عنصرا فی هذا الرکن ولیس الأخیر برمته, کما إنه تجنب الخلط بین الإسناد المعنوی والأهلیة الجنائیة.
ویلاحظ أن البعض من الفقهاء یفرق بین الإسناد الشخصی وبین الإسناد المعنوی, فیرى أنه فی الإسناد الشخصی ینظر فیه إلى الصفات اللازم توافرها فی الشخص والظروف التی وجد فیها لإمکان نسبة الفعل أو الواقعة إلیه, أما الإسناد المعنوی فیراد به الرابطة النفسیة بین الشخص والواقعة.
ونرى أن الإسناد الشخصی هو نفسه الإسناد المعنوی ولیس هناک ثمة فارق بینهما مادام کلاهما یبحث فی مدى إمکان نسبة الفعل إلى نفسیة الفاعل.
ویرى البعض أن الإسناد المعنوی هو ذاته الأهلیة الجنائیة وذلک بقوله " إن الجریمة لا تقوم إلا بنوعین من الإسناد إسناد مادی هو علاقة السببیة, و إسناد معنوی هو الأهلیة الجنائیة". ولا یمکننا التسلیم بهذا القول لما بین الإسناد الجنائی والأهلیة الجنائیة من فروق سنلاحظها لاحقا.
هذا ویذهب البعض إلى اعتبار فکرة النتیجة المحتملة, استثناءاً یرد على مبدأ الإسناد المعنوی, إذ یرى أن القانون یقرر ثمة مسؤولیة جنائیة ویفرض العقاب دون التفات إلى ثمة صلة إرادیة بین الشخص ومادیات فعله وکل ما یتطلبه القانون هو توافر إسناد النتیجة المادیة التی تصیب المال المدموغ بحمایة المشرع. فالقصد الجنائی غیر متوافر فی حالة النتیجة المحتملة وذلک لانتفاء احد عنصری هذا القصد وهو العلم, وبالتالی کیف یستساغ القول بان قصد الشریک قد توافر بالنسبة للنتیجة المحتملة بالرغم من انه لم یتوقعها, فکل ما فی الأمر أن المشرع قد أقر مسؤولیة استثنائیة, ولولا النص الخاص بها ما کان فی الوسع إقرارها, فاستطاعة العلم وحدها غیر کافیة لقیام القصد الجنائی, بل استطاعة العلم تعنی انتفاءه.یتبین أن هذا الاتجاه ینادی بقیام المسؤولیة الجنائیة على الرغم من انتفاء القصد الجنائی وبالتالی الإسناد المعنوی, فیقرر أن المسؤولیة هنا هی مسؤولیة استثنائیة.
ویذهب اتجاه آخر فی الفقه إلى القول بان القصد الجنائی قائم فی حق الجانی بالنسبة للنتیجة المحتملة, فطبقا لمعیار الرضا بالنتیجة أو قبولها تکون النتیجة إرادیة إذا توقعها الجانی قبل الإقدام على فعله متقبلا مخاطر فعله هذا, فحین یتوقع الجانی النتیجة لا باعتبارها أمرا مؤکداً بل باعتبارها أمرا محتملاً, تکون النتیجة إرادیة باعتبار أن فرض وقوعها أقوى من فرض امتناعها أی مما یحدث غالبا, مثال ذلک أن یسمم شخص بئر خصمه قاصدا من ذلک قتل مواشیه بان تشرب من البئر, لکن الذی یحدث أن الخصم هو الذی شرب من البئر فتوفى. فما دامت النتیجة متوقعة بذاتها فان الجانی یسأل عنها سواء توقعها أم لم یتوقعها بمعنى أن المعیار هنا موضوعی ولیس شخصیاً.
ونحن نمیل الى هذا الرأی , ففکرة النتیجة المحتملة لا تعتبر استثناءاً على مبدأ الإسناد المعنوی, باعتبار أن النتیجة المحتملة تکون إرادیة إذا کانت متوقعة بذاتها وفق المجرى العادی للأمور ومن ثم یقوم القصد الجنائی فی حق الجانی حیث کان ینبغی علیه أن یتوقع حدوث هذه النتیجة, وبالتالی یبقى الإسناد المعنوی قائما فی حقه.
أما عن المصدر التشریعی لمبدأ الإسناد المعنوی, فقد أشار المشرع بصورة ضمنیة إلى هذا المبدأ فی المواد التی تکلمت عن الرکن المعنوی للجریمة باعتبار أن الإسناد المعنوی هو عنصر فی هذا الرکن, وهذه المواد هی (33-34) من قانون العقوبات العراقی النافذ, فالمادة (33/أ) تقضی بأنه ((القصد الجرمی هو توجیه الفاعل إرادته إلى ارتکاب الفعل المکون للجریمة هادفا إلى النتیجة التی وقعت أو ایة نتیجة جرمیة أخرى)). فالمشرع فی هذا النص یتحدث عن قدرة الجانی على توجیه إرادته إلى ارتکاب الفعل المکون للجریمة, وهذة القدرة تعبر عن حریة الاختیار التی هی جوهر الإسناد المعنوی. أما المشرع المصری فقد طبق هذا المبدأ فی المادة (62) من قانون العقوبات النافذ على حالة الجنون أو العاهة العقلیة وحالة السکر اوالتخدیر , کما طبقه فی المادة (64) من القانون المذکور على حالة الصغیر الذی لم یبلغ من العمر سبع سنین کاملة. وأخیرا طبقه فی المادة (61) من القانون نفسه على حالة الضرورة والإکراه المعنوی. فالأساس الفلسفی للإسناد المعنوی هو المبدأ القائم على افتراض أن کل إنسان عاقل ممیز حر الاختیار libre arbitire وبوسعه التمییز بین طریق الخیر والشر, فإن سلک هذا المسلک الثانی فقد اختاره وهو إذن مذنب, و من ثم علیه تبعة هذا الذنب أی مسؤولیته.
المطلب الثانی
عناصر الإسناد الجنائی
قلنا آنفا إن الإسناد فی نطاق قانون العقوبات نوعان فهو إما إسناد مادی, یتعلق بالرکن المادی للجریمة. أو إسناد معنوی, یتعلق بالرکن المعنوی لها. ولکل من الإسناد المادی والمعنوی عناصر یقومان علیها, علیه سوف نوضح عناصر الإسناد المادی أولا, ثم عناصر الإسناد المعنوی ثانیا, کما یأتی:
الفرع الأول
عناصر الإسناد المادی
قلنا إن الإسناد المادی یقتضی نسبة النتیجة إلى فعل معین, ومن ثم نسبة هذا الفعل إلى فاعل معین. إذن یمکننا أن نستخلص من هذا التعریف عنصرین یقوم علیهما الإسناد المادی, الأول هو نسبة النتیجة إلى فعل معین, والثانی هو نسبة هذا الفعل إلى فاعل معین. علیه سنوضح هذین العنصرین فیما یأتی:
العنصر الأول:- نسبة النتیجة إلى فعل معین:
تقوم النتیجة الضارة التی وصفتها القاعدة الجنائیة على نحو منضبط وأفردت لها جزاءا جنائیا أثراً لفعل غیر مشروع رسم الشارع مفرداته وبین أوصافه ونهى عنه, بمعنى أن الفعل یجب أن یکون سببا للنتیجة التی تتوقف على إرادة مرتکبة, فالنتیجة إذن هی الأثر الملموس الحاصل فی المحیط الخارجی کأثر للفعل, ویمکن إدراک هذا الأثر بالحواس, باعتبار أن مادیات الوجود ومعالمه کانت مرسومة على وجه محدد قبل إتیان الفعل, ثم غدت على نحو آخر بعد إتیانه. وهذا العنصر ما هو الإ تعبیر عن مضمون علاقة السببیة التی تربط بین عنصری الرکن المادی للجریمة - السلوک والنتیجة – فتحقق بذلک وحدته, حیث یجب أن یرتبط هذان العنصران ارتباط العلة بالمعلول, بمعنى أن یکون الفعل سببا لحدوث النتیجة المعاقب علیها, وتکون النتیجة أثراً مترتبا على هذا الفعل, لذا فان نطاق الإسناد المادی ینحصر فی الجرائم المادیة دون الشکلیة, باعتبار أن الأخیرة لا یترتب علیها نتیجة معینة للبحث عن إسنادها مادیا إلى الفاعل.
العنصر الثانی:- نسبة الفعل إلى فاعل معین:
من الوجهة المادیة یکون صدور الفعل من الجانی هو کل ما یتطلب لقیام شرط الإسناد المادی, فلکی یتحقق الإسناد المادی فی حق المتهم, لا بد أن ینسب إلیه ارتکاب فعل إجرامی أو الاشتراک فیه. فمن أهم المبادئ الأساسیة فی القانون الجنائی أنه لا یجوز مساءلة شخص, مالم یکن قد ارتکب الفعل أو الامتناع المجرم قانونا, وهذا یتطلب أن تکون هناک صلة بین الإرادة الإنسانیة والفعل, فالإنسان لا یسأل إلا إذا کان لنشاطه دخل فی حصول الفعل الإجرامی. وبالتالی لا یکون الشخص أهلا لتلقی الآثار القانونیة المترتبة على الفعل الإجرامی, إلا حین یمکن نسبة هذا الفعل إلیه أی وضعه فی حسابه تمهیدا لمساءلته عنه, وهذا ما یعنی کون الفعل مسندا Imputable إلى فاعله.
الفرع الثانی
عناصر الإسناد المعنوی
یقوم الإسناد المعنوی علی عنصرین, یتمثل العنصر الأول فی القدرة على الإدراک والإرادة, أما العنصر الثانی فیتجسد فی مکنه الامتثال للقاعدة الموضوعیة العقابیة. وفیما یلی سنوضح هذین العنصرین:
العنصر الأول:- القدرة على الإدراک والإرادة:
الإدراک أو التمییز هو القدرة على فهم ماهیة الفعل وطبیعته وتوقع الآثار التی من شأنه إحداثها, وهذه القدرة تنصرف إلى مادیات الفعل, فتتعلق بکیانه وعناصره وخصائصه ولا تنصرف هذه القدرة إلى الفهم بالتکییف القانونی للفعل باعتبار أن العلم بقانون العقوبات والتکییف المستخلص منه أمر مفترض.
ویلاحظ أن المشرع العراقی قد استخدم لفظ "الإدراک" للتعبیر عن هذه القدرة, حیث تنص المادة (60) من قانون العقوبات النافذ على أنه (( لا یسأل جزائیا من کان وقت ارتکاب الجریمة فاقد الإدراک... )), فی حین استخدم المشرع المصری لفظ "الشعور" إذ تنص المادة (62) من قانون العقوبات النافذ على (( لا عقاب على من یکون فاقد الشعور... )). أما المشرع الفرنسی فقد استخدم لفظ "التمییز", إذ تنص المادة (122-1) من قانون العقوبات النافذ على انه (( لا یسأل جزائیا الشخص الذی یکون مصابا وقت ارتکابه الأفعال المکونة للجریمة باضطراب عقلی, أو باضطراب عقلی عصبی افقده التمییز... )).
ویمر الإدراک بمرحلتین: الأولى, مرحلة الإدراک الحسی, وهو ما تتم به معرفة الإنسان بما یحیط به فی العالم الخارجی وتتصل به حواسه المختلفة وتنقله الألیاف العصبیة إلى المراکز الخاصة فی المخ, حیث تبدأ المرحلة الثانیة, وهی مرحلة الإدراک العقلی. والقدرة على الإدراک تتعلق بقدرة عقلیة ولیست بقدرة أدبیة, فلا ینبغی أن یکون الشخص على درجة من العقل بحیث یستطیع أن یقوم بتقییم أخلاقی کامل وصحیح لسلوکه, فالنقص أو القصور الأخلاقی لا یؤثر فی الإسناد, فالمجرم بالمیل هو أهل للإسناد, مع انه لیس بقادر على فهم وتقدیر نتائج أعماله من الناحیة الأخلاقیة.
أما الإرادة, فتعرف بأنها توجیه الإنسان نفسه إلى عمل معین أو الامتناع عنه.فالإرادة بهذا المعنى تختلف عن حریة الاختیار رغم ما بینهما من ارتباط، فالأولى واقعه تفترض استخدام الشخص بالفعل لقدراته تحقیقاً لهدف معین, بینما الأخیرة مکنة تنحصر فی قدرة الشخص على توجیه أفعاله هذه الوجهة أو تلک. ولهذه التفرقة أهمیتها إذ إن الإرادة لازمة لقیام الجریمة, أما حریة الاختیار فهی شرط لقیام المسؤولیة الجزائیة عنها.
هذا وتختلف خطة التشریعات الجنائیة, فی أسلوب أو کیفیة النص على هذا العنصر من عناصر الإسناد المعنوی. فبعض التشریعات تنص على المکونات الایجابیة الواجب توافرها لاعتبار الشخص مسندا إلیه أی Imputable, بضرورة تمتعه وقت الفعل بالوعی والإرادة, وقد اخذ القانون الایطالی بهذا الاتجاه, حیث نصت المادة (85) منه على أن (( لا یعاقب احد على فعل یعتبره القانون جریمة متى کان -وقت ارتکابه الفعل- غیر أهل للإسناد, ویعد أهلا للإسناد من کانت لدیه أهلیة الفهم والإرادة )). وبعض التشریعات قد لا ترى النص على عناصر الإسناد المعنوی من إدراک وإرادة, بل تعمد على العکس من ذلک إلى بیان قیوده وهی عوامل أو ظروف لا یعد الشخص بتوافرها أهلا للإسناد أی Imputable Non-, من ذلک الجنون أو العاهة العقلیة, والإکراه المعنوی, والسکر غیر الاختیاری, باعتبار أن هذه العوامل أو الظروف تؤثر فی عناصر الإسناد المعنوی- الإدراک والإرادة - وقد انتهج المشرع الفرنسی هذا الأسلوب فی قانون العقوبات لعام 1810 (الملغی). وأخیرا قد تعمد بعض التشریعات إلى الأخذ بالمعیار الایجابی والسلبی, إذ تنص على الإدراک والإرادة کعناصر للإسناد المعنوی, کما یحدد فی الوقت نفسه بعض قیوده, کالجنون أو العاهة العقلیة والسکر غیر الاختیاری, بما یؤدی إلى امتناع العقاب حتى فی الحالات غیر المنصوص علیها کموانع للإسناد, متى قدر القاضی غیاب الإدراک أو الإرادة وقت الفعل. وقد انتهج کل من المشرعین العراقی المصری هذا الأسلوب.
العنصر الثانی:- مکنة الامتثال للقاعدة الموضوعیة العقابیة ( حریة الاختیار ):
قد یتوافر لدى الجانی الإدراک والإرادة, دون أن یعد العمل الإجرامی مسنداً إلیه من الناحیة المعنویة, وذلک متى کان الجانی قد باشر سلوکه الإجرامی فی ظروف حالت دون إمکان امتثاله أو توافقه مع القاعدة الجنائیة, کحالة الضرورة, ویبرر بعض الفقهاء الاعتداد بإمکان المسایرة مع القاعدة الآمرة کشرط للإسناد بان نسبة الفعل الإجرامی معنویا لفاعله, یعنی وضعه فی حسابه تمهیدا لمحاسبته عنه, لذا لا ینبغی نسبة الجریمة إلى المتهم ومحاسبته عن ارتکابها, مادامت الظروف التی ارتکبت فیها غیر طبیعیة ولم یکن بإمکان هذا المتهم الخضوع لحکم القاعدة الجنائیة, وتتحدد القدرة على هذا الامتثال وفقا لمعیار موضوعی. فالقدرة على الإدراک والإرادة غیر کافیة لقیام الإسناد المعنوی, بل ینبغی بالإضافة إلى توافرهما أن یکون الجانی متمتعا بحریة الاختیار وقت ارتکاب الفعل المکون للجریمة.
الخاتمة
فی نهایة هذه الدراسة التی انصبت على فکرة الإسناد فی نطاق قانون العقوبات, توصلنا إلى جملة من الاستنتاجات التی نراها ضروریة لاستکمال الغرض من هذه الدراسة, وفی ضوء هذه الاستنتاجات اقترحنا جملة من التوصیات.
أولا:- الاستنتاجات:
کانت الاستنتاجات التی کشفت عنها هذه الدراسة کما یأتی:-
1. تبین لنا من خلال البحث أن المشرع العراقی قد أشار و بصورة ضمنیة إلى فکرة الإسناد الجنائی, فالبرجوع الى نصوص قانون العقوبات النافذ نلاحظ أن المشرع قد عبر فی المادة (29) من هذا القانون عن مبدأ الإسناد المادی, فبمقتضى حکم الفقرة الأولى من هذه المادة لا یمکن مساءلة أی شخص جنائیا عن فعل مالم یسند إلیه هذا الفعل وذلک بان یکون نتیجة لسلوکه الإجرامی. وعبر فی المواد (33-34) من قانون القانون نفسه, عن مبدأ الإسناد المعنوی. ففی المادة (33/أ) تحدث المشرع عن قدرة الجانی على توجیه إرادته إلى ارتکاب الفعل المکون للجریمة, وهذة القدرة تعبر عن حریة الاختیار التی هی جوهر الإسناد المعنوی.
2. تباین موقف القضاء الجنائی فی العراق ومصر وفرنسا, فیما یتعلق بتحدید مفهوم الإسناد فی نطاق القانون الجنائی, ففی العراق وجدنا أن القضاء الجنائی أشار فی الکثیر من قراراته إلى مصطلح الإسناد إلا انه لم یحاول تحدید مفهومه. وکذلک الحال بالنسبة للقضاء فی مصر. فی حین وجدنا أن موقف القضاء الجنائی الفرنسی أکثر تقدما فی هذا الصدد, إذا حاولت محکمة النقض الفرنسیة فی قرار لها بیان معنى الإسناد الجنائی وذلک عندما قضت بأنه ((یتحقق الإسناد متى توافرت الإرادة الحرة والتمییز لدى الجانی )), فعلى الرغم من أن محکمة النقض الفرنسیة فی قرارها هذا قصرت الإسناد الجنائی على الجانب المعنوی للجریمة, إلا أن موقفها أکثر تقدما من موقف القضاء الجنائی العراقی والمصری فی هذا المجال.
3. تبین لنا أن جوهر الإسناد فی نطاق قانون العقوبات هو نسبة الفعل أوالامتناع المجرم والنتیجة المترتبة علیه إلى شخص متمتع بحریة الاختیار.
4. تبین لنا من خلال هذا البحث أن الإسناد فی نطاق قانون العقوبات ذو طبیعة مزدوجة موضوعیة وشخصیة، وبذلک خلصنا إلى تکییف الإسناد بأنه عنصر یدخل فی تکوین رکنی الجریمة المادی والمعنوی. فالإسناد المادی یتعلق بمادیات الجریمة, باعتباره یفترض نسبة النتیجة الإجرامیة إلى سلوک معین ومن ثم نسبة هذا السلوک إلى فاعل معین, أی أن یکون سلوک الفاعل سببا لهذه النتیجة, وهذا هو مضمون علاقة السببیة التی هی عنصر فی الرکن المادی للجریمة. أما الإسناد المعنوی فعنصر یدخل فی تکوین الرکن المعنوی للجریمة, باعتبار أن حریة الاختیار هی جوهر الإسناد المعنوی, تعتبر عنصرا یدخل فی تکوین الرکن المعنوی للجریمة باعتبار أن الإرادة وحدها لا تکفی لقیام القصد الجنائی فی حق الجانی, بل لا بد لقیامه أن تکون هذه الإرادة حرة ومختارة
5. تیبن لنا أن للإسناد الجنائی ذاتیة فهو یختلف عن الکثیر من المفاهیم الواردة ضمن المبادئ العامة لقانون العقوبات کالاهلیة والمسؤولیة ...الخ.
6. تبین لنا أن الإسناد فی نطاق القانون الجنائی لا یدخل ضمن المراحل التی تمر بها عملیة تکییف الواقعة الإجرامیة, فالإسناد مرحلة مستقلة تماما عن مرحلة التکییف وهی تأتی بعد هذه المرحلة من الناحیة الزمنیة والمنطقیة, فلا بد أن یقوم القاضی بتکییف هذه الواقعة لیتمکن بعد ذلک من إسنادها إلى الجانی. وإلا فلا یمکن الکلام عن الإسناد قبل إجراء عملیة التکییف لانعدام موضوعه, لان إسناد الفعل لا یکون إلا بوصف قانونی معین وهو ما لا یمکن الوصول إلیه إلا بعد عملیة التکییف.
7. تبین لنا أن للإسناد فی نطاق قانون العقوبات صورتان فهو إما إسناد مادی أو إسناد معنوی، فالصورة الأولى متعلقة بمادیات الجریمة أما الثانیة فمتعلقة بمعنویاتها.
8. تبین لنا أن للإسناد المادی صورتین: الأولى تقتضی نسبة النتیجة إلى سلوک معین وتسمى هذه الصورة بالإسناد المفرد، أما الصورة الثانیة للإسناد فلا تکتفی بنسبة النتیجة إلى سلوک ما بل تقتضی فوق ذلک نسبة ذلک السلوک إلى شخص معین.
9. تبین لنا أن لکل من الإسناد المادی والإسناد المعنوی عناصر لابد من توافرها لإمکان القول بقیام الإسناد فی حق الجانی. فالإسناد المادی یقوم على عنصرین: أولهما یتجسد فی نسبة النتیجة إلى فعل أو سلوک معین, وثانیهما یتمثل فی نسبة هذا الفعل أو السلوک إلى شخص معین. أما الإسناد المعنوی فانه یقوم على عنصرین أیضا: الأول یتمثل فی القدرة على الإدراک والإرادة, والثانی یتمثل قدرة الامتثال للقاعدة الموضوعیة العقابیة.
10. تباینت التشریعات الجنائیة فی الاتجاه الذی تبنته فیما یتعلق بتحدید العناصر التی یقوم علیها الإسناد المعنوی, فوجدنا بعضا من هذه التشریعات قد نصت بصورة ضمنیة على عناصره وذلک من خلال بیان الأثر المترتب على قیام قیوده, باعتبارها تؤثر فی الإدراک والإرادة – التی هی عناصر للإسناد المعنوی- ولکن من دون الإشـارة إلى هذه العناصر, وقد تبنى المشرع الفرنسی هذا النهج فی قانون العقوبات لعام 1810 (الملغی), إذ نص فی المادة (64) على أنه (( لا جنایة ولا جنحة إذا کان المتهم فی حالة جنون وقت ارتکاب الفعل... )). بینما وجدنا البعض الآخر من هذه التشریعات قد حدد العناصر التی یقوم علیه الإسناد المعنوی. وهذا هو مسلک المشرع الایطالی حیث نص فی المادة (85) من قانون العقوبات لسنة 1930 التی نصت على أنه (( لا یعاقب شخص عن فعل یعتبره القانون جریمة متى کان وقت ارتکابه غیر أهلا للإسناد, ویعتبر أهلا للإسناد من کانت لدیه أهلیة الإدراک والإرادة )), والمشرع العراقی والمصری, فقانون العقوبات العراقی نص فی المادة (60) على العناصر التی یقوم علیها الإسناد المعنوی, ونص علیها قانون العقوبات المصری فی المادة (62).
ثانیا:- التوصیات:
فی ضوء الاستنتاجات المذکورة یمکننا أن نقترح ما یأتی:
1. ندعو المشرع العراقی إلى أن یعید صیاغة نص المادة (29) من قانون العقوبات النافذ رقم 111 لسنة 1969, لکی تتضمن ما یشیر صراحة إلى مبدأ الإسناد المادی, وذلک بان یضمنها عبارة " مالم تسند إلیه مادیا " لیصبح نصها کالآتی:
المادة (29) : (( 1- لا یسأل شخص عن جریمة مالم تسند إلیه مادیا, بان تکون نتیجة لسلوکه الإجرامی, لکنه یسأل عنها ولو کان قد ساهم مع سلوکه الإجرامی فی إحداثها سبب آخر سابق أو معاصر أو لاحق ولو کان یجهله.
2- أما إذا کان ذلک السبب وحده کافیاً لإحداث نتیجة الجریمة, فلا یسأل الفاعل فی هذه الحالة إلا عن الفعل الذی ارتکبه )).
2. ندعو المشرع العراقی إلی أن یسلک مسلک المشرع الایطالی فی النص صراحة على مبدأ الإسناد المعنوی, إذ نص قانون العقوبات الایطالی الصادر عام 1930 صراحة على هذا المبدأ فی المادة (85) إذ تقضی هذه المادة بأنه (( لا یعاقب شخص عن فعل یعتبره القانون جریمة متى کان وقت ارتکابه غیر أهل للإسناد... )). وعلى هذا نقترح على مشرعنا أن یعید صیاغة نص المادة (60) من قانون العقوبات النافذ, لکی تتضمن ما یشیر صراحة إلى مبدأ الإسناد المعنوی. لیصبح نصها کالآتی:
المادة (60) : (( لا یسأل جزائیاً من کان وقت ارتکاب الجریمة غیر أهل للإسناد بسبب فقده الإدراک أو الإرادة لجنون أو عاهة فی العقل أو بسبب کونه فی حالة سکر أو تخدیر نتجت عن مواد مسکرة أو مخدرة أعطیت له قسراً أو على غیر علم منه بها, أو لأی سبب آخر یقرر العلم انه یفقد الإدراک أو الإرادة )).
The Authors declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English)
First: Dictionaries: -
Al-Hassan Ali bin Mohammed bin Ali al-Jarjani, Tariffs, Dar al-Sha`ul al-Kahlal al-Ghawaliya, Baghdad,
Imam Isma'il ibn Hammad al-Jawhari, Maajam al-Sahah, Dar al-Maarifah, Beirut, p.
Sheikh Ahmed Reda, Dictionary of the Language Council, Part 11, Dar Al-Hayat Library, Beirut, 1959.
Gebran Massoud, lexicon of the pioneer, Dar al-Ilm for millions, Beirut, 1960.
Mohammed bin Abi Bakr Abdulqadir al-Razi, Mukhtar al-Sahah, Dar al-Kitab al-Arabi, Beirut, 1973.
Mansoor Mohammed bin Ahmed Al Azhari, Language Proficiency, Part 12, Cairo,
Second: Books:
Dr.. Ahmed Fathi Sorour, mediator in the Penal Code - General Department, C1, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1981.
Dr.. Tawfiq Al-Shawi, Lectures on Criminal Responsibility in Arab Legislation, Institute of Higher Arab Studies, League of Arab States, 1958.
Dr.. Jalal Tharwat, Penal Code - General Department, University House, Beirut, 1990.
Dr.. Hussain Tawfiq Rida, Eligibility of Punishment in Islamic Law and Comparative Law, Cairo, 1964.
Dr.. Raouf Obeid, Important Practical Problems in Criminal Proceedings, C1, Nahdet Misr Press, Cairo, 1963
Dr.. Raouf Obaid, Principles of the General Department of Punitive Legislation, I4, Dar Al-Fikr Al-Arabi, Cairo, 1979
Dr.. Raouf Obaid, Criminal causation between jurisprudence and jurisprudence - comparative analytical study, 4, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1984.
Dr.. Dhari Khalil Mahmood, Al-Wajeez in explaining the Penal Code, section of the year, Dar Al-Qadisiya, Baghdad, 1982.
Dr.. Adel Azar, The General Theory in Crimes, International Press, Cairo, 1967.
Dr.. Adel Yahya Qarni Ali, The General Theory of Criminal Competence - Comparative Study, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, 2000,
Lawyer Abdel-Salam Arafat, Assignment in the Criminal Law, jurisprudence and jurisprudence, Dar al-Fikr and the Law, Cairo, 2005.
Dr.. Abdulrahman Tawfiq Ahmed Abdul Rahman, Lectures in the General Provisions of the Penal Code, C2, I 1, Dar Wael Publishing, Jordan, 2006.
Dr.. Adnan Al-Khatib Lectures in the general theory of crime in the Syrian Penal Code, Institute of Higher Arab Studies, League of Arab States, 1957.
Dr.. Ali Rashed, Criminal Law - The Introduction and Principles of General Theory, II, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, 1974.
Dr.. Awad Mohamed, Penal Code - General Department, University Publications House, Alexandria, PA.
Dr.. Mamoun Mohamed Salama, Penal Code - General Department, Arab Thought House, Cairo, 1979,
Dr.. Maher Abdul Shweish Al-Durra, General Provisions in the Penal Code, Dar Al-Hikma for Printing and Publishing, University of Mosul, 1990
Dr.. Maher Abdul-Shawish Al-Durra, and Dr. And the lawyer Haitham Hamed, the theory of equivalence of causes in the criminal law - a comparative study of comparative law in the Penal Code and Islamic law, 1, Dar Al-Hamed Publishing and Distribution, Amman, 2000.
Dr.. Mustafa Kamel, Explanation of the Penal Code - General Section, Al-Ahali Press, Baghdad, 1940.
Dr.. Mustafa Mohamed Abdel Mohsen, Criminal Law - Principles and Assumptions, (B), 2004.
Dr.. Mustafa Mohamed Abdel Mohsen, Islamic Criminal System - General Department, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, 2007.
Dr.. Mohamed Sami El Nabrawy, Explanation of the general provisions of the Libyan Penal Code, Publications of the University of Qar Younis, Benghazi, (P.
Dr.. Mohamed Hammad Marj Elhiti, The supposed error in criminal responsibility, 1, Dar al-Thaqafa for publishing and distribution, Amman, 2005.
Dr.. Criminal Responsibility and its Evolution - Comparative Study on Positive Law and Islamic Law, New University House, Alexandria, 2004.
Dr. Mohamed Kamel Morsi, and Said Mustafa Said, Explanation of the new Egyptian Penal Code, C1, I 2, Nuri Press, Cairo, 1943.
Dr.. Mohamed Ali Swailam, The Reference in Criminal Materials - A Comparative Analytical and Structural Study, University Publications House, Alexandria, 2006, p. 11.
Dr.. Mohammed Mustafa Al-Qalali, Criminal Responsibility, Abdullah Wahba Library, Cairo, 1945.
Dr.. Mahmoud Naguib Hosni, Explanation of the Penal Code - General Department, I 3, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1973.
Dr.. Mahmoud Naguib Hosni, Explanation of the Lebanese Penal Code - General Section, 2, Dar Al Naqri, Beirut, 1975.
Dr.. Mahmoud Naguib Hosny, The General Theory of Criminal Intent, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1978.
Dr.. System of Tawfiq Al-Majali, Explanation of the Penal Code- General Department, Dar Al-Thaqafa for Publishing and Distribution, Amman, 2005,
Third: Research and Studies
Dr.. Ahmed Subhi Al-Attar, Attribution, Responsibilities and Responsibility in Egyptian and Comparative Jurisprudence, Research published in the Journal of Legal and Economic Sciences, Volumes 1 and 2, Year 32, Ain Shams University Press, 1990.
Dr.. Amal Abdel Rahim Othman, The Legal Model of Crime, Research published in the Journal of Legal and Economic Sciences, Issue 1, Year 14, Ain Shams University Press, 1975.
Dr.. Hussain A. Issa, Theoretical Basis for the Adaptation of Crimes, Research published in Al-Rafidain Law Journal, 1, 10, p. 24, Faculty of Law, Mosul University, 2005.
Dr. Omar Saeed Ramadan, between the psychological and normative theories of sin, research published in the Journal of Law and Economics, p3, p 34, Cairo University Press,
Dr.. Mohamed Omar Mustafa, Crime and its Elements, Research published in the Journal of Law and Economics, p. 1, 36, Cairo University Press, 1966.
Dr.. Mahmoud Naguib Hosny, Criminal Intention, Research published in the Journal of Law and Economics, 3-4, 29, Cairo University, 1956.
Fourth: Periodicals: -
Criminal Justice Group, P1, P6, Ministry of Justice, Legal Information Department, Baghdad, 1975.
Criminal Justice Group, P3, P12, Ministry of Justice, Legal Information Department, Baghdad, 1981.
Justice Legal Group, P3, Ministry of Justice, Legal Information Department, Baghdad, 1987.
Criminal Justice Group, p. 2, Ministry of Justice, Legal Information Department, Baghdad, 1988.
Journal of the Judiciary, P3, S3, Bar Association, Baghdad, 1960.
Journal of the Judiciary, p. 1, 25, Bar Association, Baghdad, 1970.
Journal of Judiciary, Issues 1-2-3-4, 40, Bar Association, Baghdad, 1985.
A set of provisions for the Egyptian Court of Cassation (Criminal Chamber) for 2004, published on the Internet at:
http://www.f-law.net/law/archive/index.php/index.php?t-75.html
Fifth: Letters and university diplomas:
Abbas Said Fadel Abadi, Compulsory Iraqi Criminal Law - Comparative Study, PhD thesis submitted to the Faculty of Law - University of Mosul, 2005.
Abdulrahman Tawfiq Ahmed Abdulrahman, Sugar and Its Impact on Criminal Responsibility - Comparative Study, PhD Thesis Submitted to the Faculty of Law - Cairo University, 1975.
Mohammed Hussein Ali Al-Hamdani, Criminal Liability Across Thirds, Comparative Study, PhD Thesis Presented to the Faculty of Law, Mosul University, 2000.
Huda Salem Mohammed Al-Atraqi, The Legal Adaptation of Crimes in the Iraqi Penal Code, Comparative Study, PhD Thesis Submitted to the Faculty of Law, Mosul University, 2000,
Judicial Encyclopedias: -
Abdelmalek Soldier, The Criminal Encyclopedia, Parts (1, 3), House of Revival of Arab Heritage, Beirut, (P.
Abdel Moneim Hosny, The Diamond Encyclopedia of the Legal Rules of the Egyptian Court of Cassation, C 8, The Arab House of Encyclopedias, Cairo, 2006.
Advisor Abdel Fattah Murad, Murad Encyclopedia of the latest provisions of criminal and civil appeal, parts (2, 4, 5), (BT) (B).
Sixth: Laws:
Iraqi Penal Code No. 111 of 1969 Amended.
Egyptian Penal Code No. 58 of 1937.
French Penal Code of 1810.
New French Penal Code of 1994.