الملخص
یحرص قانون الإجراءات الجزائیة على مراعاة مبدأ الملاءمة بین مصلحتین هما: ضمان الحریة الفردیة تطبیقاً لمبدأ أن الأصل فی المتهم البراءة حتى تثبت إدانته ولا یکون ذلک إلا من خلال حکم قضائی قطعی، وضمان فاعلیة قانون العقوبات فی حمایته للحقوق والمصالح الاجتماعیة من الاعتداء، بوضعه موضع التنفیذ من خلال إجراءات قانونیة صحیحة وسلیمة. ویجب، حتى یمکن للقانون الإجرائی الجزائی أن یحقق الهدف منه، واستناداً إلى قرینة البراءة، أن تحکم قواعده مبادئ معینة وأساسیة اتفقت علیها جمیع التشریعات، وذلک بأن تضع نصب أعینها دوماً احترام حریة الفرد، وإذا ما لزم أن تمس هذه الحریة، فلا یکون ذلک إلا بالقدر اللازم والضروری بغیة الوصول إلى الغرض من الإجراء الذی یمس هذه الحریة، إذ یجری تغلیب المصلحة العامة على مصلحة الفرد فی مثل تلک الأحوال
الكلمات الرئيسة
الموضوعات
أصل المقالة
حق المتهم فی الصمت -(*)-
The right of the accused to remain silent
عباس فاضل سعید کلیة الحقوق/ جامعة الموصل Abbas Fadhil Saeed College of law / University of Mosul Correspondence: Abbas Fadhil Saeed E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 4/10/2008*** قبل للنشر فی 17/11/2008.
(*) Received on 4/10/2008 *** 17/11/2008 accepted for publishing on .
Doi: 10.33899/alaw.2009.160573
© Authors, 2009, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
الملخص
یحرص قانون الإجراءات الجزائیة على مراعاة مبدأ الملاءمة بین مصلحتین هما: ضمان الحریة الفردیة تطبیقاً لمبدأ أن الأصل فی المتهم البراءة حتى تثبت إدانته ولا یکون ذلک إلا من خلال حکم قضائی قطعی، وضمان فاعلیة قانون العقوبات فی حمایته للحقوق والمصالح الاجتماعیة من الاعتداء، بوضعه موضع التنفیذ من خلال إجراءات قانونیة صحیحة وسلیمة. ویجب، حتى یمکن للقانون الإجرائی الجزائی أن یحقق الهدف منه، واستناداً إلى قرینة البراءة، أن تحکم قواعده مبادئ معینة وأساسیة اتفقت علیها جمیع التشریعات، وذلک بأن تضع نصب أعینها دوماً احترام حریة الفرد، وإذا ما لزم أن تمس هذه الحریة، فلا یکون ذلک إلا بالقدر اللازم والضروری بغیة الوصول إلى الغرض من الإجراء الذی یمس هذه الحریة، إذ یجری تغلیب المصلحة العامة على مصلحة الفرد فی مثل تلک الأحوال
الکلمات الرئیسة: المتهم
الموضوعات: القانون الجنائی
Abstract
The Code of Criminal Procedure strives to take into account the principle of compatibility between two interests: to ensure individual liberty in accordance with the principle that the origin of the accused in the innocence until proven guilty, and only through a final judicial ruling, and ensure the effectiveness of the Penal Code in the protection of social rights and interests from abuse, by implementing Through proper legal procedures. In order for the criminal procedure to achieve its objective, and based on the presumption of innocence, its rules must be governed by certain basic principles and agreed upon by all legislation, by always keeping in mind respect for the liberty of the individual. To the extent necessary to achieve the purpose of the action affecting this freedom, the public interest shall prevail over the interest of the individual in such circumstances.
Keywords: Accused
Main Subjects: Criminal Law
المقدمة :
یحرص قانون الإجراءات الجزائیة على مراعاة مبدأ الملاءمة بین مصلحتین هما: ضمان الحریة الفردیة تطبیقاً لمبدأ أن الأصل فی المتهم البراءة حتى تثبت إدانته ولا یکون ذلک إلا من خلال حکم قضائی قطعی، وضمان فاعلیة قانون العقوبات فی حمایته للحقوق والمصالح الاجتماعیة من الاعتداء، بوضعه موضع التنفیذ من خلال إجراءات قانونیة صحیحة وسلیمة. ویجب، حتى یمکن للقانون الإجرائی الجزائی أن یحقق الهدف منه، واستناداً إلى قرینة البراءة، أن تحکم قواعده مبادئ معینة وأساسیة اتفقت علیها جمیع التشریعات، وذلک بأن تضع نصب أعینها دوماً احترام حریة الفرد، وإذا ما لزم أن تمس هذه الحریة، فلا یکون ذلک إلا بالقدر اللازم والضروری بغیة الوصول إلى الغرض من الإجراء الذی یمس هذه الحریة، إذ یجری تغلیب المصلحة العامة على مصلحة الفرد فی مثل تلک الأحوال.
فإذا کان القانون یمنح السلطات العامة عدة امتیازات فی مواجهة المتهم من أجل الوصول إلى الحقیقة وتحقیق العدالة، فإنه فی مقابل ذلک یوفر للمتهم ضمانات وحقوق تمکنه من مواجهة امتیازات السلطات العامة، ولعل من أبرز هذه الضمانات والحقوق هی حق الدفاع وقرینة البراءة، وهذه القرینة تعنی افتراض البراءة للمتهم مهما کانت قوة الشکوک التی تحوم حوله ومهما کان وزن الأدلة التی تحیط به. وهی التی تحکم قواعد الإثبات فی المواد الجزائیة، ومن ثم فإن قرینة البراءة تنقل عبء الإثبات على عاتق سلطات التحقیق ویعفی المتهم من إثبات براءته، ویترتب على ذلک أن للمتهم الحق فی عدم الإجابة عن الأسئلة الموجهة إلیه والتزام الصمت ولا یعد سکوته قرینة ضده.
لذلک فإن حق المتهم فی الصمت – وقد ارتأینا أن یکون موضوع البحث – هو حق مقرر فی مواجهة سلطات التحقیق، إلا أن هذا الحق یحتاج بدوره إلى ضمانات توفر للمتهم الاطمئنان فی ممارسته وتحمیه من انتهاک سلطات التحقیق لهذا الحق.
على أن حق المتهم فی الصمت لیس مطلقاً، إذ أن بعض الإجراءات تفترض مشارکة المتهم فیها وعدم التزام الصمت.
إشکالیة البحث: تترکز إشکالیة البحث حول الضمانات التی یمکن أن یوفرها القانون للمتهم من أجل ممارسة حقه فی الصمت وتحقیق الغایة منه ، فضلاً عن رسم حدود هذا الحق من خلال الموازنة بین جانب المتهم فی عدم الإدلاء بأی معلومات تدینه وجانب المصلحة العامة فی ضرورة استیفاء الدعوى إطارها الشکلی والعلم بعناصرها.
منهجیة البحث: وتقوم على المنهج المقارن من خلال المقارنة بین القوانین العربیة والأجنبیة المتیسرة وکذلک الآراء الفقهیة فی بعض المسائل ، والمنهج التحلیلی من خلال تحلیل النصوص القانونیة ومناقشتها .
هیکلیة البحث: ومن أجل الإحاطة بالموضوع فقد اقتضى تقسیم هیکلیة البحث کالآتی:
المبحث الأول: ماهیة حق المتهم فی الصمت
المطلب الأول: التعریف بالمتهم
المطلب الثانی: مفهوم حق المتهم فی الصمت
المطلب الثالث: حق المتهم فی الصمت فی الأنظمة التشریعیة المختلفة
المبحث الثانی: حق المتهم فی الصمت فی التشریعات الحدیثة وموقف الفقه والقضاء منه
المطلب الأول: موقف التشریعات الدولیة والوطنیة
المطلب الثانی: موقف الفقه
المطلب الثالث: موقف القضاء
المبحث الثالث: ضمانات حق المتهم فی الصمت ونطاقه
المطلب الأول: ضمانات حق المتهم فی الصمت
المطلب الثانی: نطاق حق المتهم فی الصمت
الخاتمة
المبحث الأول
ماهیة حق المتهم فی الصمت
الحق فی الصمت مقرر للشخص الذی یوصف بـ (المتهم) دون غیره من أشخاص وأطراف الدعوى الجزائیة، لذا لابد أن نتعرف أولاً على المتهم ثم نوضح بعد ذلک مفهوم الحق فی الصمت و مدى الأعتراف بهذا الحق فی الأنظمة التشریعیة المختلفة، لذا یقتضی تقسیم المبحث إلى ثلاثة مطالب وکالآتی:
المطلب الأول: التعریف بالمتهم
المطلب الثانی: مفهوم حق المتهم فی الصمت
المطلب الثالث: حق المتهم فی الصمت فی الأنظمة التشریعیة المختلفة
المطلب الأول
التعریف بالمتهم
الاتهام صفة طارئة یوصف بها الشخص، ذلک أن الأصل فی الإنسان البراءة، وهذا یعنی أن هذا الوصف الطارئ للشخص یمثل مرحلة وقتیة تتوسط بین وصفی البراءة والإدانة، وهذا الوصف إما أن یزول فیعود الشخص إلى أصله فی البراءة أو یتغیر إلى الإدانة عند ثبوت التهمة.
والشخص الذی یوصف بهذا الوصف الطارئ (الاتهام) یعد متهماً، والمتهم لغةً من التّهمة وأصلها الوُهمةُّ من الوهم، والتهمة ظن والجمع تهم وأیُّهِمَ الرجل واتهمتهُ وأوهَمَهُ: أدخل علیه التهمة أی ما یتهم به، واتهم هو فهو متهم وتهیم واتهم الرجل إذا صارت به الریبة، واتَّهمتُهُ ظننتُ فیه ما نسب إلیه.
ومن الناحیة القانونیة فقد عرفه البعض (المتهم هو کل شخص تثور ضده شبهات بارتکابه فعلاً إجرامیاً، فیلتزم بمواجهة الادعاء بمسؤولیته عنه والخضوع للإجراءات التی یحددها القانون وتستهدف تمحیص هذه الشبهات وتقدیر قیمتها ثم تقدیر البراءة أو الإدانة).
وعلى الرغم من أهمیة هذا المصطلح (المتهم) فإن التشریعات فی مختلف الدول لم تعطِ الأمر عنایتها الکافیة التی یستحقها، کما واختلفت التشریعات بخصوص المرحلة التی یبدأ فیها الاتهام.
ففی المادة (2) من قانون أصول المحاکمات الجزائیة الأردنی یعد المدعی علیه فی دعوى الحق العام هو المشتکی علیه، وهو الشخص الذی تقام الدعوى ضده. ویسمى متهماً إن اتهم بجنایة وصدر قرار اتهام بذلک، وإذا ظن فیه بجنحة فیسمى ظنیناً وصدر قرار ظن بذلک، وأشارت المادة (8) من قانون الإجراءات الجزائیة الفلسطینی إلى أن "کل شخص تقام علیه دعوى جزائیة تسمى متهماً".
أما ما یمیز المشتبه فیه عن المتهم فیرى عدد من الفقهاء أن الفارق بینهما هو فی قیمة الشبهات أو الأدلة الموجهة إلیه، فإذا وصلت إلى حد الشک فی إسناد التهمة إلیه کان متهماً أما إذا کانت من الضعف والبساطة بحیث لا یرجح معها الاتهام فیکون الشخص فی موضع الاشتباه.
أما المشرع العراقی فإنه لم یعطِ تعریفاً للمتهم ولکنه أخذ بمبدأ الاتهام ابتداءً سواء کان ذلک فی دور التحری عن الجرائم، أی مرحلة جمع الاستدلالات التی یتناولها عضو الضبط القضائی، أو فی مرحلة التحقیق الذی یجریه المحقق تحت إشراف قاضی التحقیق، ففی مرحلة التحری عن الجرائم وجمع الأدلة ذکرت أحکام المادة 43 من قانون أصول المحاکمات الجزائیة عبارة ".............. ویسأل المتهم عن التهمة المسندة إلیه ........" أما فی مرحلة التحقیق الابتدائی فقد تطرقت أحکام المواد 50-57 إلى مصطلح (المتهم) فی کافة مراحل التحقیق.
وبهذا فإن قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی لا یفرق بین المتهم والمشتبه فیه، فهو یأخذ بالمفهوم الواسع للمتهم، إذ أن المتهم یوصف بهذه الصفة فی جمیع المراحل قبل وبعد إقامة الدعوى ولحین إصدار حکم قضائی بالإدانة أو البراءة، وهذا بخلاف بعض القوانین الأخرى التی تأخذ بالمفهوم الضیق للمتهم إذ یعد الشخص مشتبه به فی مرحلة جمع الاستدلالات ولم تحرک الدعوى الجزائیة ضده، فالاشتباه مرحلة سابقة على الاتهام.
ومن جانب آخر فإن المتهم یختلف عن المحکوم فی أن هذا الأخیر قد بوشرت ضده الإجراءات الجزائیة وصدر علیه حکم بالإدانة، فالمتهم یختلف عن المحکوم علیه من حیث المرکز القانونی مرجعه إلى أن الأول دون الثانی یستفید من قرینة البراءة.
أما بالنسبة لموقف القضاء من تعریف المتهم فقد قضت محکمة النقض المصریة "أن المتهم فی حکم الفقرة الأولى من المادة 126 من قانون العقوبات، هو کل من وجه إلیه الاتهام بارتکاب جریمة معینة ولو کان ذلک أثناء قیام مأموری الضبط القضائی بمهمة البحث عن الجرائم ومرتکبیها وجمع الاستدلالات التی تلزم للتحقیق والدعوى".
وواضح أن القضاء المصری یؤید الاتجاه الذی یأخذ بالمفهوم الواسع للمتهم، إذ أن فی ذلک ضمان لحقوق الشخص المتهم بجریمة منذ مرحلة التحری وجمع الأدلة کعدم التعرض له أو تعذیبه أو استعمال القسوة معه من قبل عضو الضبط القضائی، إذ أن هذه الأفعال مجرمة بموجب قانون العقوبات.
المطلب الثانی
مفهوم حق المتهم فی الصمت
لم یعد المتهم الموضوع السلبی للإجراءات الجزائیة تنصب علیه أعمال القسر والإکراه التی تباشره السلطات العامة وتهدف عن طریقها إلى انتزاع الحقیقة فی صورة الاعتراف بالجریمة، وإنما صار المتهم – فی التشریعات الحدیثة – أحد أطراف الدعوى الجزائیة، وله بهذه الصفة حقوق إجرائیة یستمدها من القانون مباشرةً، وإن جوهر هذه الحقوق هو حقه فی أن یبدی دفاعه على النحو الذی یقدر أنه ادعى إلى مصلحته، ویعنی بذلک أنه له حریة الکلام.
ویشمل حق المتهم فی حریة الکلام فی التعبیر عن وجهة نظره ومناقشة الشهود وحقه فی عدم الکلام، أی التزام الصمت، ویعنی هذا الحق حریة الشخص المتهم فی الإجابة عما یوجه إلیه من أسئلة أو الامتناع عن الإجابة، إذ أن القاعدة هی عدم إجبار الشخص على الکلام بأی وسیلة، لأن هذا حق من حقوق الإنسان، ومن ثم لا یجوز لأی جهة مخالفته بالاعتداء على الشخص وحمله على الإجابة عن الأسئلة، کما أن للمتهم عدم الاستمرار فی الإجابة حتى لو أجاب على بعض منها، کما أن له الحق فی اختیار الوقت الذی یراه مناسباً فضلاً عن الطریقة التی یبدی بها دفاعه.
وحق المتهم فی الصمت إنما یأتی إعمالاً لقرینة البراءة ونتیجة من نتائجها، هذه القرینة التی تفترض بأن المتهم بریء حتى تثبت إدانته بحکم قضائی، ولأن هذه القرینة تبقى قائماً وتفرض نفسه على جمیع إجراءات الدعوى، وکنتیجة لذلک، لا یطلب من المتهم تقدیم أی دلیل لکی ینفی التهمة المنسوب إلیه، أی أنه غیر مطالب بإثبات براءته القائمة أصلاً بمقتضى قرینة البراءة، وعلیه فإن الغالب فی الفقه یؤید منح المتهم الحریة الکاملة فی إبداء أی أقوال، وله الحق فی أن یلتزم الصمت.
وهذا الحق مقرر لجمیع المتهمین سواء کان المتهم مبتدأ أم من أرباب السوابق، وسواء کان من طائفة المجرمین بالتکوین أم من طائفة المجرمین بالصدفة، فالمتهم أیاً کان هو شخص إجرائی ولیس مجرد موضوع إجرائی، ومن ثم لا یمکن إزالة هذه الصفة عنه أو حرمانه من الحمایة التی تقررها القواعد الأساسیة فی القانون لأطراف أو أشخاص الدعوى.
لکن ما الدوافع والأسباب الکامنة وراء صمت المتهم؟ إن أسباب الصمت قد تکون بالرغبة أو الحرص على إنقاذ شخص عزیز هو الفاعل الحقیقی للجریمة، أو التستر على أمور تمثل لدیه أهمیة خاصة، ومن ثم یفضل الإبقاء على سریتها، أو الرغبة فی إخفاء حقیقة الواقعة المرتکبة خشیة أن یؤدی کلامه إلى افتضاح أمره، وذلک کصمت الأبن عندما توجه إلیه تهمة ارتکبها والده، أو فی حالات الزنا عندما یضبط الشخص بمنزل صدیقته فیفضل السکوت إزاء تهمة السرقة حفاظاً على شرف صدیقته، وقد تکون أسباب الصمت نتیجة حالة نفسیة تصیب المتهم بسبب مواجهة سلطات العدالة أو عدم فهمه للسؤال الموجه إلیه أو حقیقة إجابته علیه أو رغبته فی استشارة محامیه على طریقة الإجابة على الأسئلة.
وصمت المتهم إما أن یکون صمتاً طبیعیاً وإما أن یکون صمتاً متعمداً، وتتحقق الحالة الأولى عندما یکون الشخص أصم أو أبکم، فهنا لا یستطیع الإجابة عما یوجه إلیه من أسئلة، ویلجأ إلى الکتابة إذا کان یعلمها أو إلى خبیر الصم والبکم لیترجم الإشارات الصادرة عن هذا الشخص، أما الصمت المتعمد فیتحقق عندما یکون الشخص طبیعیاً متمتعاً بکل الحواس ولکن یمتنع بإرادته عن الإجابة عن الأسئلة التی توجه إلیه لرغبته فی ذلک، وقد یلجأ الشخص الأصم أو الأبکم إلى الصمت المتعمد عندما تکون الإشارات الصادرة منه دالة على رفضه أو امتناعه عن الإجابة عن الأسئلة التی توجه إلیه.
المطلب الثالث
حق المتهم فی الصمت فی الأنظمة التشریعیة المختلفة
یتفق الفقه على أن ثمة أنظمة تشریعیة ثلاثة للإجراءات الجنائیة تعاقبت فی التطور التشریعی فی المجتمعات البشریة وهی النظام ألاتهامی والنظام التنقیبی والنظام المختلط. ویرتبط کل نظام بتنظیم سیاسی معین ونظرة خاصة إلى حقوق الفرد حین یوجه إلیه الاتهام وأسلوب معین فی التوفیق بین مصلحتی المجتمع والمتهم وتحدید خاص للدور الذی یناط بالقاضی فی الدعوى الجنائیة. لذا سوف نتطرق إلى الفکرة الأساسیة فی هذه الأنظمة ومدى تمتع المتهم بالحق فی الصمت وعدم الإجابة عن الأسئلة فی ظل کل نظام فی ثلاثة فروع على التوالی.
الفرع الأول
النظام الاتهامی
لاتزال الفکرة الأساسیة لهذا النظام سائدة فی النظام القانونی الأنجلو أمریکی والبلاد التی أخذت عنه، ویعد من أقدم النظم التی عرفتها الإنسانیة، ویقوم هذا النظام على أساس أن إجراءات الدعوى الجزائیة لا تختلف عن إجراءات الدعوى المدنیة، فالدعوى نزال أو مبارزة بین خصمین یقوم بدور المدعی فیها من أضرت به الجریمة، فی حین یقوم بدور المدعى علیه المتهم أو من اضطلع بدور ما فی ارتکابها، والقاضی یقوم بدور الحکم بینهما یحکم لمن ترجح أدلته بعد فحصها، ویتم اختیاره برضا متبادل بینهما ویتعین أن یکون من نظراء المتهم کی یحسن تقدیر ظروفه.
ویقود هذا النظام إلى أن المجنی علیه أو المدعی هو الذی یتحمل عبء الإثبات ولا تتدخل السلطات العامة فی جمع الأدلة لإثبات التهمة عملاً بالقاعدة التی تحکم الدعوى المدنیة (البینة على من ادعى والیمین على من أنکر). وبهذا فإن هذا النظام یفترض فی المتهم البراءة
ویکفل له عدة ضمانات تتمثل فی ترکه متمتعاً بحریته حتى یصدر الحکم بإدانته، وعدم جواز إجباره على الکلام أو تعذیبه أو إکراهه لحمله على الاعتراف.
ومع أن للمتهم الحق فی أن یعترف أو ینکر التهمة إلا أن سکوته عن الإجابة کان یعد معادلاً للاعتراف فی القانون الرومانی الذی یعد مصدر هذا النظام، إذ أن القاضی یتوصل إلى الحقیقة من خلال ما یقدمه الخصوم أمامه من بینات، فهی حقیقة نسبیة تتوقف على مهارة الخصم فی تقدیم أدلته وبیان حججه، ومن ثم کان من الطبیعی أن سکوت المتهم إزاء ما یقدمها خصومه من بینات وحجج تدینه دافعاً لقناعة القاضی بإدانته.
وبذلک یتضح أن الحق فی الصمت کان نتیجة لطبیعة هذا النظام الذی لم یظهر فیه الاستجواب کإجراء تحقیق بشکل واضح طالما أن الدعوى یحکم فیها القاضی بناءً على الأدلة والحجج التی تقدمها طرفا الدعوى، وهذا یعکس طبیعة النظام الاتهامی فی تأکیده على حریة الفرد مراعیاً مصلحة المتهم وذلک بإعطائه قسطاً وافراً من الحریة للدفاع عن نفسه.
الفرع الثانی
النظام التنقیبی
یقوم هذا النظام على فکرة مغایرة لفکرة النظام الاتهامی، لأنه ظهر أثر ظهور السلطة المرکزیة للدولة التی کانت تتمتع بالقوة نتیجة التغیرات السیاسیة التی حدثت فی المراحل التاریخیة المختلفة، والأساس الذی یقوم علیه هذا النظام هو أنه یعتمد على مجموعة من الإجراءات التی تهدف إلى إظهار الحقیقة لإقرار سلطة الدولة فی العقاب بصفة أن الجریمة لا تلحق ضرراً بالمجنی علیه وحده وإنما صارت عدواناً على المجتمع بأکمله، والمتهم بموجب هذا النظام لا یتمتع بحقوق إجرائیة معینة خاصة به، وإنما هو محل لما یتخذ نحوه من إجراءات، وهو أی المتهم، یخضع لسلطة جهة التحقیق دون أن یعطى فرصة للإسهام فی جمع الأدلة، إذ أن الخصومة الجنائیة فی هذا النظام لیست نزاعاً شخصیاً بین المتهم وغیره کما هو الحال فی النظام الاتهامی.
ومن هذا المنطلق أصبح على المحقق الذی یمثل السلطة أن یبحث عن الحقیقة بأیة وسیلة یراها ملائمة دون التقید بطلبات المشتکی أو بطلبات المتهم، لأن ما یراد خلال التحقیق هو الوصول إلى الحقیقة، وحلت قرینة الجرم محل قرینة البراءة.
وعلى الرغم من أن هذه السلطة کان یحد منها مبدأ نظام الأدلة القانونیة منعاً لتحکم القضاء والذی یفقد القاضی سلطة تقدیر الأدلة على وفق قناعته الشخصیة، إذ یجب أن تستند قناعته إلى أدلة معینة یحددها القانون دون غیرها، إلا أنه أعطى للاعتراف أهمیة کبیرة لأنه سید الأدلة وأنه الدلیل الحاسم فی الدعوى، وقد رخص کل السبل للحصول علیه حتى عن طریق التعذیب الذی کان یفضی فی بعض الأحیان إلى وفاة المتهم.
لذلک لم یکن للمتهم حق الصمت فی ظل هذا النظام وکان یتم إجباره على الکلام، وقد نص صراحة على ذلک قانون الإجراءات الجنائیة الفرنسی الصادر عام 1670 من أنه یجب على الحاکم أو المحقق أن یطلب من المتهم الاعتراف بارتکاب الجریمة قبل التعذیب، فإن لم یعترف عذبه وطلب منه الاعتراف خلال التعذیب فإن اعترف أنهى تعذیبه وطلب منه تأیید اعترافه بعد التعذیب.
ویتضح مما تقدم أن هذا النظام یعتمد على تغلیب مصالح السلطة والجماعة على مصلحة الفرد بعکس النظام الاتهامی، فهو لا یعتد بالحریة الفردیة بقدر اعتداده بالوصول إلى الحقیقة وإدانة المجرم، وهو بذلک یعطی مجالاً للتنکیل بالمتهم فی سبیل الحصول على الحقیقة، وهذا ما یؤذی العدالة الجنائیة فی أبسط صورها والتی تقوم على مبدأ براءة المتهم حتى تثبت إدانته.
الفرع الثالث
النظام المختلط
تعرض النظام التنقیبی فی القرن الثامن عشر للنقد من قبل الفلاسفة وخاصةً فیما یتعلق بالتعذیب، وکان لهذه الانتقادات أثرها فی اضمحلال هذا النظام وبروز نظام جدید یجمع
بین مزایا النظامین السابقین ویتلافى عیوبهما وهو النظام المختلط الذی فرضه تطور المجتمع ورقی الحضارة البشریة. وهذا النظام هو السائد فی معظم التشریعات العربیة وإن کان ذلک بنسب متفاوتة وصور شتى.
ویعمل هذا النظام على إقامة التوازن بین المحافظة على کیان المجتمع من خلال التصدی بالعقاب لکل من یرتکب جریمة وینتهک کیان وسلامة وأمن المجتمع وبین مصلحة الفرد فی إعطائه الاهتمام والضمانات التی تمکنه من الدفاع عن نفسه وإثبات براءته من التهمة.
وبذلک فإن السلطة فی هذا النظام هی التی تتولى التنقیب عن الأدلة التی توصلها إلى الحقیقة وفی مقابل ذلک فإن المتهم یفترض فیه البراءة، لذلک لا یکون ملزماً بالکلام ولا إجباره على ذلک أو استخدام التعذیب معه وله حریة الإجابة عن الأسئلة التی یریدها وله حق الصمت.
ویتضح من ذلک أن حق المتهم فی الصمت فی النظام الاتهامی أصبح فی ظل هذا النظام حقاً مقرراً بموجب القانون الذی یقرر عدة ضمانات للمتهم لممارسة هذا الحق ومنها عدم اعتبار سکوته قرینة أو دلیل للإدانة أو معادل للاعتراف بخلاف ما کان مقرراً فی القانون الرومانی فی ظل النظام الاتهامی.
المبحث الثانی
حق المتهم فی الصمت فی التشریعات الحدیثة وموقف الفقه والقضاء منه
سوف نقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب نتناول فی المطلب الأول موقف التشریعات من حق المتهم فی الصمت فیما نتطرق فی المطلب الثانی إلى موقف الفقه من هذا الحق ثم سنبین موقف القضاء فی المطلب الثالث.
المطلب الأول
موقف التشریعات الدولیة والوطنیة
تناولت المؤتمرات والاتفاقیات الدولیة والتشریعات الوطنیة موضوع حق المتهم فی الصمت مؤکدة علیه وعلى ضرورة احترامه، فعلى سبیل المثال قررت اللجنة الدولیة للمسائل الجنائیة المنعقدة فی برما سنة 1939 "أنه من المرغوب فیه أن تقرر القوانین بوضوح مبدأ عدم إلزام الشخص بإتهام نفسه، وإذا رفض المتهم الإجابة فإن تصرفه یکون محل تقدیر المحکمة بالإضافة إلى باقی الأدلة التی جمعت دون اعتبار الصمت کدلیل على الإدانة"، ومن توصیات المؤتمر الدولی السادس لقانون العقوبات المنعقد فی روما سنة 1953 أیضاً "لا یجبر المتهم على الإجابة، ومن باب أولى لا یکره علیها، فهو حر فی اختیار الطریق الذی یسلکه محققاً لمصلحته" وأوصت لجنة حقوق الإنسان بهیئة الأمم المتحدة فی 5 ینایر 1962 بألا یجبر أحد على الشهادة ضد نفسه، ویجب قبل سؤال أو استجواب کل شخص مقبوض علیه أو محبوس أن یحاط علماً بحقه فی التزام الصمت. کما أشار العهد الدولی للحقوق المدنیة والسیاسیة الصادر من الأمم المتحدة إلى عدم إکراه المتهم على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بالذنب.
أما التشریعات الوطنیة مع اختلاف نزعاتها فإنها تأخذ به على وجه یتراوح بین النص الصریح والأحکام الضمنیة.
فقد نصت المادة 47/ب من الدستور الیمنی ".... وللإنسان الذی تقید حریته الحق فی الامتناع عن الإدلاء بأیة أقوال إلا بحضور محامیه". ونصت المادة 4/د من قانون الإجراءات الجنائیة السودانی ".... ولا یجبر المتهم على تقدیم دلیل ضد نفسه ولا توجه إلیه الیمین إلا فی الجرائم غیر الحدیة التی یتعلق بها حق خاص للغیر". کما أشارت المادة 97 من قانون الإجراءات الجزائیة الفلسطینی إلى أن للمتهم الحق فی الصمت وعدم الإجابة على الأسئلة الموجهة إلیه فی مرحلة التحقیق، کما أشارت المادة 217 منه إلى ذات الحق فی مرحلة المحاکمة.
أما بالنسبة لموقف قانون الإجراءات الجنائیة المصری، فیتضح أنه لا یوجد نص یقرر صراحة إلزام المتهم بالکلام أو الإدلاء بأقواله، کما لم ینص على حقه فی الصمت سواء فی مرحلة الاستدلالات أو التحقیق الابتدائی، إلا أنه یقرر ضمناً حق المتهم فی الصمت فی مرحلة المحاکمة إذ تشیر المادة (274) منه إلى عدم جواز استجواب المتهم إلا إذا قبل ذلک وأن المتهم إذا امتنع عن الإجابة أو کانت أقواله مخالفة لأقواله فی محضر جمع الاستدلالات أو التحقیق جاز للمحکمة أن تأمر بتلاوة أقواله الأولى. ویحق للمتهم على وفق المادة 114 من قانون الإجراءات الجنائیة الفرنسی التزام الصمت وعدم الإجابة عن الأسئلة إلا بحضور محامی.
ویقرر المشرع العراقی صراحة منح المتهم الحق فی الصمت وعدم الإجابة عن الأسئلة التی توجه إلیه إذ تنص المادة 126/ب من قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی "لا یجبر المتهم على الإجابة على الأسئلة التی توجه إلیه" کما أن المادة 123/ب منه ألزمت قاضی التحقیق أو المحقق على إعلام المتهم بالحق فی السکوت قبل إجراء التحقیق معه.
ویلاحظ أن عدم نص القانون على حق المتهم فی الصمت أو عدم إجباره على الکلام لا یعنی إلزام المتهم بالکلام أو ذکر الحقیقة، إذ أنه لا وسیلة – بعد أن استبعد التعذیب فی التشریعات المعاصرة – للتنفیذ الجبری لهذا الالتزام، کما تحرم جمیع التشریعات استخدام الوسائل غیر المشروعة کالإکراه والعنف لإرغام المتهم على الاعتراف .
المطلب الثانی
موقف الفقه
ینقسم الفقه إزاء حق المتهم فی الصمت إلى اتجاهین، الأول ینکر هذا الحق ویسوق حججه المؤیدة لذلک، والثانی یؤید هذا الحق ویبرهن علیه من خلال حججه وذلک على النحو الآتی:
الأتجاه الأول
ینکر هذا الحق ویرى عدم إقرار هذا الحق للمتهم إلا بالقدر الذی یتقرر ذلک بالنسبة للجمیع، فمادام المشرع یتجاهل امتیاز الصمت بالنسبة للشاهد ولا یعفیه من التزام الإدلاء بأقواله إلا فی بعض الحالات الاستثنائیة فإنه من الواجب أیضاً أن تسری تلک القواعد على المتهم ویکلف بالإدلاء بجمیع الأقوال التی تفید فی کشف الحقیقة بصفة أن الصمت أو الکذب لیس ما یبرره فی هذا العصر إذ یقتضی الظرف عدم تألیه الفرد والامتناع عن تغلیب حقوقه على حقوق الجماعة، کما أن الاعتراف بحق المتهم فی الصمت فیه مساس بوقار سلطة التحقیق وإهدار مقتضیات العدالة.
الأتجاه الثانی
وهذا الاتجاه الغالب الذی یتفق وموقف القانون والقضاء، وهو یؤید أهمیة حق المتهم فی الصمت، ویستند هذا الاتجاه إلى أن إعطاء المتهم حق الصمت هو إحدى ضمانات القانون للمتهم یراد فی جانب منه وقایة المتهم من حیاد المحقق الذی قد یتخذ من الاستجواب وسیلة لاستخلاص الحقیقة التی یحرص المتهم على کتمانها أو استدراجه إلى ذکر أقوال لیست فی صالحه إذا تعذر الحصول منه على اعتراف بالجریمة المسندة إلیه، لذلک فإن الصمت أحسن وسیلة للدفاع بها عن نفسه ضد الاتهام الموجه إلیه.
ومن جانب آخر فإن هذا الاتجاه یرى أن الاعتبار الذی یستند علیه الاتجاه الأول غیر صحیح ، فالاعتبار الذی یبنى علیه الإعفاء من الشهادة قد یرجع إلى رغبة المشرع فی احترام الروابط العائلیة وحرصه على وحدة تماسکها ومنع إحراج المتهم من مواجهة والدیه أو إخوانه أو أولاده بأقوال ربما یؤدی بهم إلى حبل المشنقة، فی حین أن الدافع إلى عدم إلزام المتهم بالکلام یرجع بالأساس إلى قاعدة أساسیة تفرضها الغریزة الإنسانیة الطبیعیة فی المحافظة على النفس وعدم تعریضها للهلاک بالفعل الشخصی ذاته عن طریق الأقوال التی یکره على الإدلاء بها.
ومن جانبنا نؤید هذا الاتجاه ذلک أن قرینة البراءة تلازم المتهم منذ البدایة، وهذه القرینة تعنی أن المتهم بریء وهو غیر مجبر على تقدیم دلیل ضد نفسه أو حتى نفی الشکوک التی تحوم حوله طالما أن الشک یفسر لصالحه، وأن على سلطة التحقیق البحث عن أدلة الإدانة بجمیع الوسائل القانونیة دون التعرض للمتهم لأن البراءة مفترضة فیه. کما أن هذا الحق یعد من حقوق الإنسان الثابتة والتی لا یجوز للدول مخالفتها أو إثبات عکسها، ومن ثم فهذا الحق من الحقوق العلیا المقررة للإنسان، فهو حق طبیعی مقرر سواء نص علیه القانون الوطنی للدولة أو لم ینص علیه. ولعل ما یؤید رأینا أن کثیراً من تشریعات الدول لم تتعرض لهذا الحق صراحة إلا أنها تحمی المتهم من خلال تجریم أعمال التعذیب أو القسر أو الإکراه التی قد تمارس ضده لانتزاع اعترافه، وأن القضاء والفقه فی تلک الدول یأخذان بهذا الحق ویحمیانه، وأما التسویة بین المتهم والشاهد فیمکن الرد علیه بأن المرکز القانونی للمتهم یختلف عن الشاهد إذ أن المتهم صاحب مصلحة فی الدعوى فی حین أن الشاهد لا یتأثر إطلاقاً بنتیجة أقواله الصادقة لأنه لیس طرفاً فی النزاع.
المطلب الثالث
موقف القضاء
تؤکد أحکام القضاء فی العدید من الدول على حق المتهم فی الصمت وعدم الإجابة عن الأسئلة الموجهة إلیه. فقد قررت محکمة النقض المصریة أنه "من المقرر قانوناً أن للمتهم إذا شاء أن یمتنع عن الإجابة أو الاستمرار فیها، ولا یعد هذا الامتناع قرینة ضده، وإذا تکلم إنما لیبدی دفاعه، ومن حقه دون غیره أن یختار الوقت والطریقة التی یبدی بها هذا الدفاع، فلا یصح أن یتخذ الحکم من امتناع المتهم عن الإجابة فی التحقیق الذی باشرته النیابة العامة بعد إحالة الدعوى إلى محکمة الجنایات قرینة ضده".
وعلى الرغم من عدم نص المشرع السوری على حق المتهم فی الصمت فی أی مرحلة من مراحل الدعوى سوى المادة 69/1 من قانون أصول المحاکمات الجزائیة التی ألزمت قاضی التحقیق بتنبیه المتهم المدعى علیه أن من حقه أن لا یجیب إلا بحضور محام، فإنه یبدو أن القضاء السوری یؤید هذا الحق، إذ جاء فی قرار لمحکمة النقض السوریة "أن سکوت المتهم عن الإجابة عن التهمة لا یعد إقراراً لأنه لا ینسب إلى ساکت قول".
وتذهب محکمة النقض الفرنسیة إلى أن حق المتهم فی الصمت إنما یستند إلى حق الدفاع المقرر للمتهم إذ قررت "أنه لا یوجد مبدأ عام لحق الصمت یتمیز عن المبدأ العام لحق الدفاع".
المبحث الثالث
ضمانات حق المتهم فی الصمت ونطاقه
سوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبین نتطرق فی المطلب الأول إلى ضمانات حق المتهم فی الصمت فیما نخصص المطلب الثانی فی توضیح نطاق حق المتهم فی الصمت.
المطلب الأول
ضمانات حق المتهم فی الصمت
لکی یستطیع المتهم ممارسة حقه فی الصمت لابد من وجود ضمانات تضمن ممارسة هذا الحق وهذه الضمانات إما أن تکون إجرائیة منصوصاً علیها فی القانون الإجرائی الجزائی أو موضوعیة منصوصاً علیها فی القانون العقابی، وعلیه سوف نقسم هذا المطلب إلى فرعین نخصص الفرع الأول للضمانات الإجرائیة والفرع الثانی للضمانات الموضوعیة
الفرع الأول
الضمانات الإجرائیة
إذا کانت قواعد القانون الإجرائی الجزائی تحدد ما للدولة من سلطات فی الملاحقة والتحقیق والمحاکمة لاقتضاء حقها فی العقاب، فإن هناک قواعد أخرى یتضمنها هذا القانون، وهی التی تحد من سلطة الدولة ضماناً لحقوق المتهم وبما یحقق التوازن بین مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد ولو کان متهماً.
وتنص القوانین الإجرائیة الجزائیة على عدد من القواعد التی تضمن حق المتهم فی الصمت وهی:
1. تنبیه المتهم إلى حقه فی التزام الصمت:
من الطبیعی أنه لا یمکن تأکید علم المتهمین جمیعاً بالامتیازات والحقوق الممنوحة لهم فی القانون الإجرائی الجزائی لاختلافات مستویات المتهمین، فالمجرم المحترف وصاحب السوابق أو ذوی الإطلاع على القانون أعلم من غیرهم من المجرم بالصدفة أو المجرم الجاهل بتلک الحقوق والامتیازات.
ولأجل تحقیق مبادئ المساواة والعدالة بین المتهمین، وهی من غایات القانون، فقد اشترط قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی على ضرورة تنبیه المتهم إلى حقه فی الصمت قبل إجراء التحقیق معه من قبل قاضی التحقیق أو المحقق إذ نصت المادة 123/ب منه على أن "قبل إجراء التحقیق مع المتهم یجب على قاضی التحقیق إعلام المتهم ما یأتی: أولاً: أن له الحق فی السکوت، ولا یستنتج من ممارسة هذا الحق أی قرینة ضده".
فضلاً عن ذلک فإن المشرع العراقی لم یکتف بإلزام السلطة القائمة بالتحقیق بتنبیه المتهم إلى هذا الحق بل أنه نبه السلطة ذاتها بضرورة التقید بهذا الحق أثناء إجراء التحقیق وذلک فی المادة 126/ب إذ نصت على أنه "لا یجبر المتهم على الإجابة على الأسئلة التی توجه إلیه".
وبعد الاحتلال الأمریکی للعراق فقد أصدرت سلطة الائتلاف المؤقتة المذکرة المرقمة 3 فی 18/6/2003 فی الإجراءات الجزائیة، إذ جاء فی القسم الخامس منها "عندما یقوم أحد رجال الضبط القضائی العراقیین باعتقال أحد الأشخاص یقوم بإعلامه بحقه فی التزام الصمت والحصول على المحامی". وبذلک فإن تنبیه المتهم یتم ابتداءً من مرحلة التحری وفقاً للقانون العراقی.
وعلى ضوء النصوص المتقدم ذکرها فإن موقف المشرع العراقی یتوافق مع توصیات لجنة حقوق الإنسان فی الجمعیة العامة للأمم المتحدة لسنة 1962 المشار إلیها سابقاً فی ضرورة إحاطة الشخص علماً بحقه فی التزام الصمت.
وفی التشریعات المقارنة فقد ذهب القانون العام الإنکلیزی لسنة 1984 إلى توفیر أقصى حد لضمان هذا التنبیه إذ یلزم رجال الشرطة عند توجیه الأسئلة إلى المشتبه به إلى تنبیهه بأنه غیر ملزم بالکلام ما لم یرغب هو أن یفعل ذلک، وأن ما یقوله سوف تأخذ به المحکمة، وعلیه أن ینبهه عند کل سؤال بعد ذلک لضمان أن المشتبه به واعٍ ومدرک أنه لا یزال تحت التنبیه وأن یعاد هذا التنبیه فی حالة الشک، کما یلزم القانون الإنکلیزی أن یکون هذا التنبیه واضحاً وأن یوضحه للمتهم ویعلمه بأن هذا الحق ممنوح له بموجب القانون وأنه لیس هناک استدلال معاکس یمکن أن یستنتج من سکوته فی المحاکمة.
وفی التشریع الفرنسی یتم تبلیغ المتهم من قبل قاضی التحقیق بحقه فی اختیار التزام الصمت، على وفق التعدیلات التی أقرت على المواد 63-65 من قانون الإجراءات الجنائیة الفرنسی بموجب القانون 29/1/2002 فإنه یلزم تبلیغ المحتجز فوراً بحقه فی الصمت وعدم الإجابة عن الأسئلة.
أما بالنسبة للقوانین العربیة فقد ألزمت المادة (88) من قانون الإجراءات الجزائیة العمانی المحکمة أثناء توجیه التهمة إلى توجیه نظر المتهم إلى أنه غیر ملزم بالکلام أو الإجابة، وأوجبت المادة (100) من قانون الإجراءات الجزائیة الجزائری على قاضی التحقیق ضرورة تنبیه المتهم قبل استجوابه على أنه حر فی الإدلاء بأقواله، ولکی یقع الإجراء صحیحاً فقد أوجبت المادة نفسها ضرورة أن ینوه عن هذا التنبیه فی محضر الاستجواب عند الحضور الأول. وهذا التنویه فی نظرنا یعد ضماناً لحصول المتهم على العلم بحقه فی الصمت ونرى أن یأخذ به المشرع العراقی.
وقد اعترض عدد من الفقهاء على أن هذا الضمان الذی یلزم القائم بالتحقیق أن یلفت نظر المتهم إلى حقه فی ألا یقول شیئاً على اعتبار أنه إیحاء له بالصمت یکون من نتیجته أن المذنب لن یعترف والبریء الذی یستطیع نفی کل الشبهات عنه بکلمات قلیلة قد یدفعه اضطرابه الداخلی إلى الاعتقاد بأنه یرتکب خطأ إذا لم یستعمل حقاً منحه له القانون، ویؤید الفقیه (بنتام) وجهة النظر هذه بقوله أنه لو اجتمع المجرمون من کافة الطبقات لوضع نظام یکفل حمایة مصالحهم، فإنهم لن یجدوا أفضل من تلک القاعدة التی تحمیهم، إذ أن البریء لن یطالب بها مطلقاً لأنه یرید الکلام أما المذنب فهو الذی یرغب فی التزام الصمت.
والحقیقة أن تجاهل هذا الضمان قد یخل بمبدأ المساواة بین المتهمین خصوصاً – کما أسلفنا – أن البعض قد یجهل أن القانون یقرر له حق الصمت فیضطر إلى الکلام خوفاً من أن یفسر صمته قرینة ضده. إضافةً إلى ذلک إن إقرار هذا التنبیه ضمان للسلطة القائمة بالتحقیق أیضاً، إذ أن فی إجابة المتهم على الأسئلة أو اعترافه بالجریمة رغم تنبیهه بحقه فی الصمت دلیل على تنازل المتهم عن هذا الحق ورضاءه بالموافقة على الإدلاء بأقواله وعدم وجود إکراه من قبل المحقق فیما لو دفع المتهم بوجوده.
2. عدم استخدام الوسائل غیر المشروعة للحصول على اعتراف المتهم:
إذا کان القانون یقرر للمتهم الحق فی أن یلتزم الصمت بأن لا یجیب عن الأسئلة التی توجه إلیه، فإنه من باب أولى لا یجوز الضغط على المتهم أثناء استجوابه، ویمتنع استخدام أی من وسائل العنف ضده، کما یمتنع الاعتداء علیه لإرغامه على الإجابة على ما یوجه إلیه من أسئلة، کما لا یجوز إطالة مدة الاستجواب وإرهاق المتهم لدفعه إلى الکلام، ولا یجوز استخدام وسائل الإکراه المعنوی والمادی للتأثیر على المتهم أثناء استجوابه، فالضرب والتهدید بالضرب أو بإلحاق الأذى به أو بأحد أقاربه وتخویفه وما إلى ذلک من وسائل الإکراه تعتبر انتهاکاً لحق المتهم فی الصمت، وکذلک إغراء المتهم بتحسین ظروفه وخداعه لدفعه إلى الاعتراف، أو استخدام الوسائل العلمیة الحدیثة کالتخدیر أو التنویم المغناطیسی أو جهاز کشف الکذب تعتبر وسائل إرغام للمتهم على الکلام مما یعد تعدیاً على حقه فی الصمت وبالتالی وسائل غیر مشروعة یحرم اللجوء إلیها، وذلک استناداً إلى أن ذلک کله یعتبر مخالفاً لقاعدة جوهریة مقررة لمصلحة المتهم فی الدفاع عن نفسه بالوسیلة التی یراها مناسبة.
وقد حرمت التشریعات الدولیة والوطنیة اللجوء إلى الوسائل غیر المشروعة لإرغام المتهم على الکلام والحصول على أقواله ضماناً لحقه فی الصمت. فالمادة الخامسة من الإعلان العالمی لحقوق الإنسان الصادر من الجمعیة العامة للأمم المتحدة لسنة 1948 تحظر إخضاع أی فرد للتعذیب ولا لعقوبات أو وسائل معاملة وحشیة أو غیر إنسانیة أو حاطه من الکرامة البشریة، کما أن الاتفاقیة الدولیة لمناهضة التعذیب الصادرة من الأمم المتحدة سنة 1984 أشارت فی مادتها الأولى فی معرض بیان المقصود بالتعذیب بأنه أی عمل ینتج عنه ألم أو عذاب شدید جسدیاً کان أم عقلیاً یلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف......."
وفی التشریعات الوطنیة فقد نصت المادة 22/أ من الدستور العراقی لسنة 1970 "کرامة الإنسان مصونة وتحرم ممارسة أی نوع من أنواع التعذیب الجسدی أو النفسی" کما نصت المادة 19/6 من الدستور العراقی لسنة 2005 عل ذات المبدأ، وتطبیقاً للنصوص الدستوریة فقد جاءت المادة 127 من قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی بالنص "لا یجوز استعمال أیة وسیلة غیر مشروعة للتأثیر على المتهم للحصول على إقراره. ویعتبر من الوسائل غیر المشروعة إساءة المعاملة والتهدید بالإیذاء والإغراء والوعد والوعید والتأثیر النفسی واستعمال المخدرات والمسکرات والعقاقیر".
ونرى أن هناک قصوراً فی صیاغة المادة 127 الأصولیة، إذ أنها خصصت الغرض بإقرار المتهم، وکان الأفضل أن یتم التحریم ولو کان الغرض الحصول على معلومات أو الإدلاء بأقوال قد تضعف مرکز المتهم دون أن تصل إلى درجة الاعتراف بالجریمة، کما أن ارتباط هذه المادة مع المادة 333 عقوبات عراقی التی تقرر الجزاء العقابی عند مخالفتها یتطلب التوحد فی تحدید الغرض.
وقد حرمت التشریعات المقارنة اللجوء إلى وسائل غیر مشروعة للتأثیر على المتهم من خلال نصوص أدرجت فی الدستور أو فی القانون الإجرائی الجزائی، فقد نصت المادة 42 من الدستور المصری لسنة 1971 بأن "کل مواطن یقبض علیه ....... ولا یجوز إیذاؤه بدنیاً أو معنویاً". ونصت المادة 43/2 من قانون الإجراءات الجنائیة السودانی على أنه "لا یجوز لسلطات التحری أو أی شخص آخر التأثیر على أی طرف فی التحری بالإغراء والإکراه أو الأذى لحمله على الإدلاء بأی أقوال أو معلومات أو الامتناع عن ذلک".
ومن البدیهی القول أن تحریم اللجوء إلى الوسائل غیر المشروعة للحصول على اعتراف المتهم یجعل من أی اعتراف یتم الحصول علیه باستخدام تلک الوسائل باطلاً ولا یعول علیه، لأن المتهم یدلی علیه بإرادة غیر حرة، وقد أشارت إلى هذا الجزاء الإجرائی المادة 218 من قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی إذ نصت أنه "یشترط فی الإقرار أن لا یکون قد صدر نتیجة إکراه". وکذلک نصت على ذات المبدأ العدید من الدساتیر والقوانین الإجرائیة الجزائیة العربیة.
3. عدم اتخاذ الصمت قرینة على إدانة المتهم:
یقرر القانون للمتهم الحق فی التزام الصمت، ویضمن له ذلک بتحریم لجوء السلطات للوسائل غیر المشروعة فی الحصول على إقراره، لذلک کان من الطبیعی أن عدم اتخاذ الصمت دلیلاً ضده ضمانة أخرى للمتهم فی ممارسة حقه فی الصمت، إذ القول بخلاف ذلک سوف یضطر المتهم إلى الکلام تجنباً لاتخاذ صمته دلیلاً ضده أو إدانته، بل أن ذلک سوف یؤدی إلى تناقض قانونی، إذ أن اعتبار الصمت قرینة على إدانة المتهم یعد وسیلة غیر مشروعة فی الوقت الذی یحرم القانون اللجوء إلى الوسائل غیر المشروعة للحصول على أقوال المتهم.
کما أن الصمت حق مقرر للمتهم فهو إنما یستعمل حقاً خوله القانون، أی أن المحکمة لا یجوز لها أن تبنی على استعمال حقه فی الامتناع عن الإجابة أی نتیجة. کما لا یجوز عد صمته اعترافاً ضمنیاً، وذلک لأن الاعتراف یجب أن یکون صریحاً وواضحاً لا لبس فیه ولا غموض وبحیث یکون قاطعاً فی أن المتهم یقر بارتکاب الجریمة وأنه لا یحتمل أی تأویل آخر. فالمتهم یتمتع بالحریة التامة فی الإجابة عن الأسئلة التی توجه إلیه ومن حقه أن یلتزم الصمت إذا شاء لأن الموقف یخضع کلیاً لتقدیره الخاص ولا عقاب علیه إذا امتنع عن الإجابة عن أی سؤال.
وقد أشارت الاتفاقیات والمؤتمرات الدولیة إلى هذه الضمانة فی توصیاتها فعلى سبیل المثال قررت اللجنة الدولیة للمسائل الجنائیة المنعقدة فی برما سنة 1939 "أنه من المرغوب فیه أن تقرر القوانین بوضوح مبدأ عدم إلزام الشخص باتهام نفسه، وإذا رفض المتهم الإجابة فإن تصرفه یکون محل تقدیر المحکمة بالإضافة إلى باقی الأدلة التی جمعت دون اعتبار الصمت کدلیل على الإدانة"، وفی الحلقة الدراسیة التی نظمتها الأمم المتحدة لدراسة حمایة حقوق الإنسان أثناء الإجراءات الجنائیة والتی عقدت فی فینا فی یولیو سنة 1960 "أجمع الأعضاء على أن للمتهم أن یرفض الإجابة ولا یؤثر هذا الرفض على قرار الإدانة".
وقد نصت المادة 123/ب/أولاً من قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی على هذه الضمانة بالقول "أن له (أی المتهم) الحق فی السکوت، ولا یستنتج من ممارسته هذا الحق أی قرینة ضده".
وفی التشریعات المقارنة فقد نصت المادة (178) من قانون الإجراءات الجزائیة الیمنی على أنه "لا یجوز تحلیف المتهم الیمین الشرعیة ولا إجباره على الإجابة ولا یعتبر امتناعه عنها قرینة على ثبوت التهمة ضده...". وتشیر المادة (217) من قانون الإجراءات الفلسطینیة إلى أن "للمتهم الحق فی الصمت ولا یفسر صمته أو امتناعه عن الإجابة بأنه اعتراف منه"، فهذه المادة تشیر إلى أن رفض الإجابة لا یعد اعترافاً من المتهم ولکنه لا یشیر إلى عدم اعتبار الامتناع أو رفض الإجابة قرینة قانونیة على إدانته، مما یحتمل معه أن المحکمة قد تستنتج من صمته نتیجة سلبیة ضد المتهم مع باقی الأدلة المتوافرة، لذا نرى أن النص العراقی فی عدم اتخاذ الصمت قرینة ضد المتهم یوفر ضماناً أفضل.
ولم یشر قانون الإجراءات الجنائیة المصری إلى هذه المسألة، إلا أن محکمة النقض المصریة قررت فی عدة أحکام لها إلى عدم اعتبار رفض الإجابة قرینة على الإدانة إذ جاءت فی إحدى أحکامها "أنه من المقرر قانوناً أن للمتهم إذا شاء أن یمتنع عن الإجابة أو الاستمرار فیها ولا یعد هذا الامتناع قرینة ضده...".
وکان موضوع حق المتهم فی السکوت وعدم الإجابة عن الأسئلة التی توجه إلیه من الموضوعات التی تطرقت إلیها المفوضیة الملکیة للقضاء الجنائی فی انکلترا ضمن دراساتها ومقترحاتها التی تقدمت بها بتاریخ 6/7/1993 وأوصت هذه الدراسة بإبقاء حق المتهم فی الصمت أثناء التحقیق معه فی مراکز الشرطة، ولکنها أوصت بتنبیه المتهم أثناء المحاکمة إلى الإجابة على الأسئلة وبخلافه فإن سکوته هذا سیشار إلیها من قبل المحکمة إلى هیئة المحلفین لأخذ نتیجة سلبیة من هذا السکوت.
ونود أن نشیر إلى أنه بالرغم من حرص عدد من التشریعات على النص على ضرورة قیام المحقق بتنبیه المتهم إلى حقه فی الصمت، وأن صمته هذا لا یتخذ قرینة ضده، نجد الواقع العملی فی معظم الدول على عکس ذلک، فنجد بعض المحققین یحث المتهم على الکلام قائلاً له "إن عدم الکلام لیس من مصلحتک، والسکوت لن ینفعک، وعلیک أن تساعدنا وتتکلم حتى یمکن مساعدتک".. إلى آخر تلک العبارات التی یطلب فیها المحقق من المتهم الکلام والإجابة على أسئلته.
الفرع الثانی
الضمانات الموضوعیة
سبق وأن أشرنا إلى أن النصوص الدستوریة والإجرائیة قد حظرت اللجوء إلى الوسائل غیر المشروعة للتأثیر على المتهم بقصد الحصول على إقراره، وتأتی المادة (333) من قانون العقوبات العراقی لتأکید النصوص أعلاه، فتحرم تعذیب المتهم لحمله على الاعتراف أو الإدلاء بأقوال لیست فی صالحه، فهذه المادة تقضی بأن "یعاقب بالسجن أو الحبس کل موظف أو مکلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذیب متهم أو شاهد أو خبیر لحمله على الاعتراف بجریمة أو للإدلاء بأقوال ومعلومات بشأنها أو لکتمان أمر من الأمور أو لإعطاء رأی معین بشأنها، ویکون بحکم التعذیب استعمال القوة أو التهدید".
وبناءً على ذلک فالتعذیب محرم دستوریاً وقانونیاً وشرعیاً، ویتمثل السبب فی التحریم من الناحیة القانونیة، أنه إذا کان تقدیر الدلیل فی المسائل الجزائیة هو أمر یخضع للملاءمة والتقدیر الشخصی للقاضی، إلا أن الحصول على هذا الدلیل نفسه مسألة مشروعیة لا تقدیر فیها ولا ملاءمة، ومن بدیهیات القانون أن تعذیب المتهم لحمله على الاعتراف یهدم مشروعیة الإجراء ومشروعیة الدلیل، من جانب آخر فإنه لا یکفی لتقریر حق المتهم فی الصمت أن نعترف بوجود هذا الحق ونقرر له الضمانات الإجرائیة الکفیلة بتحقیقه، فقد یحصل إخلال بهذا الحق وانتهاک له، فکان لابد من وجود حمایة من هذا الإخلال، فإذا کان القانون الإجرائی الجزائی یحرم اللجوء إلى الوسائل غیر المشروعة لانتزاع أقوال المتهم فلابد من وجود عقاب لمن یخالف هذا الأمر. فتحریم التعذیب والعنف ضمانة أخرى للمتهم للالتزام بالصمت واطمئنانه إلى عدم وجود وسیلة لإجباره على الکلام.
ومن هنا فقد حظرت التشریعات الدولیة تعذیب المتهم لحمله على الاعتراف منها ما نصت علیها المادة الخامسة من الإعلان العالمی لحقوق الإنسان لسنة 1948، کما حظرت تلک التشریعات الدولیة الاستشهاد بأیة أقوال أو دلیل تحصل نتیجة التعذیب أو غیره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسیة أو اللاإنسانیة أو المهینة للکرامة الإنسانیة.
کذلک فقد ذهبت العدید من التشریعات الوطنیة إلى تجریم أفعال الاعتداء على المتهم لحمله على الاعتراف ومثال ذلک ما تنص علیه المادة 208/1 من قانون العقوبات الأردنی "من سام شخصاً أی نوع من أنواع العنف والشدة التی لا یجیزها القانون بقصد الحصول على إقرار بجریمة أو على معلومات بشأنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات".
المطلب الثانی
نطاق حق المتهم فی الصمت
یثیر البحث عن حق المتهم فی التزام الصمت سؤال مفاده، هل أن الصمت یکون عن الکلام بصرف النظر عن طبیعة أو موضوع السؤال الموجه إلیه؟.
من المعلوم أن الأسئلة التی توجه للمتهم إما أن تکون متعلقة بالاتهام أو التهمة الموجهة للمتهم أو متعلقة بالبیانات الشخصیة للمتهم، فنطاق حق المتهم فی الصمت إنما یقتصر على الحالة الأولى دون المتعلقة بالبیانات الشخصیة للمتهم مثل أسم المتهم وسنه وصناعته وعنوانه وکل ما یتعلق ببیاناته الشخصیة، والعلة فی ذلک أن هذه البیانات من شأنه أن یحمل المحقق على التأکد من أن الشخص الماثل أمامه هو المتهم لکیلا یتخذ أی إجراء ضد بریء، وکذلک فإن معرفة عمر المتهم له دور فی تحدید أهلیته للمسؤولیة الجزائیة، کما أن مهنة المتهم کأن یکون موظفاً له الأثر فی تعیین القواعد الإجرائیة والعقابیة، بالإضافة إلى أن هذه البیانات لیس فیها ما تمس أو تضعف مرکز المتهم أو تجرمه، وبهذا الشأن فقد أکدت المحکمة العلیا فی بنما فی ایرلندا أن الحق فی التزام الصمت له صفة دستوریة منصوص علیها فی المادة 38/1 من الدستور الایرلندی، إلا أن هذا الحق لا یمتد إلى الإجابة على أسئلة الشرطة المتعلقة بالأسم أو تاریخ المیلاد أو الجنسیة، فهذه المعلومات لا یکون هناک فیها تجریم ذاتی.
وعموماً فإن الإجراءات التی تفترض مشارکة المتهم فیها ملزمة بالإجابة عنها ذلک إن الحکم الصحیح فی الدعوى یفترض علماً بجمیع عناصرها، وهذه العناصر قد تتعلق بتطبیق القانون الإجرائی من حیث الولایة مثلاً، وهی عناصر لا یمکن معرفتها إلا عن طریق المتهم نفسه، فهذه العناصر ضروریة لتحدید الإطار الشکلی للدعوى، ومن جانب آخر فإن الإجراءات التی لا یشارک فیها المتهم أی لا یرتهن تحقیق غرضها بإبداء المتهم لأقواله لا یلزم بالإجابة علیها.
أما بالنسبة للأسئلة المتعلقة بالاتهام، فإن للمتهم الحق فی التزام الصمت ذلک أن الاتهام هو الذی یتحمل عبء الإثبات، وهذه القاعدة تطبیق لمبدأ عام هو (البینة على من ادعى)، ویسری على فروع القانون کافة، وسنده المنطق السلیم الذی یقرر أن (الأصل فی کل إنسان البراءة) سواء من الجریمة أو من الالتزام، ولما کان المدعی یقوم بخلاف هذا الأصل فقد تعین علیه أن یثبت ادعاءه.
وقد ثار النقاش فیما إذا کان من حق المتهم الصمت وعدم إبداء دفاعه فی حالة ما إذا دفع بوجود مانع مسؤولیة أو سبب إباحة، فهل المتهم ملزم بتقدیم الأدلة على صحة دعواه؟ بمعنى هل أن المتهم یکتفی بالدفع ویلتزم الصمت فی إثبات هذا الدفع؟
یرى جانب من الفقه بأن عبء إثبات الدفع یقع على المتهم استناداً إلى القاعدة المعمول بها فی القانون المدنی أن مقدم الدفع یعد مدعیاً، فعلیه یقع عبء إثبات صحة الدفع، ولما کان الأصل فی الإنسان البراءة وعلى من یدعی عکس هذا الأصل إثباته، فإذا ثبت ارتکاب المتهم للجریمة ودفع بوجود مانع مسؤولیة أو سبب إباحة فعلیه أن یثبت هو ذلک لأن الأصل أیضاً فی الإنسان أنه مسؤول عن أفعاله، فإن نفی هذا الأصل یقع على من یدعی به.
بینما یرى جانب آخر من الفقه أن الأمر فی الإثبات الجنائی یختلف عنه فی الإثبات المدنی، فالمتهم غیر ملزم بإثبات صحة الدفع الذی یواجه به التهمة، ویبقى عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام لکونها ملزمة بإثبات جمیع أرکان الجریمة إیجابیة کانت أم سلبیة ومسؤولیة فاعلیها وبالتالی عدم وجود شیء من أسباب الإباحة أو أسباب عدم المسؤولیة، وأکثر من هذا إذا دفع المتهم وعجز عن إقناع المحکمة بصحة دفعه وعجزت سلطة الاتهام عن إثبات بطلانه، فصارت المحکمة فی شک من حیث توافر سبب إباحة أو عدم توافره فإن قرینة البراءة وما تعنیه من تفسیر الشک لمصلحة المتهم توجبان على المحکمة أن تفصل فی الدعوى على هذا الأساس.
ونحن نؤید جانب الفقه الذی یرى أنه یکفی أن یتمسک المتهم بالدفع الذی یواجه به التهمة دون أن یلتزم بإثبات صحته، ذلک – إضافة إلى ما تقدم – فإن الدور الإیجابی للقاضی الجنائی یفرض علیه أن یتحرى الحقیقة بنفسه، فإذا دفع المتهم بوجود مانع مسؤولیة أو سبب إباحة تعین علیه بمجرد الدفع أن یتحرى صحته، خاصة وأن سلطة الاتهام تملک من إمکانیات الإثبات أکثر مما یملکه المتهم، وهی أقدر منه على کشف الحقیقة فی شأن هذا الدفع.
ویؤید القضاء هذا الاتجاه الفقهی إذ تقول محکمة تمییز العراق فی قرار لها "لدى التدقیق والمداولة وجد أن دفع المتهم (المدان) فی هذه القضیة یتضمن أن الحادث وقع بسبب خارج عن إرادته وهو إنفجار الإطار قبل الحادث وانقطاع صوندة البریک، وقد أید الکشف الجاری من قبل اللجنة المشکلة من مدیریة آلیات الشرطة هذه الوقائع لذا فلا یسأل المتهم جزائیاً عن هذا الحادث لأن القوة القاهرة المادیة المشار إلى وقائعها قد أکرهته على ارتکابها". کما قررت "إذا صور المتهم خلال اعترافه کیفیة وقوع القتل وذکر فیه ما یدعو إلى عدم مسؤولیته ولم یکن هناک ما یکذبه فلا مناص من الحکم بعد المسؤولیة".
ومع ذلک نرى أن من مصلحة المتهم أحیاناً – وإن کان عبء الإثبات على سلطة الاتهام – الإجابة عن الأسئلة والکلام ذلک أن المتهم لا یستجوب عادةً إلا عن تهمة موجهة إلیه، فتکون إجاباته قبل کل شیء لنفی التهمة عن نفسه، فإذا امتنع عن الإجابة فقد تبقى التهمة من غیر نفی.
الخاتمة :
بعد أن انتهینا من البحث فی موضوع حق المتهم فی الصمت، فقد توصلنا إلى النتائج والمقترحات الآتیة:
النتائج:
التوصیات:
The Author declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English)
First: books and books
1. Ibn Manzour, Sansan Al Arab, Volume 12, Beirut House, Beirut, 1956.
2. Dr. Tawfiq Mohammed Al-Shawi, nullity of primary investigation due to torture and coercion against the accused, Dar Al-Isra, Amman, 1998.
3. Dr. Jamal Jirjis Majla, Constitutional Legitimacy of Judicial Control, Golden Eagle, Cairo, 2006.
4. Hassan Yousef, The Legitimacy in Criminal Proceedings, Dar Al-Thaqafa, Amman, I, 2003.
5. Dr. Ramses Behnam, Judicial Psychology, Al-Ma'aref Institution, Alexandria, 1979.
6. Sami al-Nasrawi, A Study in Criminal Proceedings, C1, C2, Dar es Salaam Press, Baghdad, 1976.
7. Dr. Abdelhamid Al-Shawarbi, The Guarantees of the Accused at the Criminal Investigation Stage, Al-Ma'aref Establishment, Alexandria, 1988.
8. Abdul Majid Abdul Hadi Al-Saadoun, interrogation of the accused, doctoral thesis submitted to the Faculty of Law - University of Baghdad, 1992.
9. Ali Zaki Al-Orabi Pasha, Basic Principles of Criminal Investigations and Procedures, C1, Press of the Committee of Composition, Translation and Publishing, Cairo, 1940.
10. Dr. Fahmi Mahmoud Shukri, Encyclopedia of the British Judiciary, Dar Al-Thaqafa, Amman, 1, 2004.
11. Dr. Kamel Al-Saeed, Explanation of the Code of Criminal Procedure, Dar Al-Thaqafa, Amman, 2005.
12. Dr. Mamoun Mohamed Salama, Criminal Proceedings in Egyptian Legislation, C2, Arab Thought House, Cairo, 1979.
13. Mohamed Ibrahim Al-Kuweifi, Syrian Criminal Procedure Code, Dar Al-Mallaha, Damascus, 2001.
14. Dr. Mohamed El-Said Abdel-Fattah, Effect of coercion on will in criminal materials, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 2002.
15. Dr. Mohammed Said Nimour, The Origins of Criminal Procedures, Dar Al-Thaqafa, Amman, 1, 2004.
16. Dr. Mahmood Mahmoud Mustafa, Explanation of the Code of Criminal Procedure, Cairo University Press and University Writers, Cairo, I 11, 1976.
17. Dr. Mahmoud Naguib Hosni, Explanation of the Code of Criminal Procedure, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1982.
Second: Research published in periodicals and judicial totals
1. Ibrahim Al-Mashahadi, Legal Principles in the Judiciary of the Court of Cassation - Criminal Section / Al-Jahez Printing Press / Baghdad, 1990.
2. Mohamed Mohiuddin Awad, Fair Criminal Trial and Human Rights, Research published in the Arab Journal for Security Studies, published by the Arab Center for Security Studies, published by the Arab Center for Security Studies and Training, Riyadh, vol.
3. Dr. Mamrouk Nasr El Din, The stages of collecting evidence in the Code of Criminal Procedure, research published in the Arab Journal of Jurisprudence and Judiciary, General Secretariat of the League of Arab States, p 32, 2005.
4. Judicial Bulletin, third issue, fifth year.
5. Iraqi Gazette No. 3978 on 17/8/2003.
Third: Laws
1. The Egyptian Penal Code of 1937.
2. Universal Declaration of Human Rights of 1948.
3. The Syrian Penal Code of 1949.
4. Egyptian Criminal Procedure Law, 1950.
5. The Syrian Criminal Procedure Code of 1950.
6. The Jordanian Penal Code of 1960.
7. The Jordanian Code of Criminal Procedure of 1961.
8. International Covenant on Civil and Political Rights, 1966.
9. The Iraqi Penal Code of 1969.
10. The Iraqi Constitution of 1970.
11. Egyptian Constitution of 1971
12. The Iraqi Criminal Procedure Code of 1971.
13. The Syrian Constitution of 1973.
14. Convention Against Torture, 1984.
15. Sudan Code of Criminal Procedure, 1991.
16. French Code of Criminal Procedure, 1991.
17. Yemeni Penal Code of 1994.
18. The Yemeni Penal Code of 1994.
19. The Palestinian Penal Code of 2001.
20. The Constitution of the Kingdom of Bahrain for the year 2002.
21. The Iraqi Constitution of 2005
22. The Yemeni Constitution
23. The Code of Criminal Procedure of Oman.
Fourth: Foreign sources and websites
1. Peter Marphyha, Criminal practice, Bpc wheat ons limited, 1995.
2. http: //www.citizen sinformation.
3. http://www.rezgar.com