الملخص
تشیر الشواهد العلمیة الحدیثة إلى أن المجتمع الإنسانی یشهد الآن إلى جانب عصر المعلوماتیة والعولمة ثورة بیولوجیة تحدث تغییرات جذریة وخطیرة فی العالم ، وانعکست آثارها على کافة نواحی الحیاة ومنها المیدان الجنائی الذی لم یکن بمنأى عن هذه التأثیرات.
وتعد الهندسة الوراثیة جزءاً من الثورة البیولوجیة الحدیثة التی استطاع المیدان الجنائی الاستفادة من تطبیقاتها من خلال اکتشاف البصمة الوراثیة عن طریق تحلیل الحامض النووی (DNA)، وقد غیر هذا الاکتشاف المثیر الکثیر من مجریات أنظمة القضاء فی الدول المختلفة، الأمر الذی تسارعت من أجله الندوات والمؤتمرات العالمیة لدراسته
الكلمات الرئيسة
الموضوعات
أصل المقالة
استخدام البصمة الوراثیة فی الإثبات الجنائی -(*)-
Use of DNA in criminal evidence
عباس فاضل سعید محمد عباس حمودی کلیة الحقوق/ جامعة الموصل کلیة الحقوق/ جامعة الموصل Abbas Fadhil Saeed Mohammad Abbas Hamodi College of law / University of Mosul College of law / University of Mosul Correspondence: Abbas Fadhil Saeed E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 2/11/2008 *** قبل للنشر فی 3/3/2009.
(*) Received on 2/11/2008 *** 3/3/2009 accepted for publishing on .
Doi: 10.33899/alaw.2009.160560
© Authors, 2009, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
الملخص
تشیر الشواهد العلمیة الحدیثة إلى أن المجتمع الإنسانی یشهد الآن إلى جانب عصر المعلوماتیة والعولمة ثورة بیولوجیة تحدث تغییرات جذریة وخطیرة فی العالم ، وانعکست آثارها على کافة نواحی الحیاة ومنها المیدان الجنائی الذی لم یکن بمنأى عن هذه التأثیرات. وتعد الهندسة الوراثیة جزءاً من الثورة البیولوجیة الحدیثة التی استطاع المیدان الجنائی الاستفادة من تطبیقاتها من خلال اکتشاف البصمة الوراثیة عن طریق تحلیل الحامض النووی (DNA)، وقد غیر هذا الاکتشاف المثیر الکثیر من مجریات أنظمة القضاء فی الدول المختلفة، الأمر الذی تسارعت من أجله الندوات والمؤتمرات العالمیة لدراسته
الکلمات الرئیسة: البصمة الوراثیة الإثبات الجنائی
الموضوعات: القانون الجنائی
Abstract
Recent scientific evidence indicates that the human society is now witnessing, along with the era of informatics and globalization, a biological revolution that is making radical and dangerous changes in the world and has reflected its effects on all aspects of life, including the criminal field, which was not immune to these influences. Genetic engineering is part of the modern biological revolution that the criminal field has been able to benefit from through the discovery of DNA through the analysis of DNA. This exciting discovery has changed many of the judicial systems in different countries, which accelerated global seminars and conferences to study it.
Keywords: DNA Criminal Evidence
Main Subjects: Criminal Law
المقدمة :
تشیر الشواهد العلمیة الحدیثة إلى أن المجتمع الإنسانی یشهد الآن إلى جانب عصر المعلوماتیة والعولمة ثورة بیولوجیة تحدث تغییرات جذریة وخطیرة فی العالم ، وانعکست آثارها على کافة نواحی الحیاة ومنها المیدان الجنائی الذی لم یکن بمنأى عن هذه التأثیرات.
وتعد الهندسة الوراثیة جزءاً من الثورة البیولوجیة الحدیثة التی استطاع المیدان الجنائی الاستفادة من تطبیقاتها من خلال اکتشاف البصمة الوراثیة عن طریق تحلیل الحامض النووی (DNA)، وقد غیر هذا الاکتشاف المثیر الکثیر من مجریات أنظمة القضاء فی الدول المختلفة، الأمر الذی تسارعت من أجله الندوات والمؤتمرات العالمیة لدراسته.
لذا فأن البصمة الوراثیة تعد وسیلة تقنیة حدیثة أخذت تلجأ إلیها الدول للکشف عن الجناة وتحدید هویة الجانی والتفریق بین الأشخاص من خلال تحلیل الحامض النووی للعینة التی تم العثور علیها فی مسرح الجریمة ومقارنتها مع العینة التی تؤخذ من جسد المشتبه فیه أو المخزّنة فی بنوک المعلومات.
ویأتی استخدام البصمة الوراثیة فی الإثبات الجنائی فی ضوء ضرورة الاستفادة من معطیات العلوم الحدیثة ولمواجهة الأسالیب المتطورة للمجرمین فی ارتکاب جرائمهم.
أولاً: فرضیة البحث:
تقوم فرضیة البحث على أن التشریع العراقی وأغلب التشریعات المقارنة لم یکن لها موقف واضح ومحدد فیما یتعلق بأمر قبول البصمة الوراثیة فی الإثبات الجنائی نظراً لحداثة هذه التقنیة، کما أن استخدامها ینطوی فی الوقت ذاته على مخاطر جمة تتمثل فی تهدید حقوق وخصوصیات الأفراد.
ثانیاً: إشکالیة البحث:
تترکز إشکالیة البحث حول مدى مشروعیة الأخذ بالبصمة الوراثیة فی مجال الإثبات الجنائی وقوتها الثبوتیة مع غیاب النصوص المنظمة لهذه المسألة وخاصةً فی القانون العراقی، وکذلک فی مدى کفایة القواعد الإجرائیة والعقابیة فی مواجهة تداعیات إخضاع المتهم لاختبار البصمة الوراثیة.
ثالثاً: أهمیة البحث:
تکمن أهمیة البحث فی أن تقنیة البصمة الوراثیة تعد من التقنیات الحدیثة المستخدمة فی مجال الإثبات الجنائی، وهذه المسألة تحتاج إلى إطار قانونی یحدد ضوابط وشروط وحالات اللجوء إلیها، وبالنظر لخطورة النتائج المترتبة على هذا الاستخدام لما یسفر عنه عن معلومات تتعدى الغرض المقصود منه ولاحتمال استخدام العینات المأخوذة من المتهم لأغراض غیر مشروعة فإنه لابد من إیجاد ضمانات تحقق التوازن بین مصلحة العدالة والکشف عن الجانی وبین مصلحة الفرد فی عدم التعدی على سلامته الجسدیة وخصوصیاته.
رابعاً: هیکلیة البحث:
تم تقسیم البحث وفقا" للهیکلیة التالیة:
المبحث الأول: ماهیة البصمة الوراثیة
المطلب الأول: التعریف بالبصمة الوراثیة وأهمیتها فی الإثبات الجنائی
المطلب الثانی: مشروعیة اختبار البصمة الوراثیة وقوتها الثبوتیة
المبحث الثانی: ضوابط اختبار البصمة الوراثیة
المطلب الأول: الضوابط الفنیة
المطلب الثانی:حمایة المعلومات الوراثیة
المبحث الأول
ماهیة البصمة الوراثیة
إن التعرض لماهیة البصمة الوراثیة یتطلب أن نتناول التعریف بها وبیان أهمیتها فی الإثبات الجنائی ، فضلا" عن ضرورة بیان مدى مشروعیة استخدامها من ناحیة ومعرفة قوتها الثبوتیة من ناحیة ثانیة ، الأمر الذی یتطلب أن نقسم هذا المبحث إلى مطلبین وکمایأتی:
المطلب الأول: التعریف بالبصمة الوراثیة وأهمیتها فی الإثبات الجنائی.
المطلب الثانی: مشروعیة اختبار البصمة الوراثیة وقوتها الثبوتیة.
المطلب الأول
التعریف بالبصمة الوراثیة وأهمیتها فی الإثبات الجنائی
إن البحث فی استخدام تقنیة البصمة الوراثیة فی الإثبات الجنائی یقتضی التعرف على الجانب العلمی لهذه التقنیة ومدى أهمیتها فی الکشف عن الجرائم وتحدید هویة الجناة، لذلک سوف نقسم هذا المطلب إلى الفرعین التالیین:
الفرع الأول
التعریف بالبصمة الوراثیة
البصمة مشتقة من الفعل بَصَمَ بصَماً، ختم بطرف أصبعه و(البصمة) أثر الختم بالأصبع، (البصمُ) فوت ما بین طرف الخنصر إلى البنیصرة().
فالبصمة عند الإطلاق ینصرف مدلولها إلى بصمات الأصابع، ونعنی بعبارة (بصمات الأصابع) کل أنواع البصمات ذات الخطوط الحلمیة کبصمات راحة الید وکعب القدم بالإضافة إلى بصمات الأصابع، والبصمة عبارة عن بعض الخطوط البارزة التی تحاذیها خطوط أخرى منخفضة تتخذ أشکالاً مختلفة على جلد أصابع الیدین والکفین من الداخل وعلى أصابع وباطن القدمین ، وإن طرق إظهارها لا یتیسر إلا على الأسطح الملساء على أساس أنه خالٍ من المرتفعات والمنخفضات التی تمنع من تکامل البصمة().
ومعرفة بصمات الأصابع تؤدی إلى الاستدلال على مرتکبی الجرائم، فهی لا تتشابه إطلاقاً حتى فی أصابع الشخص الواحد، إلا أن بصمة الأصبع لیست البصمة الوحیدة التی تستخدم من قبل خبراء الأدلة الجنائیة فی تمییز المجرمین، فقد دلت الاکتشافات الحدیثة على وسائل تقنیة أخرى یمکن الاستدلال بها للتعرف على المجرمین کبصمة الصوت وبصمة حدقة العین(2) .
إلا أن الإنجاز الذی أحدث ثورة هائلة فی عالم الأدلة الجنائیة کان فی اکتشاف البصمة الوراثیة فی العام 1984 من قبل العالم الإنکلیزی ألیک جیفریز عن طریق تحلیل الحامض النووی (DNA)(*). فقد أشارت الاکتشافات الطبیة فی منتصف القرن التاسع عشر بأنه یوجد فی نواة کل خلیة من خلایا الکائنات الحیة ومنها الإنسان ما یعرف بالحامض النووی (DNA). ویمثل الحامض النووی معظم الترکیب الکیمیائی للکروموسومات أو الجینات التی هی حاملة العوامل الوراثیة فی جمیع الکائنات الحیة، وهی التی تتحکم فی صفات الإنسان والطریقة التی یعمل بها. فالإنسان تحتوی خلایاه على 46 کروموسوم تحمل جمیع الصفات الوراثیة التی انتقلت من الآباء إلى الأبناء حیث یرث الابن من الأب نصف العدد ومن الأم النصف الآخر ولذلک تکون فی الابن صفات مشترکة بین الأب والأم.
ورغم اکتشاف الحامض النووی (DNA) منذ منتصف القرن التاسع عشر()، لکنه لم یعرف کأداة لاکتشاف الجرائم حتى العام 1984 حینما قدم آلیک جیفریز عالم الوراثة بجامعة لیستر البریطانیة بحثاً أوضح فیه أن المادة الوراثیة لها تتابعات ممیزة لکل فرد مستخرجاً بذلک ما یعرف بـ بصمة الحامض النووی أو البصمة الوراثیة عن طریق مقارنة النقاط المتعددة فی جینات الحامض النووی().
ویتم تحدید هویة الشخص عن طریق البصمة الوراثیة، إذ أن الصورة النهائیة لجزء من شریط الحامض النووی (DNA) – بعد استخلاصه وتحلیله وتصویره – یشیر إلى أن صاحب العینة ذو خلیة حیوانیة فقد یکون حیواناً أو طائراً أو زاحفاً، ویشیر جزء إلى انتمائه إلى عائلة معینة، ویشیر جزء ثالث إلى رتبة معینة وجزء آخر یوضح أنه إنسان، وآخر أنه ینتمی إلى جنس معین، زنجی، أبیض، أصفر، هندی، وجزء آخر یحدد نوعه ذکراً أو أنثى وعما إذا کان ینتمی إلى هذا الأب أو هذه الأم، ثم جزء أخیر تتضح فیه التفریدة النهائیة للشخصیة والتی لا یشارکه فیها أحد والتی تعد دلیل تحقیق شخصیته()، وهی التی تعرف بالبصمة الوراثیة التی تختلف بین شخص وآخر والتی باتت تعتمد کدلیل لتبرئة المتهم أو إدانته وذلک عبر مقارنة البصمة الوراثیة الخاصة به أو الموجودة فی قاعدة بیانات البصمة الوراثیة الخاصة بالمدانین والمحکومین أو المشتبه فیهم سابقاً والمخزنة فی دوائر الأدلة الجنائیة مع تلک المستخرجة من مسرح الجریمة.
ولکون هذه التقنیة تستطیع التفریق بین الأشخاص مثل بصمات الأصابع فقد أطلق علیها بالبصمة الوراثیة(*)، فهی عبارة عن بیان بالخصائص والصفات الوراثیة التی تسمح بالتعرف على الفرد، وهی تشبه بطاقة الهویة الشخصیة، ولکنها لا تبین عناصر الحالة المدنیة للشخص (الاسم، الکنیة، ...) وإنما تحدد صفاته الوراثیة، فهی إذا" عبارة عن هویة شخصیة وراثیة للفرد، وذلک على شکل طبائع وراثیة مختلفة منها لون العینین، البشرة، الطول، درجة الذکاء، ...().
وقد حاول البعض وضع تعریف قانونی للبصمة الوراثیة بأنها "معلومات خالصة تخص شخصاً ما، والتی تمیزه عن غیره، فهی وسیلة بیولوجیة لتحدید شخصیة الفرد، ولهذا السبب فهی یمکن أن تعتبر معلومة شخصیة تحدد الهویة ومعلومة تتعلق بالصحة"().وهذا التعریف یبین طبیعة المعلومات التی یمکن الحصول علیها من اختبار البصمة الوراثیة ، لذا یجب وضع قواعد موضوعیة وإجرائیة تحمی هذه المعلومات من أی استخدام غیر مشروع لها فی حال اللجوء إلى هذا الاختبار.
کما عرفها مجمع الفقه برابطة العالم الإسلامی فی دورته الخامسة عشر المنعقدة فی مکة المکرمة فی 31/1/1998 "البصمة الوراثیة هی البنیة الجینیة (نسبةً إلى الجینات أی المورثات) التی تدل على هویة کل إنسان بعینه"().
ویمکن القول أن البصمة الوراثیة تعد أفضل وسیلة علمیة للتعرف على الشخص والتحقق منه ومعرفة صفاته الوراثیة وتمییزه عن غیره من الأشخاص من خلال أخذ عینة من خلیة من خلایا جسمه.
الفرع الثانی
أهمیة البصمة الوراثیة فی الإثبات الجنائی
أثبتت التجارب والاختبارات أن لکل کائن حی حامض نووی (DNA) منفرد فی الشکل والطول والممیزات ومواقع الترسیب()، ویستثنى من ذلک حالة التوأم الذی یأتی من بویضة واحدة (التوأم الصنوی المتطابق) وذلک بالرغم من اختلافهما فی بصمات الأصابع، وعلى ذلک فالبصمة الوراثیة – مع التحفظ بالنسبة للاستثناء السابق – تعطی دلالة قطعیة بنسبة مائة بالمائة بالنسبة لتحدید الهویة، إذ توجد فی کل خلیة من جسم الإنسان بطاقة لا یمکن تزویرها().
وقد استخدمت البصمة الوراثیة فی دراسة الأمراض الجینیة وعملیات زرع الأنسجة ، لکنها سرعان ما دخلت عالم الطب الشرعی إذ أصبح بالإمکان من خلالها کشف العدید من الجرائم وخاصة جرائم القتل وتحدید نسب الأطفال وأصولهم المختلفة فی حالة إنکار نسب الولید. والبصمة الوراثیة تتمیز بأنها دلیل إثبات ونفی قاطع بعکس فصائل الدم التی تعد وسیلة نفی لا إثبات لاحتمال الشبه بین البشر فی هذه الفصائل().
وتتعدد مصادر الحصول على البصمة الوراثیة فی الجسم الإنسانی وبالتالی تتوسع دائرة الأدلة المادیة، إذ یمکن الحصول علیها من أی مخلفات آدمیة سائلة کالدم واللعاب والمنی أو أنسجة لحم أو عظم، جلد أو شعر().
ولاشک أن هذا التعدد یسمح بتعدد السبل إلى معرفة المتهم، فعلى سبیل المثال کان استخدام الشعر سابقاً فی مجال البحث الجنائی مقتصراً على توفیر بیانات عن شخصیة الجانی من حیث عمره وسلالته وجنسه، أما الیوم فبفضل البصمة الوراثیة أصبح الشعر یعد دلیل إثبات على ارتکاب الجریمة، فإذا شاء القدر أن تسقط شعرة من رأس الجانی لأی سبب فی مکان ارتکاب الجریمة، أصبح ذلک أحد أدلة الاتهام المهمة والحاسمة فی ظل استخدام البصمة الوراثیة استناداً إلى أن جسم الشعرة أو بویصلتها یحتویان على خلایا الجسم البشری، وما یسری على الشعر یسری على اللعاب، فاللعاب یعتبر أیضاً أحد مصادر البصمة الوراثیة رغم عدم احتوائه على خلایا الجسم البشری، إلا أن هناک نوعاً من الخلایا الموجودة بالجدار الخلفی للفم یعلق بلعاب الجانی، وعلى ذلک یمکن استخلاص اللعاب من بقایا لفافة تبغ أو طابع برید تم لصقه باللعاب من جسم الرسالة().
ولا تقتصر أهمیة البصمة الوراثیة فی مجال الإثبات الجنائی على تعدد المصادر ودقة النتائج التی توصل إلى معرفة الجانی، بل أن هذه الأهمیة تأتی أیضاً من أن جزیء الحامض النووی شدید المقاومة لعوامل التحلل والتعفن والعوامل المناخیة المختلفة من حرارة وبرودة ورطوبة وجفاف لفترات طویلة، وهذه المیزة بالإضافة إلى میزة تعدد المصادر تغنی عن الحاجة إلى وجود آثار بصمات الأصابع للمجرمین(). فقد أمکن الکشف فی حالات متعددة عن الجینات المنویة فی بول أفرزته الأنثى بعد ثمانی عشرة ساعة من الاتصال،وحتى بعد موت المجنی علیها بوقت طویل عن طریق أخذ عینات من إفرازاتها المهبلیة(). کما أن العینات التی تؤخذ من مسرح الجریمة یمکن حفظها واستخدامها لعدة سنوات إذا تم الحفظ بصورة صحیحة مع ملاحظة أن انحلال الحامض النووی (DNA) یختلف حسب الوقت ونوع العضو أو النسیج الذی أخذ منه، ویختلف الوضع بالنسبة للعظام حیث یمکن التعرف على صاحبها مهما طال الزمن علیها، وذلک إذا وجد له سجل (DNA) أو بالمقارنة بین العینة وعینة من أبویه أو أبنائه(). کما ساعدت تقنیة نسخ الجینات عن طریق ما یعرف بـ "التفاعل التسلسلی لإنزیم بولیمریز (P.C.R)" فی إمکانیة استخلاص الحامض النووی من العینات الضئیلة جداً من خلال مضاعفة الحامض النووی فیمکن مثلاً أخذ طابع بریدی تم لعقه أو حویصلة شعر أو لب سن وإضافة الإنزیم الذی یضاعف الحامض النووی ویخلق نسخاً متعددة منه().
واستکمالاً للفائدة نورد هنا أهم تطبیقات هذه التقنیة فی مجال الإثبات الجنائی لبعض الجرائم():
ونظراً للمیزات العدیدة للبصمة الوراثیة، فقد جعلتها تتفوق على الکثیر من الأدلة التقلیدیة کبصمات الأصابع وفصائل الدم، وقد أدى استخدام البصمة الوراثیة إلى حل الکثیر من القضایا الغامضة، فقد برأت المحاکم فی الولایات المتحدة الأمریکیة العدید من السجناء المحکوم علیهم بالإعدام بعد استئناف الحکم واستخدام اختبــــــــــــــــــار البصمة الوراثیة()، وفی استرالیا تم إنشاء فریق البراءة فی مدارس القانون سنة 22 ومهمته النظر فی طلبات السجناء لفحص أدلة الحامض النووی لاستخدامها فی الاستئناف ضد الإدانة، وفی بریطانیا فقد تطوع سکان إحدى المناطق لفحص الحامض النووی بعد وقوع جریمة قتل واغتصاب فی المنطقة سنة 1987 رغبةً منهم لمعرفة الجانی وقد تم جمع وأخذ عینات دم أکثر من 5 رجل، وکان الجانی الفعلی قد اقنع أحد أصدقائه لتقدیم عینة دم بدلاً عنه، وبعد عدم عثور الشرطة على الجانی لعدم وجود تطابق بین عینات السکان والعینات المأخوذة من مسرح الجریمة أبلغ هذا الشخص الشرطة عن صدیقه وجرى تحلیل دمه وتبین أنه الجانی، وقد حدثت الحالة نفسها فی منطقة ریفیة فی استرالیا سنة 2 فی قضیة اعتداء جنسی على امرأة مسنة حیث تم التعرف على الجانی واعترف بجریمته().
ومن الجدیر بالإشارة إلى أن اختبار البصمة الوراثیة فی تحدید الهویة قد یفرز معلومات تتعدى غرض معرفة الجانی، وهی معلومات تتعلق بخصوصیات الفرد کالتاریخ الوراثی المرضی له وصفاته السایکولوجیة ، مما یتطلب الأمر اعتماد ضوابط خاصة عند إجراء مثل هذه الاختبارات فی التحقیق الجنائی.
المطلب الثانی
مشروعیة اختبار البصمة الوراثیة وقوتها الثبوتیة
إن استخدام الأسالیب العلمیة الحدیثة فی الإثبات الجنائی یثیر مشکلة بحث نوع المساس الذی یمکن أن یحدثه استخدام هذه الأسالیب على حقوق المتهم الأساسیة وما إذا کان هذا المساس مشروعا" من عدمه ، کما یثیر مشکلة القیمة الإثباتیة لما یسفر عن استخدامها من نتائج، وحیث أن هذه المشاکل تثار عند استخدام تقنیة البصمة الوراثیة بوصفها أحد هذه الأسالیب لذا سنحاول التعرض لها فی الفرعین الآتیین:
الفرع الأول
مشروعیة اختبار البصمة الوراثیة
یثیر استخدام البصمة الوراثیة فی الإثبات الجنائی تساؤلاً عن مدى مشروعیة هذا الإجراء وذلک لما یفرزه هذا الاستخدام من معلومات تعد انتهاکاً لخصوصیة الفرد وما فیه من اعتداء على السلامة الجسدیة من خلال الوسیلة المستخدمة فی الحصول على البصمة الوراثیة. وبعبارة أخرى هل أن هذا الإجراء یتعارض مع المبادئ العامة للإجراءات الجنائیة والحقوق المقررة للمتهم کعدم جواز المساس بسلامة جسده وخصوصیاته والحق فی التزام الصمت وعدم إجباره على تقدیم دلیل ضد نفسه.
یرى جانب من الفقه() عدم مشروعیة مثل هذا الإجراء معللین ذلک بأن الفحص الطبی على المتهم وأخذ عینات منه یتطلب اقتطاع جزء من خلایا جسمه، ولابد من موافقة المتهم على ذلک، لأن هذا الإجراء یشکل اعتداءً على سلامة الجسم ویسبب نوعاً من الألم، کما أنه إجراء مخالف لقاعدة عدم إجبار المتهم على أن یقدم دلیلاً ضد نفسه. ویعلل بعضهم ذلک بأن مقیاس مشروعیة أی وسیلة مستحدثة فی التحقیق الجنائی یتمثل فی عدم جواز مساس الوسیلة المستخدمة فی هذا المجال بحیاة الفرد الخاصة أو النیل بأی قدر مهما ضئل حجمه من کرامته الإنسانیة أو سلامته الشخصیة المادیة أو المعنویة دون أی اعتبار للقیمة العلمیة والتی یمکن أن تحظى بها النتائج المتحصل علیها بواسطتها والتی یقرها مجتمع العلماء().
بینما یرى آخرون() – وهو الرأی الغالب فی الفقه – أن الجرم الذی ارتکبه المتهم وهناک دلائل کافیة على ارتکابه یفوق أثره على المجتمع ما تحدثه تلک الإجراءات من الآم یسیرة ضد سلامة جسم المتهم، لذا فإن تحقیق أمن المجتمع واستقراره تحتم التضحیة بمصلحة المتهم الیسیرة الناجمة عن مثل هذه الإجراءات، کما أن قاعدة عدم إجبار المتهم على أن یقدم دلیلاً ضد نفسه لیست مطلقة، إذ أن لهذه القاعدة استثناءات، فقد أباح القانون فی معظم الدول اتخاذ إجراءات أشد عنفاً وأجل خطراً من مجرد إجراء الفحص الطبی أو أخذ عینات من المتهم کالقبض علیه وتفتیشه وتفتیش مسکنه وأخذ بصمات أصابعه وآثار أقدامه، بالإضافة إلى أن المتهم فی حالة اختبار البصمة الوراثیة لا یتم إجباره على الإدلاء بأیة معلومات رغماً عن إرادته، فالقاعدة السابقة تشمل الاعتراف فحسب().
ونرى أنه لا غبار على مشروعیة إخضاع المتهم إلى اختبار البصمة الوراثیة لأن حقوق الفرد لیست مطلقة بل مقیدة وتحدها حقوق الآخرین ومصلحة المجتمع، إذ لا ینبغی أن یصل حق المتهم فی الدفاع عن نفسه إلى الحد الذی یمنع العدالة من الوصول إلى حقیقة الجریمة، کما لا یجوز المغالاة فی احترام شخصیة الفرد وحقوقه على حساب أمن المجتمع واستقراره، وهذا لا یعنی تبریر استخدام کافة الوسائل العلمیة الحدیثة فی مجال الإثبات الجنائی، بل یجب استبعاد الإجراءات التی تحمل اعتداءً خطیراً على حقوق المتهم، ولا نجد من خلال التعرف على الجانب الفنی فی استخدام تقنیة البصمة الوراثیة أی خرق لحقوق المتهم وإن کان هناک ألم فإنه یسیر لا یرقى إلى الألم الذی سببه للمجتمع، ومع ذلک نرى أن یحاط هذا الإجراء بضمانات خاصة بالنظر إلى النتائج التی تتمخض عنه والتی تمس حق الفرد فی الخصوصیة().
وقد کانت مسألة استخدام تقنیة البصمة الوراثیة فی مجال الإثبات الجنائی موضع اهتمام دولی تطرقت إلیه الجهات الدولیة والإقلیمیة والدینیة فی مؤتمراتها وإعلاناتها. فقد أجازت المادة (14) من الإعلان العالمی للطاقم الوراثی الإنسانی وحقوق الإنسان الصادر من منظمة الیونسکو فی 11/11/1997 للدول الاستفادة من تطبیقات الهندسة الوراثیة ومنها تقنیة البصمة الوراثیة وفقاً لثقافاتها الأخلاقیة والقانونیة والاجتماعیة(). کما أن المجلس الأوربی قد أقر فی 22/2/1991 التوصیة رقم 1-92-R بناءً على اقتراح وزراء الدول الأعضاء ونظم فیها شروط اللجوء لتحلیل الحامض النووی وإجراءاته لکی لا تتعارض التشریعات الأوربیة فیما یتعلق بإمکانیة استخدام الحامض النووی (البصمة الوراثیة) فی مجال الإثبات الجنائی().
وقد أقر مجلس المجمع الفقهی برابطة العالم الإسلامی من حیث المبدأ مشروعیة استخدام البصمة الوراثیة فی الإثبات الجنائی ولکنه قید هذا الاستخدام فی غیر جرائم الحدود والقصاص، حیث جاء فی المادة (أولاً) من قراره الصادر فی دورته السادسة عشر المنعقدة بمکة المکرمة للفترة من 5- 1/1/ 22 " لا مانع شرعاً من الاعتماد على البصمة الوراثیة فی التحقیق الجنائی واعتبارها وسیلة إثبات فی الجرائم التی لیس فیها حد شرعی ولا قصاص لخبر (ادرؤوا الحدود بالشبهات) وذلک یحقق العدالة والأمن للمجتمع ویؤدی إلى نیل المجرم عقابه وتبرئة المتهم وهذا مقصد مهم من مقاصد الشریعة"().
أما على مستوى التشریعات الوطنیة، فقد أجاز التعدیل الصادر فی 7 أیلول سنة 1998 على المادة (81ج) من قانون الإجراءات الجنائیة الألمانی لقاضی التحقیق الأمر بأخذ وتحلیل بصمة الحامض النووی بأخذ عینة من خلایا المتهم فی جریمة تتصف بالجسامة ولاسیما الجرائم الجنسیة وبدون موافقة المتهم وله الحق فی الأمر بمقارنة ما ینتج عنه أخذ هذه العینة مع المعلومات المخزنة فی بنوک المعلومات().
وفی فرنسا فقد عالج القانون الصادر فی سنة 1994 مسألة تحدید الهویة عن طریق البصمة الوراثیة وذلک فی حالة التحقیق القضائی للبحث عن الدلیل الجنائی لتحدید هویة المتهم مقرراً أن الرضا لا یعتبر شرطاً للقیام بهذا الإجراء().
ویتضمن القانون الجنائی الکندی لسنة 1995 نصوصاً خاصة تسمح بالتقاط الحامض النووی لأغراض التحقیق الجنائی فی بعض الجرائم التی توصف بالخطورة().
وفی مصر فقد استقر قضاء محکمة النقض – على الرغم من غیاب النص الذی یجیز إجراء اختبار البصمة الوراثیة – على أحقیة سلطات التحقیق بإصدار الأمر بإجراء هذا الفحص وذلک إذا اقتضت ضرورات التحقیق ذلک(). ومنذ عام 1996 بدأ الطب الشرعی فی مصر فی استخدام تقنیة البصمة الوراثیة فی قضایا النسب وجرائم السرقة والاغتصاب، کما تم إدخال تلک التقنیة إلى المعمل الجنائی التابع لمصلحة الأدلة الجنائیة بوزارة الداخلیة المصریة().
أما بالنسبة لموقف قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی، فإنه لم یعالج هذه المسألة بنص صریح إلا أن المادة (7) منه نصت على أن "لقاضی التحقیق أو المحقق أن یرغم المتهم أو المجنی علیه فی جنایة أو جنحة على التمکین من الکشف على جسمه وأخذ تصویره الشخصی أو بصمة أصابعه أو قلیل من دمه أو شعره أو أظافره أو غیر ذلک مما یفید التحقیق لإجراء الفحص اللازم علیها ...". لذلک نرى أنه یمکن لقاضی التحقیق أو المحقق إجبار المتهم على الخضوع لاختبار البصمة الوراثیة استناداً إلى المادة المذکورة، إذ أن المشرع العراقی لم یقید سلطات التحقیق من حیث نوع العینة أو نوع الفحص الطبی حینما ذکر عبارة (أو غیر ذلک مما یفید التحقیق لإجراء الفحص اللازم علیها)، وهذه العبارة من الشمول بمکان بحیث تستوعب کل ما یمکن اعتباره فحصاً ضروریاً یفید التحقیق بما فی ذلک اختبار البصمة الوراثیة، کما نستند فی رأینا إلى ما یخوله القانون المذکور لجهات التحقیق من حق الاستعانة بالخبرة الفنیة من أجل کشف الحقیقة وذلک فی المادة (69/أ) منه.
إلا أنه ینبغی أن تعالج هذه المسألة بنص خاص بالنظر لخصوصیة البصمة الوراثیة کوسیلة لکشف الجناة من جهة ومخاطر الاستخدام غیر المشروع للمعلومات الوراثیة أو العینات المستخدمة فی التحلیل والمطابقة من جهة أخرى، وأن یتضمن النص ضوابط اللجوء إلى هذه الوسیلة ومنها أن تکون الجرائم على درجة من الجسامة والتی یمکن تحدیدها بالجرائم التی یجوز فیها توقیف المتهم وفقاً لأحکام المادة (19/أ و ب) من قانون أصول المحاکمات الجزائیة العراقی، وأن لا یتم اللجوء إلى هذا الاختبار إلا فی الأحوال التی یکون فیها استخدام هذا الأختبار حاسما فی أثبات أو نفی التهمة وتوافر دلائل جدیة ضد المتهم ، فضلا" عن ضرورة أن یعالج النص المقترح مسألة تنظیم حفظ المعلومات الوراثیة وعدم الکشف عن کل ما لیس لها علاقة بالجریمة المرتکبة إلا بموافقة المتهم حفاظا" على حق الخصوصیة .
الفرع الثانی
القوة الثبوتیة للبصمة الوراثیة
لاشک أن مسرح الجریمة هو المکان الذی یمکن أن تضبط فیه الأدلة الجرمیة ویعطی شرارة البحث عن الجانی ویکشف النقاب عن الأدلة من خلال الآثار التی یترکها الجانی، وهذه الآثار ربما تکون بقعة دم أو منی أو بصاق أو بول أو خصلة شعر أو بصمات أصابع وغیر ذلک.
وکما یرى المختصون، فإنه یمکن الاستدلال عن طریق البصمة الوراثیة على مرتکب الجریمة والتعرف على الجانی الحقیقی من بین المتهمین من خلال أخذ ما یسقط من جسم الجانی فی محل الجریمة وما حوله، وإجراء تحالیل البصمة الوراثیة على تلک العینات المأخوذة ومطابقتها مع البصمات الوراثیة للمتهمین بعد إجراء الفحوصات المختبریة على بصماتهم الوراثیة أو المخزنة فی بنک المعلومات.
وقد أثبتت التجارب الطبیة الحدیثة – کما ذکرنا سابقاً – أن لکل إنسان بصمة وراثیة یختص بها دون سواه، وأن احتمال التشابه فیها مع غیره ضعیف للغایة إلا فی حالة التوائم حیث یمکن التمییز فی هذه الحالة عن طریق بصمات الأصابع.
لذلک یمکن القول أن البصمة الوراثیة قرینة قاطعة على وجود الشخص فی محل الجریمة لاسیما عند تکرار التجارب ودقة المعامل المختبریة ومهارة خبراء البصمة الوراثیة، إلا أنها ظنیة فی کونه هو الفاعل للجریمة()، فتطابق بصمة المتهم مع العینات المأخوذة من مکان الجریمة لا یعنی ارتکابه للجریمة، فقد تتعدد البصمات على الشیء الواحد، أو أن صاحب البصمة کان موجوداً عرضاً فی مکان الجریمة قبل أو بعد ذلک، کما أن وجود عینة أو أثر من المتهم على ملابس المجنی علیه لا یعنی بالضرورة ارتکابه للفعل الإجرامی، فقد یکون قبل أو بعد وقوع الحادثة، فمثلاً وجود سائل منوی على ملابس المجنی علیها لا یعنی بالقطع أن المتهم نفسه هو المرتکب للجریمة ولا یعنی تکییف الفعل الإجرامی بأنه اغتصاب، فقد یکون بالتراضی، وقد یکون أمنی بیده على ملابس المرأة().
لذا فإن البصمة الوراثیة لا تؤخذ کدلیل أساسی وحاسم على ثبوت التهمة قبل المتهم أو إدانته لأن المبدأ هو (الأصل فی المتهم البراءة) حتى تثبت إدانته بدلیل جازم وحکم قطعی، فالأحکام الجزائیة یجب أن تبنى على الجزم والیقین لا على الظن والاحتمال، وتطبیقاً لهذا المبدأ وجدت القاعدة التی تقول أن الشک یفسر لصالح المتهم، إلا أن کون البصمة الوراثیة قرینة قاطعة لا تقبل الشک على وجود المتهم فی مکان الجریمة یمکن أن تکون قرینة قویة على ارتکابه للجریمة فیما لو تعززت بأدلة وقرائن أخرى خاصةً فی جرائم هتک العرض والاغتصاب.
أما بالنسبة للتطبیقات القضائیة فإن المحاکم فی الدول العربیة التی تأخذ بهذه التقنیة کالمملکة العربیة السعودیة والأردن لا تعتمد على البصمة الوراثیة دلیلاً قاطعاً وحدها، ولکنها تعد قرینة قویة فیما لو تعززت بأدلة وقرائن أخرى () ، کذلک الحال فی بعض المحاکم فی الولایات المتحدة الأمریکیة(). ووجود الشبهة فی البصمة الوراثیة هو أحد الأسباب التی دعت المجمع الفقهی لرابطة العالم الإسلامی فی قراره المشار إلیه سابقاً إلى إقرار عدم مشروعیتها فی جرائم الحدود والقصاص استناداً إلى الحدیث النبوی المشهور (ادرؤوا الحدود بالشبهات) المشار إلیه فی قراره.
ومع ذلک فإن عدم قبول البصمة الوراثیة دلیلاً حاسماً فی الإدانة لا یقلل من أهمیتها فی الإثبات الجنائی بالنظر لکونها من أنجح الوسائل العلمیة فی معرفة حقیقة الجریمة وتحدید نطاق البحث عن المتهمین ومن ثم سرعة الوصول إلى الجناة، کما أنه ما من دلیل إلا ویتطرق إلیه الشک، فالاعتراف قد یدلی به المتهم بسبب الإکراه والتهدید وقد یکون غیر مطابق للواقع ویرید به المتهم إنقاذ الشخص الفاعل للجریمة وکذلک الأمر بالنسبة للشهادة التی یدلی بها الشاهد.
ویرى البعض أنه إذا کانت البصمة الوراثیة هی الدلیل الوحید على البراءة فإنه لا حرج على المحکمة إن هی برأت متهماً بناءً على تعزیز البصمة الوراثیة حتى لو کان الدلیل المستمد منها مستقلاً بمفرده لأن مبدأ أصل البراءة هو المفترض الأول فی الإنسان وخاصةً إذا وجدت شواهد على هذه البراءة().
المبحث الثانی
ضوابط اختبار البصمة الوراثیة
إن اختبار البصمة الوراثیة یفرز معلومات تتعدى الغرض منه إلى کشف معلومات تتعلق بخصوصیات الفرد ، ولتجنب الاستخدام غیر المشروع لتلک المعلومات أو العینة المأخوذة من جسم المتهم ، فأنه لابد من وجود ضوابط عند إجراء هذا الاختبار بما یحقق التوازن بین مصلحة المجتمع ومصلحة المتهم ، لذا سوف نتطرق إلى هذه الضوابط من خلال تقسیم هذا المبحث إلى مطلبین وکالآتی:-
المطلب الأول: الضوابط الفنیة
المطلب الثانی: حمایة المعلومات الوراثیة
المطلب الأول
الضوابط الفنیة
تستند المحکمة فی مضاهاة البصمة الوراثیة على الخبیر الفنی المختص، ویتوقف عمل الخبیر – إلى حد کبیر – على کفائته المهنیة والفنیة ومهاراته التخصصیة وتطبیق الأسالیب العلمیة والفنیة المناسبة والاستخلاص المنطقی لما تصل إلى إدراکه من بیانات().
وتشتمل طرائق الفحص والتحلیل للعینات البیولوجیة بتقنیة البصمة الوراثیة على خطوات أساسیة تحقق الأمان التام للقائم بالعمل ، وفی الوقت نفسه الحفاظ على طبیعة الآثار والتی یمکن أن تشکل عملیة فحصها دلائل قویة فی مجال الإثبات الجنائی(). وأن أی تلوث خارجی بخلایا بشریة أو غیر بشریة من شأنه الذهاب بنتیجة الاختبار إلى اتجاه آخر ، کما تعتمد نتیجة الاختبار على مدى حساسیة ودقة الأجهزة المستخدمة والقدرة على قراءة نتائجها ومدى حرص وکفاءة العاملین على تلک الأجهزة)(.
وعلى ذلک فالبصمة الوراثیة شأنها شأن أی تقنیة تخضع لسیطرة الإنسان، وبالتالی یقع فیها ما کان یفترض أن لا یقع، ومن ذلک الأخطاء البشریة، فالخطأ فیها ینسب إلى القائمین علیها أو إلى عوامل التلوث ونحو ذلک ولیس إلى البصمة الوراثیة ذاتها، وترجع مواضع الخطأ فی البصمة الوراثیة إما إلى مسرح الجریمة وذلک بوقوع خطأ فی عملیة رفع العینات البیولوجیة ذاتها مثل تعرضها لتلوث البیئة کالرطوبة، وهو ما یؤدی إلى ضیاع وفساد العینة وبالتالی فقدان الدلیل المادی وضیاعه، أما الموضع الثانی للخطأ فیتمثل فی العمل الذی تجهز فیه هذه التقنیة(). وعلى ذلک یجب التأکید على أن قیمة اختبار البصمة الوراثیة تعتمد کلیاً على جودة طریق البحث، وأن الدقة فی تفسیر النتائج التی أسفر عنها هذا الاختبار یحتاج إلى خبرة واسعة وتخصص رفیع ومعمل ذو کفاءة عالیة.
لذلک فمن الضروری مراقبة الطریقة الفنیة فی المعمل أو المختبر الذی یقوم بالفحص الجینی وإتباع الخطوات والضوابط التالیة عند إجراء تحلیل البصمة الوراثیة:
وبالنسبة للتشریعات التی أوردت نصوصاً خاصة لتنظیم عملیة تحلیل الحامض النووی للحصول على البصمة الوراثیة، لابد أن نشیر إلى أن المشرع الفرنسی قد أجرى تعدیلات على قانون الصحة العامة بموجب القانون الصادر سنة 1994 إذ تضمنت هذه التعدیلات الشروط الخاصة بفحوصات البصمة الوراثیة والأشخاص المصرح لهم بممارستها، کما حدد المرسوم المرقم 15/116 لسنة 1995 الصادر من مجلس الدولة الفرنسی الشروط المطلوبة فیمن یمارس هذه الفحوصات ومنها أن یکون الخبیر متخصصاً فی طب الوراثیات، بالإضافة إلى أن المشرع الفرنسی قد أضاف بموجب القانون الصادر سنة 1994 مادة إلى قانون الخبراء القانونیین لسنة 1971 تشترط أن یکون الخبیر مؤهلاً لإجراء الفحص الطبی الجینی بغرض التعرف على هویة الشخص فی حالة خضوعه لإجراء قانونی وأن یکون الخبیر حاصلاً على ترخیص بعد أن یستوفی الشروط المطلوبة()، وتقضی التشریعات ذات العلاقة بإجراءات الطب الشرعی فی استرالیا بضرورة إعدام العینات التی تؤخذ من المشتبه فیهم فی حالة ثبوت براءتهم تحسباً من الاستخدام غیر المشروع لها().
المطلب الثانی
حمایة المعلومات الوراثیة
إذا کانت البصمة الوراثیة توفر إمکانات غیر معهودة فی التعرف على هویة الأشخاص، إلا أنها تحمل بین ثنایاها مخاطر جمة من الانحراف فی استخدام المعلومات الجینیة خاصةً المتعلقة بالتاریخ المرضی الوراثی لأسرة ما، فالتحلیل الجینی على شریحة صغیرة من الدم یفصح الکثیر من المعلومات والبیانات السابقة والحاضرة والمستقبلیة لشخص المتهم وأقربائه، إذ أن هذا التحلیل یکشف مدى قابلیة الشخص للإصابة بأمراض وراثیة معینة ومختلفة مستقبلاً قبل حدوثها بعشرات السنین، خصوصاً الأمراض الخطیرة کسرطان القولون وأمراض القلب، کما أنه یکشف بعض العناصر الأخرى مثل الخصائص السیکولوجیة وتقدیر بعض الصفات مثل العنف والهوس وغیر ذلک()، ولاشک أن علم الشخص بهذه المعلومات سوف یؤثر على حالته النفسیة ویجعله یعیش فی حالة اضطراب انتظاراً للمجهول المعلوم واعتزال الحیاة العامة()، کما أن کشف هذه المعلومات إلى الغیر قد یضر بالشخص، فمن الناحیة الاقتصادیة قد تمتنع شرکات التأمین من التعامل معه أوتتشدد معه من حیث الشروط ومبلغ التأمین، کما أن هذه المعلومات الوراثیة قد تصبح عقبة أمام المریض المشترک فی التأمین الصحی، عندما تمتنع الجهة المسؤولة عن علاجه على أساس أنها غیر مسؤولة عن علاج الحالات المرضیة الموجودة قبل تاریخ التعاقد().
کذلک فإن نتائج البصمة الوراثیة تتعدى تحدید الهویة إلى إفراز معلومات تتعلق بتحدید النسب، وحیث أنه یجب أن نضع فی الحسبان اکتشاف حالة تعارض بین النسب البیولوجی والنسب القانونی المعاش بشکل یومی()، فإن ذلک یشکل تعدیاً على خصوصیات الفرد وتهدیداً للاستقرار العائلی وسمعة ومکانة الأسرة.
لذا فرغم کون البصمة الوراثیة أداة فعالة فی اکتشاف الجرائم، إلا أنها تنطوی على مخاطر الحد والتعدی على حریات وحقوق الأفراد، لذا یجب على التشریعات ذات العلاقة باختبار البصمة الوراثیة أن تعمل على إقامة التوازن بین حقوق الأفراد وتحقیق العدالة، ومن أجل ذلک فقد ذهب الإعلان العالمی للطاقم الوراثی البشری وحقوق الإنسان الصادر من منظمة الیونسکو فی 11/11/1997 إلى النص على ضرورة حمایة المعلومات الوراثیة والحصول على الموافقة المسبقة للشخص الخاضع للفحص فی أن یقرر ما إذا کان یرید أو لا یرید أن یحاط علماً بنتائج فحص وراثی أو بعواقبه().
وقد ذهبت التشریعات الوطنیة فی هذا المجال إلى بسط الحمایة على المعلومات الوراثیة وعدم الانحراف عن الغایات التی من أجلها أجریت تحالیل البصمة الوراثیة، فقد تدخل المشرع الفرنسی بالقانون الصادر سنة 1994 محاولاً وضع الحدود اللازمة التی من شأنها أن تکفل الاستخدام الأمثل لتقنیات الهندسة الوراثیة – ومنها البصمة الوراثیة -. وتضمن هذا القانون عدداً من النصوص التی تمت إضافتها للقانون المدنی والجنائی وکذلک قانون الصحة العامة، فالمادة (226/28) من قانون العقوبات الفرنسی تعاقب کل شخص یقوم بفعل یهدف إلى تحدید هویة أحد الأشخاص عن طریق البصمة الوراثیة بعیداً عن الأغراض الطبیة أو العلمیة أو حالات البحث عن الدلیل الجنائی، وکذلک کل من یقوم بالإدلاء بمعلومات خاصة بتحدید هویة أحد الأشخاص بواسطة بصماته الوراثیة أو یقوم بتحدید هویة شخص دون الحصول على ترخیص بذلک().
کما أن المشرع الفرنسی بسط حمایته على أسرار المهنة من خلال المادة (226/13) من قانون العقوبات الفرنسی التی تعاقب کل شخص أفشى معلومة ذات طبیعة سریة کان قد حاز علیها بسبب وظیفته أو مهمة مؤقتة()، واستناداً إلى ذلک لا یستطیع الطبیب الشرعی الذی یجری فحص البصمات الوراثیة، أو الشخص الذی یعمل فی مختبر للتحالیل الطبیة أن یفشی محتوى المعلومات الوراثیة التی حصل علیها، ولکنه یستطیع فقط أن یبین التطابق أو عدم التطابق بین العینات التی أجری علیها الاختبارات الوراثیة فی نطاق دعوى قضائیة (جزائیة أو مدنیة)().
وتعاقب المادة (226/26) من قانون العقوبات الفرنسی کل من یقوم باستعمال المعلومات الوراثیة للأشخاص لغیر الغرض الذی من أجله أجری الفحص، کما أن هیئة الأطباء فی فرنسا قد أصدرت توصیات فی سنة 1999 أشارت إلى ضرورة استخدام الأطباء شبکات ومادة تضمن السریة القصوى فی مواجهة احتمالات خرق خصوصیة المعلومات().
وقد أصدر المشرع الجنائی الألمانی سنة 1993القانون المعدل للقانون الصادر 199 المتعلق بالهندسة الوراثیة وتضمن أحکاماً جنائیة رادعة تهدف إلى حمایة المعلومات الخاصة بالصفات الوراثیة والأمراض المتوقعة().
وبالرجوع إلى قانون العقوبات العراقی فإنه لا یوجد نص خاص بحمایة المعلومات الوراثیة، إلا أن أحکام المادتین (327) و (437) منه() تکفل الحمایة الجنائیة لتلک المعلومات
فی حالات إفشائها أو الاستخدام غیر المشروع لها. کما أن قانون الطب العدلی رقم 57 لسنة 1987 قد أشار فی المادة 14/ک/ثالثاً منه إلى أن تقریر الطبیب العدلی یکون سریاً.
أما بالنسبة للعینة التی تؤخذ من المتهم واحتمالات الاستخدام غیر المشروع لها، فنعتقد بضرورة إضافة نص ضمن الأحکام المتعلقة بالجرائم الماسة بحریة الإنسان وحرمته() بحیث یجرم کل فعل یستهدف تحدید هویة شخص عن طریق البصمة الوراثیة فی غیر الأحوال والشروط المصرح بها قانوناً أو أی استخدام غیر مشروع لتلک العینات المأخوذة من جسد المتهم.
وبهذا الصدد لابد من الإشارة إلى أن مسألة حمایة الجین البشری بحاجة إلى معالجة تشریعیة خاصة تکفل حمایة الجین البشری من کل استخدام غیر مشروع خصوصاً بعد الاکتشافات الهائلة فی الهندسة الوراثیة وأیاً کان مصدر هذا الجین سواء من جسد المتهم أومن غیره أو من إفرازات الشخص المهیأة بطبیعتها للخروج منه.
الخاتمة :
بعد أن أنهینا بحثنا هذا فقد توصلنا إلى النتائج والتوصیات التالیة:
- النتائج :
- التوصیات :
أ- أن یناط قرار فحص الحامض النووی للتعرف على البصمة الوراثیة للمتهم وفی جمیع الأحوال لقاضی التحقیق دون غیره من سلطات التحقیق أو أعضاء الضبط القضائی.
ب- لا یجوز اللجوء إلى فحص البصمة الوراثیة إلا بعد توافر دلائل جدیة ضد المتهم.
ج- أن تکون الجرائم التی یتم اللجوء فیها إلى فحص البصمة الوراثیة على درجة من الجسامة ویمکن تحدیدها بالجرائم التی یجوز فیها توقیف المتهم على وفق أحکام المادة (19/أ و ب) من القانون.
د- یمکن لقاضی التحقیق أو المتهم أو محامیه أو خبیر یعینه حضور الفحص.
ه- یحق للمتهم الاطلاع على نتیجة الفحص فی حدود ما لها علاقة بالجریمة ولا یجوز إبلاغه أواطلاع الغیر على أیة معلومات وراثیة تتعلق بخصوصیاته إلا بموافقة صریحة منه.
و- أن یتم إتلاف المادة أو العینة المأخوذة من جسد المتهم بعد ظهور نتیجة الفحص تحسباً من الاستخدام غیر المشروع لها.
ز- أن یتم محو والتخلص من جمیع المعلومات المتحصلة من الفحص حال الانتهاء منه ماعدا المعلومات ذات العلاقة بالجریمة.
4. وفی هذا المجال فإننا نوصی بضرورة وجود معالجة تشریعیة خاصة لاستخدامات الهندسة الوراثیة سواء فی نطاق القانون (الجنائی – المدنی) أو فی الأغراض العلاجیة والبحثیة وبما یضمن الاستفادة من هذه التقنیة دون أن تتعارض مع حقوق وحریات الأفراد وأحکام الشریعة الإسلامیة الغراء.
The Authors declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English)
First: Books:
1. Arwin. E. Hershkovich, Foundations of Genetics, Translated by Dr. Assem Mohamed Hussein and Dr. Gbrayel Bersoum Aziz, University Press, University of Mosul, 1983.
2. Ibrahim Mustafa et al., The Medieval Lexicon, C1, Egypt Press, 1960.
3. Dr. Ahmed Hossam Taha Tammam, Criminal Protection of the Use of Genes in the Human Race, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, 2005.
4. Dr. Ashraf Tawfiq Shamseddin, The Balance Between Power and Freedom and the Power of Public Prosecution in the Preliminary Investigation, MinoFast for Printing, 1, 2006.
5. Dr. Jamal Jirjis Majla, Constitutional Legitimacy of Judicial Control, Golden Eagle, Cairo, 2006.
6. Dr. Hussein Mahmoud Ibrahim, Modern Scientific Methods in Criminal Evidence, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1981.
7. Dr. Ghaleb Hamza Al-Bakri, Principles of Genetic Engineering, Dar Al-Hikma Press, Basrah University, 1991.
8. Dr. Fayeq Amin Baker and Dr. Omar Jabir Omar, Forensic Medicine and Nuclear Impedance Technology, Institute of Forensic Medicine, Baghdad, 2000.
9. Dr. Kadri Abdul-Fattah Al-Shahawi, Criminal Forensics and Modern Technologies, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, 2005.
10. Dr. Mohamed El-Said Abdel-Fattah, Effect of coercion on will in criminal materials, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 2002.
11. Dr. Mohammed Al-Shahawi, Criminal Protection of the Privacy of Private Life, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, 2005.
12. Dr.Marsi Masoud Arhumah, Acceptance of the Scientific Evidence before the Criminal Court, University of Qar Younis, Benghazi, I, 1999.
Second: Research published in magazines:
1. Dr. Omar Al-Qaisi, The Legal Nature of the Human Genome, Comparative Law Journal, 23, 2006.
2. Dr. Fawaz Saleh, Authorization of Genetic Implications for Producing Affiliation, Journal of Sharia and Law, United Arab Emirates University, p 19, 2003.
Third: Laws:
1. Iraqi Penal Code No. 111 of 1969.
2. Iraqi Criminal Procedure Code No. 23 of 1971.
3. The Iraqi Medical Law No. 57 of 1987.
IV. Websites on the Internet (Internet):
1. http: //www.austlii.edu-au.
2. http://www.alsabah.com.
3. http://www.canadaonline-about.com.
4. http://www.criminal-law-lawyer-source.com.
5. http://www.gulfkids.com.
6. http://www.islamonline.net.
7. http://www.jmuslim.naseej.com.
8. http://www.Lebarmy.gov.
9. http://www.mohamoon-uae.com.
10. http://www.moiegypt.gov.
11. http://www.sayidaty.net.
12. http://www.ssfcm.org.