الملخص
من مستلزمات حق التقاضی هو ضمان حریة الدفاع والادعاء فی وقت واحد لکی یتحقق العدل ضمن معادلة عادلة بین طرفی الدعوى، وإذا کان الادعاء یتحقق فی لجوء المدعی إلى القضاء للمطالبة بحمایة حقوقه ومصالحه عن طریق تقدیم الدعوى، فإن الدفوع تتمثل فی إقرار المشرع للمدعى علیه، وهو الشخص الذی رفعت علیه الدعوى، الحق فی الدفاع عن نفسه وحمایة مصالحه فی الدعوى المرفوعة علیه وذلک عن طریق الدفوع وبکل الوسائل المحددة فی القانون
الكلمات الرئيسة
الموضوعات
أصل المقالة
الدفوع بعدم قبول الدعوى(*)
Evidence that helps to not accept the lawsuit
فارس علی عمر الجرجری کلیة الحقوق/ جامعة الموصل Fares Ali Omar Al-Jarjari College of law / University of Mosul Correspondence: Fares Ali Omar Al-Jarjari E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 3/3/2008 *** قبل للنشر فی 26/3/2008 .
(*) Received on 3/3/2008 *** accepted for publishing on 26/3/2008.
Doi: 10.33899/alaw.2008.160527
© Authors, 2008, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
المقدمة:
الحمد لله رب العالمین .. والصلاة والسلام على سید المرسلین .. وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهدیه إلى یوم الدین وبعد:
أولاً: مدخل تعریفی بموضوع البحث:
من مستلزمات حق التقاضی هو ضمان حریة الدفاع والادعاء فی وقت واحد لکی یتحقق العدل ضمن معادلة عادلة بین طرفی الدعوى، وإذا کان الادعاء یتحقق فی لجوء المدعی إلى القضاء للمطالبة بحمایة حقوقه ومصالحه عن طریق تقدیم الدعوى، فإن الدفوع تتمثل فی إقرار المشرع للمدعى علیه، وهو الشخص الذی رفعت علیه الدعوى، الحق فی الدفاع عن نفسه وحمایة مصالحه فی الدعوى المرفوعة علیه وذلک عن طریق الدفوع وبکل الوسائل المحددة فی القانون.
إن الدفوع بوصفها الوجه السلبی لکفالة حق التقاضی، لا تضیف عنصراً جدیداً إلى الدعوى، وإنما تهدف إلى تفادی الحکم على المدعى علیه بکل ما یدعیه المدعی أو بجزء منه، فالدعوى یتحدد نطاقها موضوعیاً بادعاءات المدعی لا بدفع المدعى علیه.
والمدعى علیه عندما یستخدم الحق الممنوح له والمتمثل بالدفوع، إنما یختار النوع الذی یتلاءم ومرکزه فی الدعوى، فإن کان هناک خللاًَ فی الناحیة الشکلیة للدعوى المرفوعة ضده عندها یثیر تلک الدفوع الشکلیة المقررة من أجل عرقلة مسیرة خصمه، ومن هذا القبیل الدفوع التی توجه إلى إجراءات الدعوى أو الاختصاص دون التعرض لذات الحق المدعى به.
أما إذا کان الدفع ینصب على ذات الحق المدعى به، کإنکار وجوده، عندها تسمى تلک الدفوع بالموضوعیة، والذی یترتب على قبوله رفض الطلب الموضوعی الذی تتضمنه عریضة دعوى المدعی کلاً أو بعضاً. وهذا النوع بلا شک أقوى من الدفوع الشکلیة کونها تنصب على المضمون لا الشکل.
وقد یرى المدعى علیه أنه من المناسب إثارة دفع من شأنه منع المحکمة من الفصل فی موضوع الدعوى أساساً، وهو ما اصطلح ع/لى تسمیته بالدفع بعدم القبول، حیث یتعلق هذا الدفع بسلطة الالتجاء إلى القضاء، والشروط اللازمة لذلک، أی تتعلق بالحق فی استعمال الدعوى ونظرها أمام المحکمة دون التعرض للموضوع، أو مدى أحقیة المدعی فی طلبه.
ثانیاً: أسباب اختیار موضوع البحث:
إن ما دفعنا إلى اختیار هذا الموضوع جملة أسباب، منها أن هذا الدفع قد أثار تعریفه ومرکزه بین مختلف الدفوع العدید من المشاکل، هذه المشاکل ترجع بصفة أساسیة إلى غموض فکرة هذا الدفع وعدم وضوح النظام القانونی الذی یستجیب إلیه، ولا یوجد مرجع من مراجع قانون المرافعات إلا وأشار إلى هذا النوع من الدفوع، ومع هذا مازالت طبیعة هذا الدفع وأحکامه غیر واضحة المعالم الذی یقطع بصددها کل جدل أو نقاش.
ثالثاً: فرضیات البحث:
فضلاً عما تقدم، فإن معالجة المشرع العراقی لهذا النوع من الدفوع لم تکن بمستوى الطموح، فلم تکن النصوص المتعلقة به فی قانون المرافعات کافیة للإلمام بهذا الموضوع المتشعب من حیث التطرق لماهیته وصوره، بالإضافة إلى کیفیة الفصل فیه والآثار المترتبة علیه. إن المتتبع لقانون المرافعات یجد أن النصوص المتعلقة بالدفوع الشکلیة قد أخذت حیزاً کبیراً من اهتمام المشرع، على عکس النصوص الخاصة بالدفع بعدم القبول، وهو ما یشکل خللاً فی توازن النصوص التشریعیة المتعلقة بالدفوع، فیفترض أن تأتی معالجة المشرع لأی موضوع من المواضیع وبما یتناسب مع أهمیته فی الدعوى المدنیة، وهذا ما لم نجده فی الدفع بعدم القبول، إذ اکتفى المشرع بالمادة (80) من قانون المرافعات للإشارة إلى هذا الدفع، وهذا الأمر باعتقادنا المتواضع غیر سلیم، لکونه یؤدی إلى فتح الباب على مصراعیه لآراء الفقهاء مع ما تحمله من اختلافات فی الرأی، واجتهادات القضاء وما تؤدی إلیه من اضطراب فی الأحکام، کل هذه الأمور ما کانت لتحدث لو کانت المسألة محسومة فی نطاق القانون.
سیدور البحث فی الدفوع بعدم القبول لإلقاء الضوء على أهم مفاصل هذا الموضوع، محاولین الخروج – ولو بالحد الأدنى – بالنتائج والمقترحات الضروریة للارتقاء بهذا الدفع وبما یتناسب مع الخلاف الدائر حوله.
رابعاً: هیکلیة البحث:
وقد کانت خطة البحث على النحو الآتی :
المبحث الأول : ماهیة الدفوع بعدم القبول
المطلب الأول : التعریف بالدفع بعدم القبول.
المطلب الثانی : الطبیعة القانونیة للدفع بعدم القبول.
المطلب الثالث : حالات (أسباب) الدفع بعدم القبول.
المبحث الثانی : أحکام الدفع بعدم القبول وآثارها
المطلب الأول : أحکام الدفع بعدم القبول.
المطلب الثانی : الآثار المترتبة على الحکم بصحة الدفع بعدم القبول.
المبحث الأول
ماهیة الدفوع بعدم القبول
یقتضی البحث فی ماهیة الدفوع بعدم القبول، ضرورة التطرق للتعریفات التی قیلت بشأن هذا النوع من الدفوع، إذ حاول فقهاء وشراح قانون المرافعات الخروج ولو بتعریف جامع له یمیزه عن غیره من الدفوع ویوضح معالمه ونطاقه، إذ یحتدم الخلاف حول طبیعته القانونیة.
فمن الفقهاء من ینسب هذا النوع إلى الدفوع الموضوعیة وآخرون یرون أن هذا الدفع ما هو إلا صورة من صور الدفوع الشکلیة، فی حین أن اتجاهاً ثالثاً یرون فیه نوعاً مستقلاً من الدفوع.
إن الدفع بعدم القبول بوصفه إجراءاً قضائیاً یخضع فی تنظیمه للشروط الموضوعیة والشکلیة للعمل الإجرائی، إذ لا یصح إثارة هذا الدفع ما لم تتوافر المستلزمات أو الشروط اللازمة به.
ومن أجل الإحاطة بما تقدم لابد من تقسیم هذا المبحث إلى المطالب الآتیة:
المطلب الأول : التعریف بالدفع بعدم القبول.
المطلب الثانی : الطبیعة القانونیة للدفع بعدم القبول.
المطلب الثالث : حالات (أسباب) الدفع بعدم القبول.
المطلب الأول
التعریف بالدفع بعدم القبول
إن التعریف بهذا الدفع سیکون من عدة محاور ، ابتداءاً من بیان المدلول الاصطلاحی للدفع بعدم القبول، مروراً بالغایة أو الحکمة منه، وانتهاءاً بتمییز هذا النوع من الدفوع مما یشتبه به من أنظمة قانونیة مختلفة، وذلک من خلال الفرعین الآتیین :
الفرع الأول : المدلول الاصطلاحی للدفع بعدم القبول.
الفرع الثانی : الحکمة (الغایة) من الدفع بعدم القبول وتمییزه مما یشتبه به.
الفرع الأول
المدلول الاصطلاحی للدفع بعدم القبول
الدفع بمعناه العام، "هی جمیع وسائل الدفاع التی یجوز للخصم أن یستعین بها لیجیب عن دعوى خصمه، بقصد تفادی الحکم لخصمه بما یدعیه سواء کانت هذه الوسائل موجهة إلى الدعوى أو بعض إجراءاتها أو موجهة إلى أصل الحق المدعى به أو إلى سلطة الخصم فی استعمال دعواه منکراً إیاها".
أما الدفع بمعناه الخاص، "فیقصد به الوسائل التی یستعین بها الخصم ویطعن بمقتضاها فی صحة إجراءات الدعوى، دون التعرض لأصل الحق الذی یدعیه خصمه الآخر، فیتفادى بها مؤقتاً الحکم علیه بما یطلبه هذا الخصم، کأن یجیب أن الدعوى قد رفعت إلى محکمة غیر مختصة، أو رفعت بإجراء باطل، ووسائل الدفاع هذه تعرف بالدفوع الشکلیة، أما وسائل الدفاع المتعلقة بأصل الحق فتعرف بالدفوع الموضوعیة".
وقد عرف المشرع العراقی الدفع بأنه "الإتیان بدعوى من جانب المدعى علیه تدفع دعوى المدعی وتستلزم ردها کلاً أو بعضاً"
أما بخصوص الدفع بعدم القبول، فالملاحظ أن التعریفات وإن اختلفت بصددها إلا أن الاختلاف کامن فی الصیاغة أکثر منه فی المضمون، فالإطار العام لهذا الدفع یکاد یکون مجمعاً علیه من قبل الفقهاء، من کونها وسیلة دفاع سلبیة محضة بحیث یقتصر فیها دور المدعى علیه فی المحافظة على الأصل الظاهر، وهو براءة ذمته مما یسنده إلیه المدعی.
ومن هذه التعریفات، أن الدفع بعدم قبول الدعوى هو دفع لا یوجه إلى إجراءات الدعوى کما هو الحال فی الدفوع الشکلیة، أو إلى الحق المدعى به، کما هو الحال فی الدفوع الموضوعیة، وإنما هو دفع یوجه إلى حق الخصم فی رفع الدعوى ویهدف إلى منع المحکمة من النظر فیها، کالدفع بعدم قبول الدعوى لانتفاء المصلحة، أو لرفعها من غیر ذی صفة، أو لرفعها بعد فوات المیعاد أو لسبق الفصل فیها.
کما تعرف بأنها الدفوع التی ینازع بها المدعى علیه فی أن للمدعی حقاً فی رفع دعواه، أو فی توافر الشروط التی یتطلبها القانون لقبول الدعوى.
وذهب اتجاه آخر أن الدفع بعدم القبول هو الدفع الذی لا یوجه إلى الحق الموضوعی لینفیه، ولا لأعمال الدعوى لإثبات بطلانها أو عدم مراعاتها لمقتضیاتها، وإنما یوجه إلى الحق فی الدعوى، للتوصل إلى عدم قبولها أو عدم سماعها قبل الفصل فی الموضوع، لتخلف شرط من شروط قیام الحق فیها.
وعرفه بعض الشراح بأنها الدفوع التی تتعلق بسلطة الالتجاء إلى القضاء والشروط اللازمة لذلک، أی تتعلق بالحق فی استعمال الدعوى ونظرها أمام المحکمة وذلک دون التعرض للموضوع أو مدى أحقیة المدعی فی طلبه.
ونمیل إلى التعریف الأخیر کونه یمتاز نوعاً ما بالشمولیة، کما یحمل فی طیاته أهم عناصر هذا الدفع، وهو أقرب ما یکون للتعریف الجامع والمانع.
وبعد استعراض أهم ما قیل بصدد تعریف الدفع بعدم القبول، نجد أنها تتفق على الخطوط العریضة والملامح العامة وإن اختلفت الصیاغة فی هذه التعریفات.
من هنا یمکن القول أن مقومات هذا الدفع وأهم عناصره – ومن خلال الاستنتاج من کل ما ذکر – تتجسد فی القواسم المشترکة لمجمل الآراء الفقهیة، والتی یمکن أن تمیز هذا الدفع عن غیره من الدفوع، ومن أهم هذه العناصر :
أولاً : إن الدفع بعدم القبول هو وسیلة دفاع یرمی إلى إنکار وجود الدعوى أساساً
فإن کان الدفع الشکلی موجه أساساً إلى إجراءات الدعوى أو الاختصاص فی نظرها، مما یعنی أن الدعوى موجودة فعلاً إلا أنها مخالفة للأوضاع التی رسمها القانون والتی یتعین على الخصم مباشرتها حتى تکون دعواه صحیحة، وإذا کان الدفع الموضوعی ینصب بشکل مباشر على ذات الحق المدعى به، من دون أن یکون للمدعى علیه تحفظ على الدعوى بوصفها وسیلة لحمایة الحقوق، إذ من المسلم به أن للدعوى کیاناً مستقلاً، وهی لیست بذات الحق المدعى به. إلا أن للدفع بعدم القبول خصوصیة تمیزه عن هذا وذاک، وتتمثل فی توجهها إلى الوسیلة التی یحمی بها الخصم حقه (الدعوى) فتصیبها بالشلل، ومن ثم عدم قدرة المدعی من المطالبة بحقه.
تجدر الإشارة أن المشرع العراقی لم یشر إلى تسمیة الدفع بعدم القبول فی قانون المرافعات، وإنما اکتفى بالنص على صورة من صور هذا الدفع وهی حالة عدم توجه الخصومة، هذا الموقف لا یتناسب مطلقاً مع الأهمیة التی یحتلها هذا الدفع، والخلاف الحاصل بشأنه، فالأولى بالمشرع إعادة النظر فی موقفه وإعطاء هذا الموضوع الأهمیة التی یحتلها من خلال بیان مفهوم هذا الدفع بشکل واضح، والابتعاد عن النصوص المقتضبة والتی لا توضح معالم هذا الدفع بکافة تفاصیله من أحکام وآثار.
ثانیاً : إن الدفع بعدم القبول یکون بمناسبة انعدام الشروط التی یتطلبها القانون فی قبول الدعوى
فهذا الدفع هو عبارة عن التمسک بعدم توافر شرط من شروط قبول الدعوى، سواء کانت شروطها العامة أو الخاصة، الإیجابیة أو السلبیة، ویجوز الدفع بعدم قبول الطعن وذلک بالتمسک بعدم توافر شرط من شروط الطعن فی الحکم.
إن التشریعات تفرض شروطاً لقبول الدعوى أمام المحکمة، فإذا أقام الشخص دعوى أمام المحکمة ولم تتوافر الشروط اللازمة لقبول هذه الدعوى، فإنها لا تکون مقبولة بصرف النظر عما إذا کان محقاً فی ادعائه أم غیر محق، وعلیه یجب أن تتثبت المحکمة من شروط قبول الدعوى فی الجلسة الأولى وتتأکد من توافر جمیع هذه الشروط وذلک قبل الخوض فی موضوعها، فإذا ما تخلف شرط أو أکثر فی الدعوى المنظورة وجب على المحکمة ردها شکلاً.
الفرع الثانی
الحکمة (الغایة) من الدفع بعدم القبول وتمییزه مما یشتبه به
إن الدفع والدعوى، بوصفها إجراءات قضائیة إنما تخضع للأمور التنظیمیة والشکلیة التی یتکفل المشرع بتحدیدها ومن ثم تلبیة الحمایة القضائیة لمن یطلبها سواء من جهة الادعاء أم من جهة الدفاع.
فالإجراءات القضائیة ورغم تنوعها إنما ترتبط ببعضها لتکون فی المحصلة عملاً قانونیاً واحداً، وفی حالة مخالفة الخصوم للشکلیات المقررة عندها تنهض الجزاءات التی حددها المشرع بسبب مخالفة تلک القواعد.
فالمدعی عندما یتجاهل أو یهمل الشروط اللازمة لصحة دعواه، أو عندما لا یتقید بالضوابط والشکلیات والمدد المقررة لصحة الدعوى، إنما یخرق بذلک ضمانة ضروریة تحرص علیها التشریعات المختلفة للوصول إلى قضاء عادل ألا وهی الشکل.
وإذا کان الطابع الممیز لقواعد المرافعات أنها قواعد شکلیة، فإن بعض هذه القواعد تکون لها خصائص القواعد الموضوعیة التی تمس حقوق الأفراد، مثل قواعد شروط قبول الدعوى، والقواعد المنظمة لطرق الطعن فی الأحکام وقواعد تسبیبها.
من هنا تبدو الحکمة من الدفع بعدم القبول، من کونها جزاءاً ذات طابع خاص ینهض عندما لا تحترم الشکلیات المقررة من قبل المدعی، فالمشرع عندما یوفر الفرصة للمدعى علیه من إثارة هذا الدفع للحیلولة دون قبول دعوى المدعی، إنما یوجه – فی الوقت نفسه – رسالة إلى المدعی – والأفراد على وجه العموم – مفادها أن عدم احترام القواعد والشکلیات التی حددها جزاءه عدم قبول تلک الدعوى.
فالدفع بعدم القبول، إنما یسلب سلطة المدعی فی استعمال الدعوى، لأن هذه السلطة لم تباشر وفق الشکل المحدد له، ومن ثم أصبحت وسیلة المدعی (الدعوى) غیر قادرة للمطالبة بالحقوق، فالدفع إذن وسیلة لردع المدعی غیر المستوف لشرائط إقامة الدعوى.
إن الحمایة إنما توفر للخصم الحریص على دعواه، ولیس المستهین بالإجراءات المقررة، لأن الإجراءات الثابتة والمنضبطة تحول دون فوضى القضاء وسوء نیة الخصوم، مما یعنی عدم ترک إجراءات التقاضی تخضع لتقدیر الخصوم أو القضاة ولأن الشکل عدو الظلم والتحکم.
إن الدفع بعدم القبول عندما یوجه إلى الحمایة القضائیة المطلوبة بهدف إنکار حق طالبها فیها، إنما تعد فی الوقت نفسه إحدى الجزاءات الإجرائیة المقررة فی قانون المرافعات، هذا الجزاء الذی یواجه مشکلة قبول أو عدم قبول الطلب القضائی، وبالتالی فإنه یواجه مسألة أحقیة المدعی فی طلب منحه الحمایة القضائیة أو عدم أحقیته فی الحصول على هذه الحمایة.
فعدم القبول – بوصفه جزاءاً إجرائیاً – هو تکییف قانونی لطلب قضائی تخلفت فیه الشروط اللازمة لقبوله، ویؤدی عدم القبول إلى امتناع المحکمة عن النظر فی مضمون هذا الطلب.
تجدر الإشارة، أن هذا الجزاء یختلف عن الجزاءات الأخرى فی قانون المرافعات، ولعل من أهمها البطلان، وهو عبارة عن تکییف قانونی لعمل یخالف نموذجه القانونی مخالفة تؤدی إلى عدم إنتاج الآثار التی یرتبها علیه القانون إذا کان کاملاً.
فالبطلان جزاء قانونی للإجراء القضائی فی الدعوى الذی یخالف القانون، أما عدم القبول فهو جزاء قانونی یقتصر على عدم توافر شروط الدعوى.
کما أن أعمال البطلان لا یکون من خلال الدفع بعدم القبول، لأن الخصم إذا ما تمسک بعدم قبول الإجراء لبطلانه، فإن عدم القبول هنا یکون قد استخدم فی غیر محله، ویکون الهدف من استخدامه هو مجرد التمسک ببطلان الإجراء.
أما السقوط، وهو الجزاء الذی یرتبه المشرع على عدم استخدام الحق الإجرائی فی المیعاد أو المناسبة المحددة، فالملاحظ أن له صلة وثیقة بالدفع بعدم القبول، لأن السقوط إذا وقع فإنه یتم التمسک به عن طریق الدفع بعدم القبول، بمعنى أن هذا الدفع هی الأداة الفنیة لأعمال جزاء السقوط.
فهذا الدفع یرمی إلى إنکار الحمایة القضائیة على طالبها لعدم أحقیته فی ذلک نظراً لسقوط حقه فی مباشرة الإجراءات.
المطلب الثانی
الطبیعة القانونیة للدفع بعدم القبول
أثارت طبیعة الدفع بعدم القبول خلافاً حاداً بین الفقهاء وجدلاً واسعاً فی المؤلفات القانونیة، هذا الخلاف فی الآراء سببه غموض هذا الدفع وعدم وضوح معالمه، فتارة یقترب من الدفوع الموضوعیة، وتارةً أخرى تلتقی أحکامه مع أحکام الدفوع الشکلیة، مما أوقع الفقهاء فی حیرة منه، ولهذا ذهبت الآراء فی تحدید أحکامه إلى مذاهب شتى.
ولأجل الوصول إلى النتیجة المتوخاة، أجد من المناسب التطرق – ولو بشیء یسیر – للدفوع الموضوعیة والشکلیة لنرى مدى التقارب ما بین الدفع بعدم القبول والدفوع الأخرى، مع ملاحظة نقاط التباین بین هذه الدفوع، ومدى إمکانیة اعتبار الدفع بعدم القبول دفعاً مستقلاً وقائماً بذاته.
فالدفوع الموضوعیة، هی تلک الدفوع التی توجه إلى الحق موضوع الدعوى، لغرض الحکم برفض الدعوى بشکل کلی أو جزئی، بمعنى أن هذا الدفع ینازع فی نشوء الحق أو بقائه أو مقداره، ویرمی بهذا إلى رفض طلبات المدعی کلها أو بعضها.
وهذه الدفوع من الجائز إبداؤها فی أیة حالة تکون علیها الدعوى، لأنه لا یعدو أن یکون دفاع یتعلق بذات الحق، والأصل أنه من الجائز إبداء أوجه الدفاع هذه فی أیة حالة تکون علیها الدعوى، وإذا کان هذا الدفع یوجه إلى أصل الحق، فإن الحکم بقبوله یترتب علیه حسم النزاع على أصل الحق، کما یحوز هذا الحکم حجیة الشیء المحکوم به، فلا یجوز تجدید النزاع أمام المحکمة التی أصدرته أو أمام أیة محکمة، لأنها قد استنفذت ولایتها فیها.
والدفوع الموضوعیة متعددة والقانون لا یحددها، فهی لا تقع تحت حصر، لأنها تتعلق بأصل الحق ذاته وتنظمها القوانین المقررة، کالدفع بالوفاء أو الإبراء أو بالمقاصة والدفع بالصوریة...الخ.
وإذا کان الأصل یقتضی عدم تدخل المحکمة فی النزاع الدائر بین الخصمین طبقاً لمبدأ حیاد القاضی، فإن الاستثناء یحتم إثارة الدفوع الموضوعیة من قبل المحکمة متى کانت هذه الدفوع متعلقة بالنظام العام. تجدر الإشارة أن الحکم بقبول أو رفض الدفع الموضوعی یعد صادراً فی أصل الدعوى، فإذا استؤنف الحکم صار موضوع النزاع برمته معروضاً على محکمة الدرجة الثانیة، ویکون لها أن تستکمل أوجه التحقیق التی لم تقم بها محکمة الدرجة الأولى وأن تقضی فی موضوع الدعوى.
أما الدفوع الشکلیة، فهی تلک الدفوع التی لا توجه إلى ذات الحق المدعى به، وإنما توجه إلى الدعوى بصفتها مجموعة إجراءات یتعین على الخصم مباشرتها إذا شاء الالتجاء إلى القضاء للحصول على المنفعة التی یخولها له حق معین یدعیه. أو هی دفوع ترمی إلى الطعن فی صحة شکل الدعوى، إما بإنکار اختصاص المحکمة المرفوعة إلیها الدعوى، وإما بإنکار صحة الإجراءات التی رفعت بها أو التی تسیر فیها.
والدفع الشکلی (الإجرائی) عائق مؤقت، یوجه إلى إجراءات الدعوى بدعوى مخالفتها للأوضاع التی رسمها القانون، ویقصد به تفادی الحکم فی الموضوع بصفة مؤقتة، ولم یجز القانون التراخی فی إبدائه، بل أوجب على الخصم أن یدلی به قبل التکلم فی الموضوع وإلا سقط الحق فیه، وذلک منعاً من تأخیر الفصل فی الدعوى.
وإذا کانت القاعدة تقضی بأن یثیر القاضی من تلقاء نفسه کل ما یمس النظام العام، لذا وجب علیه أن یثیر الدفع الشکلی المتعلق بالنظام العام، فضلاً عن قبوله فی أیة حالة تکون علیها الدعوى.
إن الحکم الصادر بقبول الدفع الشکلی لا یمس أصل الحق، وبالتالی لا یترتب علیه إنهاء النزاع بصدده، إنما یترتب علیها انقضاء الدعوى أمام المحکمة، ومن الجائز تجدیدها بمباشرة الإجراءات الصحیحة، وإذا ما استؤنف هذا الحکم، فإن ولایة محکمة الدرجة الثانیة یقتصر على إعادة النظر فی الدفع، ولا یجوز لها أن تقضی فی موضوع الدعوى إن هی ألغت الحکم المستأنف، بل یتعین علیها فی هذه الحالة أن تعید القضیة إلى محکمة الدرجة الأولى لتفصل فی موضوعها لأنها لم تستنفذ ولایتها لموضوع الدعوى.
بعد هذا الاستعراض الموجز للدفع الموضوعی والشکلی، ینبغی التعرف على موقع الدفع بعدم القبول، والمسافة التی تفصله عن هذین الدفعین، وإلى أیهما یبدو أقرب، وهل مقومات هذا الدفع ومرتکزاته هی نفسها فی الدفوع الأخرى، أم له نزعة مستقلة وخاصة به؟ للإجابة على هذه التساؤلات سنقوم باستعراض أهم الآراء التی قیلت فی هذا المضمار، مبتدئین بالاتجاه التقلیدی، ومن ثم بحث المسألة فی الاتجاه الحدیث ومن ثم بیان رأینا فی المسألة وما نعتقده أقرب للحقیقة.
أولاً : الاتجاه التقلیدی (الاتجاه القدیم)
تتلخص فلسفة هذا الاتجاه، بإلغاء طائفة الدفوع بعدم القبول وذلک بالنظر إلى ما یحیط بهذا النوع من الدفوع من مشاکل، وضرورة إدماجه داخل طائفة الدفوع الشکلیة.
وقد استند هذا الاتجاه على حجج، من أهمها، أن قانون المرافعات الفرنسی الصادر فی سنة 1806 قد عدد الدفوع الشکلیة والموضوعیة فقط، حیث یتوجه النوع الأول إلى الإجراءات بقصد عرقلة سیر الخصومة، أما النوع الثانی فیتوجه إلى مضمون الادعاء بقصد تحطیمه.
أما الحجة الثانیة، فتعتمد على ما جرى علیه العمل إذ تم إدماج الدفع بعدم القبول فی هذه الفترة داخل طائفة الدفوع الشکلیة.
وقد استمر هذا الوضع، إلى أن صدر فی فرنسا قانون سنة 1935 (الملغی)، والذی رسخ الاتجاه السابق، من خلال إعطاء هذا القانون للدفع بعدم القبول ذات النظام القانونی القائم بالنسبة للدفوع الشکلیة، وبالذات ضرورة إبداء الدفع بعدم القبول قبل الکلام فی الموضوع وإلا سقط الحق فی إبدائه. هذا الأمر دفع بالفقه الفرنسی للقول بأن القضاء فی فرنسا جرى على اعتبار الدفع بعدم القبول دفعاً شکلیاً وأسمته الدفع الشکلی بعدم القبول.
ورغم تقدیرنا للآراء التی قیلت بهذا الصدد، وموقف المشرع الفرنسی فی هذه المرحلة إلا أننا لا نتفق مطلقاً مع ما ذهب إلیه هذا الاتجاه، لعدة أسباب، من أهمها أن المشرع الفرنسی عندما لا یذکر فی القانون الصادر سنة 1806 الدفوع بعدم القبول، فهذا لا یعنی مطلقاً عدم وجوده، فالتشریعات قد ترسم الخطوط العریضة فی النظام القضائی تارکة التفاصیل والمضامین الدقیقة للقضاء لتطبیقها، ولعل أفضل مثال بهذا الصدد هو موقف المشرع العراقی الحالی، فهو إن لم یذکر بصریح العبارة الدفع بعدم القبول فی قانون المرافعات، بل جاءت الإشارة إلى صورة من صوره، فهذا لا یعنی أن المشرع العراقی قد تجاهل هذا النوع من الدفوع.
أما السبب الآخر – فی اعتقادنا – لعدم صحة الاتجاه السابق، هو أن الأخذ بفلسفة هذا الاتجاه تؤدی حتماً إلى تشویه فکرة الدفع بعدم القبول وفکرة الدفع الشکلی فی آنٍ واحد، ومن ثم الوقوع ثانیةً فی عدم تحدید النظام القانونی لکلیهما بسبب اضطراب الفکرتین.
ثانیاً : الاتجاه الحدیث (الاتجاه المعاصر)
حاول هذا الاتجاه التخفیف من خطورة فلسفة الاتجاه القدیم، ومن اعتبار الدفع بعدم القبول ضمن طائفة الدفوع الشکلیة، فعمد إلى إجراء تفرقة دقیقة داخل طائفة الدفوع بعدم القبول، فذهب إلى أنه یوجد من هذه الدفوع ما یتصل بالإجراءات وأسماها الدفوع بعدم القبول المتعلقة بالإجراءات، والدفوع بعدم القبول المتعلقة بالموضوع وهی ما یتصل بالموضوع.
حیث یقصد بالنوع الأول من هذه الدفوع تلک التی ترمی إلى استبعاد الطلب القضائی، نظراً لأن الدعوى لم تمارس من خلال الشروط الواجب توافرها لاستعمالها استعمالاً مقبولاً من الناحیة الإجرائیة. أما الدفع بعدم القبول المرتبط بالموضوع، فهو الدفع الذی یواجه الادعاء بحق أمام القضاء کأساس للطلب القضائی.
إن ما یترتب على فلسفة هذا الاتجاه، هی وجوب إعطاء الحکم القانونی للدفع الموضوعی والشکلی على الدفع بعدم القبول حیثما وجد، فالدفع بعدم القبول المرتبط بالإجراءات یطبق علیه أحکام الدفوع الشکلیة والدفوع بعدم القبول المرتبط بالموضوع یطبق علیه أحکام الدفوع الموضوعیة.
کما ذهب جانب من الفقه إلى أن الدفع بعدم القبول، إذ کان لعیب فی العمل الإجرائی، فهو فی الحقیقة دفع شکلی یخضع لأحکام الدفوع الشکلیة، أما إذا کان الدفع بعدم القبول بسبب التخلف الظاهر لأحد شروط الحق فی الدعوى، أو انقضاء الحق وهو ما یطلق علیه الفقه والقضاء عدم القبول الموضوعی أو المتصل بالموضوع فیأخذ حکم الدفوع الموضوعیة.
فی حین یرى اتجاه آخرأن الدفع بعدم القبول یعنی التمسک بعدم قابلیة الإدعاء لأن یکون محلاً للعمل القضائی، وهو بذلک یثیر مسألة إجرائیة تتعلق بالموضوع یتمیز بذلک عن الدفوع الإجرائیة (الشکلیة) التی تثیر مسألة إجرائیة بحتة، کما یختلف عن الدفوع الموضوعیة التی تثیر مسألة موضوعیة بحته، لذا یعد الدفع بعدم القبول من وجهة نظر هذا الاتجاه دفع إجرائی لکنه یختلف عن الدفوع الإجرائیة البحتة – لتعلقه بالموضوع.
ویشیر جانب من الفقه، أن القضاء المصری أمیل إلى المقاربة بین الدفوع بعدم القبول وبین الدفوع الموضوعیة والمباعدة بینها وبین الدفوع الشکلیة، من حیث أنه بالحکم فی الدفوع بعدم القبول تستنفذ محکمة الدرجة الأولى لولایتها على موضوع الدعوى، وأنه إذا استؤنف الحکم کان الموضوع کله مطروحاً على محکمة الدرجة الثانیة، ولا تعد هذه المحکمة عندئذٍ متصدیة للموضوع ومخالفة للقانون.
ونعتقد – من وجهة نظر متواضعة – أن الآراء والمواقف التی قیلت قد طمست – أو تحاول طمس – أیة تفرقة ما بین الدفوع بعدم القبول، والدفوع الأخرى، من خلال الإصرار على دمج هذا الدفع فی الدفوع الأخرى، متجاهلة بذلک النظام القانونی له والأحکام والآثار المترتبة علیه.
من هنا یمکننا القول بأن الدفع بعدم القبول، یعد وبحق دفعاً مستقلاً وقائماً بذاته، ولا یؤثر فی ذلک وجود بعض ملامح التشابه ما بین أحکامه وأحکام الدفوع الأخرى، ونتفق مع ما استقر علیه أغلب الآراء الفقهیة من أن هذا الدفع هو نوع ثالث من الدفوع یقع فی مرحلة وسطى ما بین الدفوع الشکلیة والموضوعیة، فهو أدنى درجة من الدفوع الموضوعیة وأعلى من الدفوع الشکلیة.
وإذا کان المشرع العراقی والتشریعات المقارنة قد أجازت إثارة هذا الدفع فی أیة مرحلة من مراحل نظر الدعوى، وهی المسألة التی دفعت بالبعض إلى اعتبارها ضمن الدفوع الموضوعیة، کون الأخیرة من الجائز إبداؤها فی أیة مرحلة من مراحل الدعوى کذلک، إلا أن هذا الأمر ینبغی ألا یُستنتج منه اعتبار الدفوع بعدم القبول ضمن الدفوع الموضوعیة، کون الدفوع بعدم القبول – وبحسب ترکیبه الأصلی – لا یتوجه إلى عین الادعاء بقصد هدمه، وإنما یتوجه وبطریقة مسبقة إلى الحمایة القضائیة التی یطلبها صاحب الادعاء، ویرمی الدفع إلى إنکار حق المدعی فی هذه الحمایة.
المطلب الثالث
حالات (أسباب) الدفع بعدم القبول
سبقت الإشارة إلى أن الدفع بعدم القبول یکون عند انعدام الشروط التی یتطلبها القانون فی قبول الدعوى، مما یعنی محدودیة نطاق التمسک بهذا الدفع، إذ لا یمکن للمدعى علیه من إثارة هذا الدفع إلا إذا تخلفت هذه الشروط، وهی إما أن تکون شروطاً عامة لصحة الدعوى، أو أن تکون شروطاً أخرى مستمدة من طبیعة الظروف المحیطة بالدعوى، أو ما تسمى بالشروط الخاصة لقبول الدعوى. وقد یکون السبب فی إثارة هذا الدفع وجود موانع تحول دون قبول الدعوى، هذا ما سیتم معالجته فی الفروع الآتیة :
الفرع الأول
الدفع بعدم القبول لانتفاء الشروط العامة للدعوى
یقصد بالشروط العامة لقبول الدعوى، تلک الشروط الرئیسیة التی یتوجب توافرها أساساً لقبول الدعوى، وهی أن تستند إلى حق وإلى مصلحة، وأن یکون رافعها أهلاً للتقاضی ذا صفة فی رفعها.
إن الشروط الواجب توافرها لکی تکون الدعوى مقبولة، وإن کان محل خلاف لدى الفقه والقضاء، إلا أن المشرع العراقی قد أفرد ثلاثة شروط عامة لقبول الدعوى وهی الأهلیة والخصومة والمصلحة.
حیث اشترط المشرع العراقی أن یکون کل من طرفی الدعوى متمتعاً بالأهلیة اللازمة لاستعمال الحقوق التی تتعلق بالدعوى، والأوجب أن ینوب عنه من یقوم مقامه قانوناً.
کما اشترط أن یکون المدعى علیه خصماً یترتب على إقراره حکم بتقدیر صدور إقرار منه وأن یکون ملزماً بشیء على تقدیر ثبوت الدعوى. کما یشترط فی الدعوى أن یکون المدعى به مصلحة معلومة وحالة وممکنة ومحققة ومع ذلک فالمصلحة المحتملة تکفی إن کان هناک ما یدعو إلى التخوف من إلحاق الضرر بذوی الشأن، کما یجوز الادعاء بحق مؤجل على أن یراعى الأجل عند الحکم به.
هذه الشروط وإن کانت تعد المرتکزات الرئیسیة لقبول الدعوى، إلا أنها لا تتمتع بنفس القوة والأهمیة فی نظر الفقهاء، حیث ذهب جانب من الفقه إلى القول بأن الشروط اللازمة لقبول الدعوى ابتداءاً أمام القضاء تنحصر فی أمور ثلاثة: أولها: المصلحة، وثانیها: الصفة، وثالثها: الأهلیة. بینما ذهب جانب آخر إلى أن الشرطین الأساسیین لقبول الدعوى هما المصلحة والصفة.
إلا أن جمهور الفقه یرى أن المصلحة هی الشرط الوحید لقبول الدعوى، فالأهلیة – فی نظرهم – شرط لصحة مباشرة الإجراءات أمام القضاء ولیست شرطاً لقبول الدعوى، والدلیل على رأیهم، أن الدعوى تظل مقبولة حتى ولو فقد رافعها أهلیته أثناء سیرها، وإنما تنقطع الدعوى إلى أن یستأنف السیر فیها من یقوم مقامه.
إن الشروط التی أوردها الفقه – باستثناء الأهلیة – شروط متداخلة لا تعدو أن تکون وجهات نظر مختلفة لشیء واحد، فمن یرى أن المصلحة هی الشرط الوحید لقبول الدعوى، اشترط أن تکون المصلحة قانونیة، أی تستند إلى حق أو مرکز قانونی، وهو ما یعادل فی نظر البعض شرط وجود الحق، وأن تکون المصلحة قائمة بمعنى أن یکون الاعتداء قد وقع بالفعل على الحق المراد حمایته وهو ما یعادل عند البعض شرط وقوع الاعتداء على الحق، وأن تکون المصلحة شخصیة ومباشرة، بمعنى أن تحمی الدعوى حق رافعها أو من ینوب عنه وهو ما یعادل عند البعض شرط الصفة.
ویبدو أن رأی الجمهور قد تماشى مع موقف المشرع المصری الذی أفرد نصاً رئیسیاً – وکما سبق ذکره – أجمل فیه ما رأى أنه جدیر بالذکر من هذه الشروط، والذی یرى فی المصلحة الشرط الوحید لقبول الدعوى.
وإن تشعبت الآراء حول الشروط العامة لقبول الدعوى، إلا أنها تبقى ضروریة فی کل دعوى بحیث إن تخلفت هذه الشروط، فإن المحکمة تقضی بعدم قبول الدعوى دون حاجة لبحث مضمونها، فقبول الدعوى خطوة سابقة على الفصل فی موضوعها.
فتخلف هذه الشروط یفتح الباب أمام المدعى علیه فی إمکانیة التمسک بالدفع بعدم قبول الدعوى، وقد اعتبر المشرع العراقی شرط الصفة (الخصومة) من قبیل المسائل المتعلقة بالنظام العام، وأوجب على المحکمة رد الدعوى دون الدخول فی أساسها إذا کانت الخصومة غیر متوجهة کما أجاز للخصم أن یبدی هذا الدفع فی أیة حالة تکون علیها الدعوى.
وفی قرار لمحکمة النقض المصریة "لما کان الوزیر هو صاحب الصفة فی تمثیل وزارته فإنه لا یترتب على محکمة الاستئناف عدم استجابتها لطلب فتح باب المرافعة لإدخال هیئة الأوقاف خصماً فی الدعوى بعد استخلاصها السائغ بأن هیئة الأوقاف طبقاً لقانون إنشائها إنما تتولى إدارة الأوقاف والقیام على شؤونها نیابةً عن وزارة الأوقاف وأن اختصام الأصل جائز وصحیح ولا محل من بعد لاختصام النائب".
یتضح مما تقدم، أن الدفع بعدم القبول ینصب أساساً على الشروط العامة للدعوى، والتی تمثل الخصائص الإیجابیة التی یتطلبها القانون فی الدعوى من أجل قبولها والفصل فی موضوعها، وتعبر جمیعها عن المصلحة فی الدعوى.
الفرع الثانی
الدفع بعدم القبول لانتفاء الشروط الخاصة للدعوى
الشروط الخاصة للدعوى، هی تلک الشروط التی یتطلب القانون توافرها فی دعاوى معینة دون غیرها، وهی شروط تتعلق فی الغالب بمواعید حددها القانون، بمعنى أن تلک الدعاوى لکی تکون مقبولة لابد وأن ترفع فی المدة المحددة، وعند عدم تقید المدعی بتلک المواعید، عندها یحق للمدعى علیه إثارة الدفع بعدم قبول تلک الدعوى من أجل ردها شکلاً، فالدعوى هنا لا تقبل إذا رفعت قبل هذا المیعاد أو بعدها حتى ولو کانت شروط قبول الدعوى الأخرى متوافرة.
والأمثلة على هذه الدعاوى عدیدة، نذکر من أهمها دعوى استرداد الحیازة، حیث اشترط المشرعإقامتها خلال سنة من تاریخ الانتزاع، وإلا ردت الدعوى شکلاً، فدعوى الاسترداد هی دعوى یقیمها المدعی الذی نزع منه العقار الحائز فعلاً على المدعى علیه الذی سلب الحیازة بنفسه أو بواسطة الغیر، وسواء کان المدعى علیه هو المالک للعقار أو من الغیر.
والحکمة من رفع دعوى الحیازة خلال سنة من تاریخ فقدها، هی حث الحائر على المبادرة بدفع الاعتداء الواقع على حیازته، لأن الحیازة مرکز واقعی یتأثر بالاعتبارات الواقعیة، فإذا مضت أکثر من سنة على سلب الحیازة، فإن المشرع یفترض أن الحائز المغتصب أصبح إزاء الحائز الأول المهمل أولى واقعیاً بالرعایة.
ومن الأمثلة الأخرى بهذا الصدد، هو عدم سماع دعوى ضمان العیب إذا انقضت ستة أشهر من وقت تسلم المبیع، حیث نصت الفقرة الأولى من المادة (570) من القانون المدنی العراقی على أنه "لا تسمع دعوى ضمان العیب إذا انقضت ستة أشهر من وقت تسلم المبیع، حتى لو لم یکتشف المشتری العیب إلا بعد ذلک ما لم یقبل البائع أن یلتزم بالضمان لمدة أطول".
ففی الأمثلة السابقة، یثار الدفع بعدم قبول الدعوى بمناسبة عدم احترام المدعی للمواعید المقررة لصحة الدعوى، مما یدل على عدم فعالیة وسیلة المدعی فی المطالبة بالحقوق، فدفاع المدعى علیه لا یوجه إلى الشروط العامة لقبول الدعوى، بل یترکز على إخفاق المدعی فی رفع دعواه فی اللحظة المناسبة، مما یجعلها غیر جدیرة بالحمایة والاهتمام.
الفرع الثالث
الدفع بعدم القبول لوجود موانع للدعوى (الشروط السلبیة للدعوى)
الشروط السلبیة للدعوى، هی ما یرتب القانون على تحققها عدم قبول الدعوى، فهی حالات تمنع المحکمة من قبول الدعوى، ومن ثم تحکم بردها دون الخوض فی تفاصیلها.
ومن أهم هذه الموانع، هو سبق صدور حکم فی موضوع الدعوى، إذ یعد هذا الشرط تطبیقاً لمبدأ حجیة الشیء المحکوم به، والمنصوص علیه فی المادة (105) من قانون الإثبات حیث جاء فی هذه المادة "الأحکام الصادرة من المحاکم العراقیة التی حازت درجة البتات تکون حجة بما فصلت فیه من الحقوق إذا اتحد أطراف الدعوى ولم تتغیر صفاتهم وتعلق النزاع بذات الحق محلاً وسبباً" فلا یجوز للمحکمة أن تفصل فی نزاع سبق أن تم الفصل فیه، فلا یجوز رفع الدعوى إلا مرة واحدة، فإذا أقیمت الدعوى مجدداً بشأن ذات الحق، کان للطرف الآخر أن یدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فیها.
وتطبیقاً لذلک جاء فی قرار لمحکمة التمییز العراقیة "إذا کان المدعی سبق له وأقام الدعوى بنفس السبب الذی أقام به دعواه الثانیة، وکانت الدعوى الأولى قد ردت وصدق قرار الرد تمییزاً، فیکون هذا القرار حجة بالحقوق التی فصل فیها لاتحاد أطراف الدعوى وتعلق النزاع بذات الحق محلاً وسبباً، کما تقضی بذلک المادة (105) من قانون الإثبات وعلى محکمة الموضوع فی هذه الحالة عدم الخوض فی الدعوى الثانیة، وعدم قبول أی دلیل ینقض حجیة الأحکام الباته". وقد جعل قانون الإثبات حجیة الأحکام من القرائن القانونیة القاطعة المتعلقة بالنظام العام. وهو من الدفوع التی یجوز إثارتها فی أیة مرحلة من مراحل نظر الدعوى حتى أمام المحکمة المختصة بنظر الطعن تمییزاً.
من الصور الأخرى لموانع النظر فی الدعوى، أو الشروط السلبیة للدعوى هو وجود اتفاق بین الخصوم على التحکیم فی موضوع النزاع.
فالاتفاق على التحکیم وإن کان لا ینزع الاختصاص من المحکمة، إلا أنه یمنعها من سماع الدعوى مادام شرط التحکیم قائماً، فالخصم بهذا الاتفاق إنما یتنازل عن الالتجاء إلى القضاء لحمایة حقه، وبالتالی یکون الدفع بالاعتداد بشرط التحکیم من قبیل الدفوع بعدم قبول الدعوى، لأن الخصم ینکر به سلطة خصمه فی الالتجاء إلى القضاء العادی للذود عن الحق.
فلا یجوز للخصوم الذین اتفقوا على التحکیم رفع الدعوى بالنزاع إلا بعد اللجوء إلى التحکیم حسب الاتفاق الذی تم بینهم، فإذا لجأ أحد الخصوم إلى إقامة الدعوى قبل اللجوء إلى التحکیم ولم یعترض الطرف الآخر فی الجلسة الأولى التی جرت المرافعة فیها على السیر فی الدعوى، تمضی المحکمة فی نظر الدعوى، ویعتبر عقد التحکیم لاغیاً، أما إذا اعترض وطلب إنفاذ عقد التحکیم على النزاع فتستجیب المحکمة إلى طلبه وتشیر إلى المدعی باستنفاذ طریق التحکیم وتعتبر الدعوى مستأخرة حتى صدور قرار التحکیم.
وقد جاء فی قرار لمحکمة النقض المصریة "ولما کان الطاعنون قد لجأوا ابتداءاً إلى القضاء وأقاموا دعواهم طالبین الحکم بإلزام المطعون علیهم بتعویضهم عن حرمانهم من إتمام المبنى المتفق علیه بالعقد موضوع الدعوى المتضمن شرط التحکیم وتعرضوا لموضوع الدعوى الأخرى التی أقامها ضدهم المطعون علیهم دون التمسک بهذا الشرط إلا فی مذکرة لهم أمام محکمة الاستئناف مما یفید تسلیمهم بقیام النزاع أمام محکمة مختصة ومواجهتهم موضوع الدعوى وبذلک یکونون قد تنازلوا ضمناً عن التمسک بشرط التحکیم مما یسقط حقهم فیه".
وما دمنا فی معرض الشروط السلبیة للدعوى، فلا یفوتنا الإشارة إلى صورة أخرى من صور هذه الموانع التی تمنع النظر ومن ثم عدم قبول الدعوى ألا وهی وجود اتفاق بین الخصوم على الصلح فی النزاع، فالصلح، عقد یرفع النزاع ویقطع الخصومة، وبالتالی إذا اتفق الخصوم على الصلح، فلا تکون هناک دعوى لحمایتها، غیر أنه إذا ثار خلاف بصدد تفسیر الصلح، فمن الجائز أن ترفع دعوى بطلب تفسیره وتحدید حقوق أطرافه، وقد أجازت المادة (709) من القانون المدنی العراقی على رفع دعوى المطالبة ببدل الصلح
المبحث الثانی
أحکام الدفع بعدم القبول وآثارها
لم یرد فی قانون المرافعات العراقی نصوصاً دقیقة بشأن قواعد الدفع بعدم القبول، من حیث مدى اعتبار التکلم فی الموضوع نزولاً عن الحق فی إبداء هذا الدفع، وهل یتوجب على المحکمة أن تقضی من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعوى؟ کما لم تعالج النصوص القانونیة مدى استنفاذ محاکم الدرجة الأولى لولایتها عند قبول الدفع بعدم القبول.
فضلاً عن ذلک لم یوضح المشرع العراقی کیفیة الفصل فی الدفع بعدم القبول، فهل یتم الفصل فیه بصورة مستقلة عن الموضوع، أم یتوجب علیها الحکم فی الدفع والموضوع معاً؟
إن الحکم بصحة الدفع بعدم القبول یترتب علیها جملة آثار، لکون هذا الدفع من الإجراءات القضائیة إذ یعد الإجراء القضائی مسلکاً إیجابیاً ویکون جزءاً من الخصومة، ویرتب المشرع علیه الآثار القانونیة بما یخدم عملیة نظر الدعوى.
ومن أجل الإحاطة بما تقدم، سیتم تقسیم هذا المبحث إلى المطلبین الآتیین:
المطلب الأول : أحکام الدفع بعدم القبول.
المطلب الثانی : الآثار المترتبة على الحکم بصحة الدفع بعدم القبول.
المطلب الأول
أحکام الدفع بعدم القبول
سیتم التطرق فی هذا المطلب إلى أهم القواعد التی تحکم الدفع بعدم القبول، والتی تمنح هذا الدفع خصوصیة تمیزه عن باقی الدفوع وإن کانت بعض هذه القواعد تلتقی بتلک الدفوع، کذلک سنلقی الضوء على کیفیة الفصل فی هذا الدفع من قبل المحاکم، وذلک من خلال الفرعین الآتیین:
الفرع الأول : قواعد الدفع بعدم القبول.
الفرع الثانی : کیفیة الفصل فی الدفع بعدم القبول.
الفرع الأول
قواعد الدفع بعدم القبول
تبدو أهمیة قواعد الدفع بعدم القبول، من کونها المحاور الرئیسة لهذا الدفع والتی من خلالها یتمیز هذا الدفع عن الدفوع الأخرى، ومن أهم القواعد القانونیة التی تحکم هذا الدفع:
أولاً : وقت إثارة الدفع بعدم القبول
أجازت التشریعات المقارنةللخصم إبداء الدفع بعدم القبول فی أیة حالة تکون علیها الدعوى، بمعنى أنه لا یسقط الحق فی إبدائه بالکلام فی الموضوع، بل یجوز أن یبدیه الخصم فی أیة مرحلة تکون علیها الإجراءات، کما أنه لا یلزم تقدیم الدفوع بعدم القبول معاً، وإنما یعامل معاملة الدفوع الموضوعیة.
ولا ترجع علة هذه القاعدة إلى أن الدفع بعدم القبول یعد من الدفوع المتعلقة بالنظام العام – وإن کانت أکثر صور هذا الدفع متعلقة به – بل أن الأمر یتوقف على سبب عدم القبول، وهل هو مخالف لقاعدة مقررة لحمایة مصلحة خاصة أو قاعدة من قواعد النظام العام.
فإن کان سببه یتعلق بالمصلحة العامة، مثل عدم قبول الدعوى لعدم توجه الخصومه، فإن الدفع عندها یکون متعلقاً بالنظام العام، وتطبیقاً لذلک جاء فی قرار لمحکمة استئناف بغداد بصفتها التمییزیة "أن محکمة الموضوع قررت إجراء الکشف على وفق الطلب رغم دفع المطلوب الکشف ضده بعدم توجه الخصومه، وحیث أن الخصومة فی الدعوى تختص المحکمة بالتحقیق فیها ولو من تلقاء نفسها لأنها من النظام العام استناداً إلى أحکام المادة (80/1) من قانون المرافعات المدنیة ومما ینطبق على الدعوى فی هذا الخصوص یسری على الطلبات المتعلقة بالقضاء المستعجل (المادة 150 من قانون المرافعات المدنیة) فکان على المحکمة قبل اتخاذ أی إجراء التحقق من الخصومة فی طلب الکشف المستعجل ومعرفة الخصم الحقیقی لإجراء الکشف لمواجهته حفاظاً على حقوقه وحقوق طالب الکشف، علیه وحیث أن المحکمة سارت بخلاف ذلک قرر نقض قرارها بعدم الاستجابة لطلب التأکد من الخصومه".
أما إذا کان سبب الدفع بعدم القبول یتعلق بالمصلحة الخاصة، مثل عدم قبول دعوى الدائن على الکفیل قبل رجوعه على المدین، کان الدفع متعلقاً بالمصلحة الخاصة.
تجدر الإشارة بهذا الصدد، أن الدفع بعدم القبول یتفق مع الدفوع الموضوعیة من کون الدفعین من الجائز إبداؤها فی أیة حالة تکون علیها الدعوى.
إن قاعدة جواز إبداء الدفع بعدم قبول الدعوى فی أیة حالة تکون علیها الإجراءات إنما ترجع إلى طبیعة هذا الدفع، فبما أن موضوع هذا الدفع هو نفی حق الدعوى لعدم توافر شرط من شروطه، وبما أن حق الدعوى هو حق الحصول على حکم فی الموضوع، فإن العبرة فی وجوده لا تکون بتوافر شروطه عند رفع الدعوى وإنما وقت الحکم فی الموضوع، ولذا یکون من المنطق تمکین الخصم من التمسک بتخلف هذه الشروط فی أیة مرحلة قبل الحکم فی الموضوع.
ولعل من یتساءل عن دور المحکمة فی إثارة هذا الدفع؟ للإجابة عن هذا التساؤل لابد من الإشارة إلى أن مبدأ حیاد القاضی یمنع على المحکمة تدخلها فی الدعوى لکونها تمس حقوقاً خاصة، فکما لا یجوز الحکم للمدعی بشیء دون طلب منه، فکذلک لا یجوز للمحکمة إثارة الدفع بعدم القبول من تلقاء نفسها. إلا أن سلطة المحکمة فی إثارة هذا الدفع یختلف باختلاف طبیعة هذا الدفع، ومدى تعلقه بالنظام العام من عدمه، فإن تعلق بالنظام العام کان على المحکمة إثارة الدفع من تلقاء نفسها، وتتفق الدفوع بعدم القبول مع الدفوع الشکلیة المطلقة (أی المتعلقة بالنظام العام) لأن الدفع بعدم القبول یتصل بالغالب بقاعدة قانونیة تتعلق بالنظام العام، کما هی الدفوع الشکلیة المتعلقة بالاختصاص الوظیفی والنوعی، الأمر الذی یحتم على المحکمة إثارتها من تلقاء نفسها.
وقد یسیء الخصم استعمال الدفع بعدم القبول من خلال تأخره فی إبداء هذا الدفع فی وقت مبکر، بقصد المماطلة والتأخر فی حسم الدعوى فی وقت قصیر نسبیاً، ومن ثم یتمسک بهذا الدفع فی وقت متأخر، مستفیداً من طبیعة هذا الدفع، الأمر الذی یقضی معه على الجهد المبذول من قبل المحکمة، فضلاً عما یلحق الخصم الآخر من ضرر، وإزاء هذه الحالة نقترح على المشرع العراقی التعامل بصرامة مع الخصم المتعسف فی استعمال الدفع بعدم القبول، من خلال النص على منح القاضی سلطة تقدیریة فی عدم سماع الدفع التعسفی، والحکم على مثیره بالجزاءات المناسبة.
علیه نقترح النص الآتی:
"1. للمحکمة ولو من تلقاء نفسها أن تحکم بعدم سماع الدفع بعدم القبول متى ما کان مبنیاً على أسباب غیر جدیة، أو کان الخصم قد أثار هذا الدفع بقصد المماطلة وإطالة أمد الدعوى.
2. للخصم المتضرر من الدفع التعسفی المطالبة بالتعویض عما لحقه من خسارة وما فاته من کسب وذلک بعریضة یقدمها إلى المحکمة المختصة مع الاحتفاظ بحقه فی المطالبة بالمصاریف التی أنفقها بذلک الشأن".
ثانیاً : حجیة الحکم الصادر فی الدفع بعدم القبول
إذا کان الحکم الصادر بقبول الدفع الموضوعی یترتب علیه عدم جواز تجدید الدعوى، إذ یحوز حجیة الشیء المحکوم به، وإذا کان الحکم الصادر بقبول الدفع الشکلی یمثل عائقاً مؤقتاً للدعوى، بحیث یقتصر أثره على إلغاء إجراءات الدعوى، إذ یجوز لصاحب المصلحة تجدید الدعوى ما لم یکن حقه قد سقط لسبب من أسباب السقوط، إلا أن الحکم الصادر بقبول الدفع بعدم القبول یتمیز عن الدفوع الأخرى، من حیث عدم إمکانیة وضع حکم عام یتعلق بأثره.
فأحیاناً یترتب على الحکم بقبوله عدم جواز تجدید الدعوى، کما هو الحال بالنسبة للدفع بسقوط الحق فی رفع دعوى الحیازة بالنسبة لمن بادر برفع دعوى المطالبة بالحق، وأحیاناً أخرى یقتصر أثر الحکم بعدم القبول على إلغاء إجراءات الدعوى ویکون من الممکن تجدیدها، کما لو رفعت الدعوى قبل أوانها أو مناسبتها.
إذن لا یحوز الحکم فی الدفع بعدم القبول – کقاعدة عامة - حجیة الشیء المقضی فیه، لأن هذه الحجیة إنما تترتب على القضاء الموضوعی، أی على الأحکام الفاصلة فی الموضوع، أما الحکم بعدم القبول فلا یعد قضاء موضوعیاً، لأنه لا یفصل فی الموضوع، لذا لا یرتب حجیة الشیء المقضى فیه، وهکذا یجوز بعد الحکم عدم قبول الدعوى لانتفاء المصلحة، أن تقبل ذات الدعوى من جدید متى توافرت المصلحة.
ویتفق الدفع بعدم القبول مع الدفوع الشکلیة فی هذه المسألة، إذ لا یحوز الحکم الصادر فی کلا الدفعین حجیة الشیء المقضى فیه، فیجوز إقامة الدعوى وتجدیدها مرة ثانیة طالما لم یسبق الفصل فی موضوعها، وکان المانع مؤقتاً کأن تکون الدعوى غیر متوجهة، أما إذا کان أساس الدفع بعدم القبول مانعاً دائماً کالدفع بعدم قبول دعوى الحیازة لرفعها بعد سنة من التعرض، فإن الحکم الصادر بعدم القبول استناداً إلى سقوط الحق فی الدعوى سوف یمنع المحکمة من جواز تجدیدها مرة ثانیة.
تجدر الإشارة أن القضاء المصری – وکما سبق بیانه – متأثر بالفکرة القائلة بضرورة إدماج الدفع بعدم القبول مع الدفع الموضوعی، بحیث تطبق علیه أحکام الأخیر، حتى فیما یتعلق بحجیة الحکم الصادر فی الدفع بعدم القبول، حیث جاء فی قرار لمحکمة النقض المصریة "الدفع بعدم القبول لانعدام صفة المدعی – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحکمة- هو دفع موضوعی یقصد به الرد على الدعوى برمتها ویترتب على قبوله أن یخسر المدعی دعواه بحیث لا یستطیع العودة إلیها".
وفی الوقت الذی نکن کل الاحترام للقضاء المصری، إلا أننا لا نجد ما یبرر موقفه بخصوص إلحاق الدفع بعدم القبول بالدفع الموضوعی.
فاتجاه القضاء المصری – باعتقادنا – محل نظر، والدلیل على رأینا أن التشریعات - ومنها المصری – یمیز الدفع بعدم القبول عن غیره من الدفوع الموضوعیة، ویفرد له نصوصاً خاصة به مما یعنی استقلالیته عنها.
ثالثاً : مدى استنفاذ المحکمة لولایتها عند الحکم فی الدفع بعدم القبول
یتجه القضاء المصری – وکما سبق ذکره – یؤیده بعض الفقهاء إلى عد الحکم فی الدفع بعدم القبول کالحکم فی الدفع الموضوعی، فإذا قضت المحکمة بقبوله فإنها تستنفذ ولایتها فی الفصل فی موضوع الدعوى، بحیث یطرح الاستئناف المرفوع عن هذا الحکم الدعوى برمتها على المحکمة الاستئنافیة، فلا یجوز للمحکمة الاستئنافیة إذا ما ألغت الحکم، أن تعید الدعوى إلى محکمة الدرجة الأولى لنظر موضوعها.
ویؤکد هذا الاتجاه، أن هذا الإجراء لا یعد إخلالاً بحق التقاضی على درجتین، ولو أن المحکمة الاستئنافیة تنظر الموضوع فی هذه الحالة لأول مرة فی الواقع، أی أن الموضوع لا یبحث أمام القضاء إلا مرة واحدة، وذلک على أساس أن الدفع بعدم القبول دفع موضوعی، والحکم فیه حکم فی الموضوع یستنفذ سلطة المحکمة التی أصدرته بالنسبة للموضوع.
إلا أن جمهور الفقه ینتقد بحق – ونحن معه – اتجاه القضاء وموقف الفقه السابقین، على أساس أن الحکم الصادر بقبول الدفع لا یعد حکماً فاصلاً فی موضوع الدعوى، ومن ثم فإنه لا یجوز للمحکمة الاستئنافیة أن تفصل فی الموضوع إذا ما ألغت حکم محکمة الدرجة الأولى، وإنما یتعین علیها أن تعید إلیها الدعوى لتنظر فی موضوعها، والقول بغیر ذلک معناه أن تفصل المحکمة الاستئنافیة فی موضوع لم یسبق الفصل فیه من محکمة الدرجة الأولى، الأمر الذی یفوت على الخصوم درجة من درجات التقاضی.
الفرع الثانی
کیفیة الفصل فی الدفع بعدم القبول
لم ینص المشرع العراقی على کیفیة الفصل فی الدفع بعدم القبول على عکس الدفوع الشکلیة حیث أفاض المشرع فی إجراءات الدفع الشکلی ونظم له أحکاماً خاصة فی کیفیة النظر ومن ثم الفصل فیه.
إن سکوت المشرع العراقی بهذا الصدد، لا یعنی بالضرورة ضم هذا الدفع إلى الموضوع ومن ثم الفصل فیه مع الموضوع، وإنما یجب على المحکمة أن تفصل فیه – کقاعدة عامة – على وجه الاستقلال قبل الفصل فی موضوع الدعوى، لأنه یثیر مسألة أولیة سابقة على الفصل فی الموضوع، وهی مسألة قبول الدعوى.
وقد یغنی الحکم فی هذا الدفع عن الاستمرار فی نظر موضوع الدعوى، وإذا رأت المحکمة ضرورة ضم الدفع إلى الموضوع، فیجب علیها أن تنبه الخصوم إلى ذلک، حتى یمکنهم التقدم بدفاعهم ودفوعهم الموضوعیة، کما یجب علیها أن تبین فی حکمها ما فصلت فیه فی کل من الدفع والموضوع وتسبب کل منهما.
وإزاء هذا النقص التشریعی فی کیفیة الفصل فی هذا الدفع، نقترح على المشرع العراقی إیراد النص الآتی
"1- تفصل المحکمة المنظورة أمامها الدعوى فی الدفع بعدم القبول أولاً من أجل عدم التعرض للموضوع إن هی أجابت المتمسک بالدفع إلى ادعائه.
2- وإذا تعذر على المحکمة الحکم فی الدفع بعدم القبول على وجه الاستقلال، لوجود ارتباط بین الدفع والموضوع، عندها تحکم فیهما بقرار واحد، شرط أن تبین فیه حکمها ما فصلت فیه من الدفع والموضوع".
ویجوز إبداء هذا الدفع – کغیره من الدفوع – شفاهه سواء فی حضور الخصم الآخر أو فی غیبته، ویجوز أن یبدی کتابةً.
إن الحکم فی موضوع الدعوى دون التعرض للدفع یعد من جانب المحکمة قضاءً ضمنیاً برفض الدفع بعدم القبول، إلا أن التعرض للموضوع من جانب الخصم الذی دفع بعدم القبول لا یعد رضاءً ضمنیاً عن الحکم الصادر برفض الدفع، فیجوز له بعد صدور الحکم فی الموضوع أن یطعن فی الحکم الأول. فضلاً عما تقدم، فإن الحکم بعدم قبول الدعوى برمتها یقبل الطعن فوراً لأنها قرارات تنتهی بها الدعوى، على عکس القرارات التی تصدر أثناء سیر المرافعة حیث لا یجوز الطعن فیها إلا بعد صدور الحکم الحاسم للدعوى.
وإذا قضت المحکمة بعدم قبول بعض الطلبات وقبول الطلبات الأخرى، فإن هذا الحکم لا یقبل الطعن إلا بعد صدور الحکم فی کل الدعوى.
إن الدفع بعدم القبول بوصفه إجراءاً قضائیاً صارماً، لابد وأن یحرص المشرع على تلطیف تأثیره على الدعوى، بحیث لا یکون سیفاً مسلطاً بید المدعى علیه یستعمله کیفما شاء، وبعبارة أخرى إمکانیة زواله بتصحیح الإجراء المعیب، من هنا نقترح إیراد النص الآتی "لا یحکم بعدم قبول الدعوى إذا زال سبب عدم قبولها، وذلک فی الأحوال التی یجوز فیها تصحیح شکل الدعوى".
إن إیراد هکذا نصوص کفیل بتحقیق موازنة عادلة وبالشکل الذی یضمن المصلحة العامة وبالمقابل لا یؤدی إلى التفریط بأصل الحق المتنازع علیه.
المطلب الثانی
الآثار المترتبة على الحکم بصحة الدفع بعدم القبول
إن إثارة الدفع بعدم قبول الدعوى أمام المحکمة یعنی توقع أحد احتمالین، الأول، قبول الدعوى (أی عدم صحة الدفع) الثانی، عدم قبول الدعوى (بمعنى صحة الدفع)، ففی الاحتمال الأول لا یکون الدفع المقدم من المدعى علیه منتجاً، أی أن الدفع المقدم غیر صحیح لکون الدعوى مستوفیة لکافة شرائطها القانونیة، ففی هذه الحالة تستمر المحکمة فی نظر الدعوى وصولاً إلى إصدار الحکم فیها.
أما الاحتمال الثانی – وهو ما یتعلق بصلب الموضوع – فهو الحکم بصحة الدفع المقدم من المدعى علیه بعدم قبول الدعوى، ففی هذه الحالة تترتب آثاراً محددة تنعکس مباشرةً على سیر الدعوى، وهو ما سیتم بحثه فی الفرعین الآتیین:
الفرع الأول : زوال الإجراءات والآثار المترتبة على إقامة الدعوى.
الفرع الثانی : منع المحکمة من الفصل فی موضوع الدعوى.
الفرع الأول
زوال الإجراءات والآثار المترتبة على إقامة الدعوى
إن الحکم بقبول الدفع یترتب علیها زوال الإجراءات المتخذة فی الدعوى، فالدعوى بوصفها إجراءاً قضائیاً لا تعد منتجة ما لم تباشر وفق الأسس الصحیحة، وفی مقدمتها ضرورة توافر الشروط المحددة لقبولها، فضلاً عن إقامتها فی المواعید المقررة، وبخلاف ذلک لا تعد الدعوى مقبولة، وغیر جدیرة بالحمایة.
والإجراءات الأکثر عرضة للزوال فی هذا الصدد، هی الإجراءات التنظیمیة المتعلقة بالدعوى، خصوصاً إجراءات التبلیغ، والمواعید المقررة من قبل المحکمة، فضلاً عن عریضة الدعوى نفسها. ویورد اتجاه فی الفقه استثناءاً من هذه الإجراءات القابلة للزوال إعمالاً لمبدأ الاقتصاد فی الإجراءات، فهناک أعمال تبقى رغم زوال الدعوى، مثال ذلک الأحکام القطعیة الصادرة فی الدعوى، والأعمال الإجرائیة السابقة علیه والتی یعتمد علیها الحکم، فضلاً عن الإقرارات الصادرة من الخصوم والإیمان التی حلفوها، کما تبقى إجراءات التحقیق وأعمال الخبرة التی تمت، فهذه الإجراءات أو الأعمال یمکن التمسک بها فی الدعوى الجدیدة ما لم تکن فی ذاتها باطلة.
کما تبقى الأعمال والإجراءات الممهدة للدعوى، کما فی حالة أعذار المدین أو توکیل محام، أو الأذن الذی یحصل علیه القاصر بالتقاضی إذا جرت قبل إقامة الدعوى على أنه إذا تمسک الخصم بهذه الأعمال والإجراءات بعد إقامة الدعوى، فإن تلک الأعمال تعد إجراءات قضائیة، ومن ثم تکون عرضة للزوال إذا ما تم الحکم بقبول الدفع المذکور. إن زوال إجراءات الدعوى – بسبب الحکم بصحة الدفع بعدم القبول – یعنی عودة الخصوم إلى الحالة التی کانوا علیها قبیل رفع الدعوى، وکأنها لم ترفع قط.
فإن أراد المدعی تجدید أدعائه، تحتم علیه رفع دعواه من جدید، مع مراعاة کافة الشروط اللازمة وبما یجعلها مقبولة وجدیرة بحمایة القضاء.
وإذا کان الحکم بصحة الدفع بعدم قبول الدعوى یعنی زوال إجراءاتها، واعتبارها کأن لم ترفع أساساً، فإن هذا یعنی عدم ترتب أی آثار علیها، بمعنى زوال الآثار المترتبة على قیام الدعوى عموماً.
ومن أهم هذه الآثار، هی قیام حالة النزاع القضائی بین الخصوم، حیث یترتب على تقدیم عریضة الدعوى أمام المحکمة نشوء حالة قانونیة لم تکن موجودة ألا وهی قیام حالة النزاع، إذ تلتزم المحکمة بضرورة الفصل فی عریضة الدعوى وعدم التأخر فیها. أما فی حالة عدم قبول الدعوى، فلا یکون هناک نزاعاً بالمعنى الفنی، لکون عریضة الدعوى ردت أصلاً، ومن ثم عاد الخصوم إلى مرحلة ما قبل رفع الدعوى (أی مرحلة ما قبل النزاع).
علیه یمکن الاستنتاج – بمفهوم المخالفة – بأن القاضی لا یعد ممتنعاً عن إحقاق الحق بسبب تأخره فی إصدار الحکم، لکون الدعوى غیر قائمة أصلاً.
کما لا یعد الحق متنازعاً فیه ومن ثم لا توجد أیة موانع تمنع القضاة من التعامل فی تلک الحقوق کشرائها مثلاً کله أو بعضه.
وإذا لم تکن ثمة قیود تمنع من التعامل فی تلک الحقوق فی هذه الفرضیة إلا أننا نعتقد بضرورة الابتعاد عن تلک المعاملات، إذ من شأنها جلب الشبهات على عمل القضاة، کما قد یکون عدم قبول الدعوى لسبب عارض، فإذا مازال سبب عدم قبول الدعوى، جاز للمدعی تجدید مطالبته، الأمر الذی ینهض معه النزاع، وبالتالی تصبح تلک الحقوق متنازع علیها، ومن ثم لا یجوز التعامل فیها وفقاً للقواعد العامة.
کما أن الحکم بقبول الدفع، یعنی زوال الأثر المترتب على قطع مدة التقادم، فلا یعد رفع الدعوى قاطعاً لمدة سقوط الحق بالتقادم، کما إذا حکم بعدم القبول لرفع الدعوى من غیر ذی صفة أو على غیر ذی صفة، فالحکم بصحة الدفع بعدم القبول مؤداه زوال هذا التقادم، أی أن الدعوى تعتبر وکأنها لم ترتب أی أثر فی هذا التقادم، فلا یحصل أی انقطاع فیه، ولا تبدأ أیة مدة جدیدة، وکأن التقادم لم ینقطع.
تجدر الإشارة، أن التقادم فی التشریع العراقی لا یعد من النظام العام، فلا یجوز للمحکمة أن تمتنع من تلقاء نفسها من سماع الدعوى لمرور الزمان، بل یجب أن یکون ذلک بناءً على طلب المدین أو بناءً على طلب دائنیه أو أی شخص آخر له مصلحة فی هذا الدفع ولو لم یتمسک به المدین.
إن المطالبة القضائیة وإن کانت تعد بدایة لسریان الفوائد القانونیة، کما نصت على ذلک المادة (171) من القانون المدنی العراقی بقولها "إذ کان محل الالتزام مبلغاً من النقود وکان معلوم المقدار وقت نشوء الالتزام، وتأخر المدین فی الوفاء به کان ملزماً أن یدفع للدائن على سبیل التعویض عن التأخیر، فوائد قانونیة قدرها أربعة فی المائة فی المسائل المدنیة وخمسة فی المائة فی المسائل التجاریة. وتسری هذه الفوائد من تاریخ المطالبة القضائیة بها، إن لم یحدد الاتفاق أو العرف التجاری تاریخاً آخر لسریانها وهذا کله ما لم ینص القانون على غیره".
إلا أن صدور حکم بعدم قبول الطلب القضائی یعنی عدم وجود مطالبة قضائیة ومن ثم لا یمکن القول بسریان الفوائد القانونیة، فإن کان الطلب القضائی یعد تاریخاً لسریان الفوائد، فلا وجود لهذا الطلب أصلاً، لکونه افتقد – ومنذ بدایته – لشرط ضروری من شروط قبوله.
إن هذا الافتقاد تم التأکد منه بصدور الحکم بعدم القبول، وتم التأکد أیضاً من أن المدعی لیس له أی حق فی طلب الحمایة القضائیة، وبناءً على ذلک، فبالحکم بعدم القبول یترتب على ذلک زوال الدعوى بکافة إجراءاتها وآثارها، ومن ثم عودة الخصوم إلى الحالة التی کانوا علیها قبل رفع الطلب القضائی.
الفرع الثانی
منع المحکمة من الفصل فی موضوع الدعوى
الأصل أن المحاکم – وکقاعدة عامة – هی صاحبة الاختصاص فی نظر الدعاوى کافة بما لها من ولایة عامة فی ذلک، إذ تنص المادة (29) من قانون المرافعات العراقی على أنه "تسری ولایة المحاکم المدنیة على جمیع الأشخاص الطبیعیة والمعنویة بما فی ذلک الحکومة وتختص بالفصل فی کافة المنازعات إلا ما استثنی بنص خاص".
کما نصت المادة (30) من القانون المذکور على أنه "لا یجوز لأیة محکمة أن تمتنع عن الحکم بحجة غموض القانون أو فقدان النص أو نقصه وإلا عد القاضی ممتنعاً عن إحقاق الحق...".
یمکن – ومن خلال هذه النصوص – معرفة الواجب الأساسی الملقى على عاتق المحکمة ویتمثل بالفصل فی المنازعات المعروضة علیها، وبخلافه تکون قد ارتکبت خطأً قانونیاً یوجب مساءلتها، فالامتناع عن الفصل فی الدعاوى، یعنی أن القاضی قد امتنع عن إحقاق الحق، هذه الحالة – إن حدثت – تبرر للخصوم إمکانیة مساءلة القاضی من خلال تقدیم الشکوى ضده.
إلا أن امتناع المحکمة من الفصل فی الدعوى قد یکون سببه المشرع نفسه کما فی حالة الحکم بصحة الدفع بعدم القبول، إذ یترتب على قبول هذا الدفع منع المحکمة من الفصل فی موضوع الدعوى، وهذا المنع قد یکون نهائیاً، أی لا تجوز إعادة الدعوى أمام المحکمة مجدداً، وقد یکون المنع من نظر الدعوى – للحکم بعدم قبولها – منعاً مؤقتاً، وکما سیأتی بیانه:
أولاً: منع المحکمة من الفصل فی موضوع الدعوى بشکل نهائی
إذا کان الدفع بعدم القبول مبنیاً على سقوط الحق فی استعمال الدعوى، فهذا یعنی منع المحکمة من الفصل فی موضوع الدعوى بشکل نهائی، أی لا تجوز إعادة الدعوى أمام المحکمة وإلا دفع بسبق الفصل فیها.
إن أساس منع المحکمة من الفصل فی الدعوى فی هذه الحالة، ترجع إلى أن الحکم بقبول الدفع یحوز حجیة الشیء المقضی فیه، وبالتالی لا یجوز رفع هذه الدعوى مرة ثانیة.
والأمثلة على هذه الحالة عدیدة، لعل من أبرزها الدفع بعدم قبول دعوى الحیازة لرفعها بعد سنة من تاریخ التعرض، کذلک الدفع بعدم قبول الطعن لرفعه بعد المیعاد، إذ تعد مواعید الطعن حتمیة یترتب على عدم مراعاتها وتجاوزها سقوط الحق فی الطعن. ومن الأمثلة الأخرى لهذه الحالة، الدفع بعدم قبول الدعوى لانقضاء الدین بالتقادم.
تجدر الإشارة، أنه کلما تناولت المدة حقاً من الحقوق، وأدت إلى انقضائه، عد الدفع الموجه من الخصم بزوال الدعوى التی تکفل حمایة الحق من الدفوع بعدم القبول، وذلک على تقدیر أن الحق بانقضاء المیعاد المحدد لاستعماله، تزول عنه حمایة القانون. والقاعدة أن للخصم التمسک بسقوط الحق فی أیة حالة تکون علیها الدعوى، ولو بعد التعرض للموضوع، ما لم ینص القانون على خلاف ذلک.
حیث قضت محکمة النقض المصریة فی قرار لها بأن "الدفع بعدم قبول المعارضة شکلاً لرفعها بعد المیعاد لیس من أوجه البطلان أو الدفوع التی یسقط الحق فی إبدائها إذا أغفل الخصم التمسک بها فی صحیفة الطعن أو تحدث فی الموضوع قبل التمسک بها، بل هو دفع بعدم قبول الدعوى، یجوز إبداؤها فی أیة حالة تکون علیها الدعوى".
وطبقاً للقواعد العامة، فإن المحکمة لا تقضی بالسقوط من تلقاء نفسها ما لم یکن جزاءاً على مخالفة قاعدة متعلقة بالنظام العام.
ثانیاً: منع المحکمة من الفصل فی موضوع الدعوى بشکل مؤقت
یکون المنع من نظر الدعوى، للحکم بعدم قبولها منعاً مؤقتاً، إذا کان الدفع بعدم القبول مبنی على عدم توافر الشروط اللازمة للالتجاء إلى القضاء. ففی هذه الحالة یقتصر أثر الحکم بعدم القبول على إلغاء إجراءات الدعوى، ویکون من الممکن تجدیدها مرة ثانیة، طالما لم یسبق الفصل فی موضوعها.
ومن صور هذه الحالة، رفع الدعوى قبل أوانها أو مناسبتها، أو حالة عدم توجه الدعوى، أو کون المصلحة غیر قائمة.
من هنا تظهر الطبیعة المتمیزة التی یتسم بها الدفع بعدم القبول، فتارةً یقترب من الدفوع الموضوعیة عندما یترتب على الحکم بقبوله عدم جواز تجدید الدعوى، أی یکون هناک مانعاً دائماً یمنع المحکمة من الفصل فی الدعوى، لکون الحکم الصادر بعدم القبول مستنداً إلى سقوط الحق فی الدعوى.
وتارةً أخرى یقترب هذا الدفع من الدفوع الشکلیة، عندما یقتصر أثره على إلغاء إجراءات الدعوى، دون الخوض فی المضمون، فهنا یکون المانع من نظر الدعوى مؤقتاً، إذ یزول سببه عندما یصحح الخصم من مسار دعواه، وبالشکل الذی یجعلها مستوفیة لکافة شرائطها القانونیة، ومن ثم تکون مقبولة لدى القضاء.
الخاتمة :
تتناول الخاتمة أهم النتائج التی تم التوصل إلیها، والمقترحات التی نأمل أن تؤخذ بعین الاعتبار، وکما یأتی بیانه:
أولاً: النتائج :
1.إن الدفع بعدم القبول، هی وسیلة دفاع یرمی إلى إنکار وجود الدعوى أساساً، من خلال التمسک بعدم توافر شرط من شروط الدعوى، سواء کانت شروطها العامة أو الخاصة، الإیجابیة أو السلبیة.
2.یسلب الدفع بعدم القبول سلطة المدعی فی استعمال الدعوى، کون هذه السلطة لم تباشر وفق الشکل المحدد له، ومن ثم أصبحت وسیلة المدعی (الدعوى) غیر قادرة للمطالبة بالحقوق.
3.غموض هذا الدفع، وعدم وضوح معالمه، أدى إلى حصول اضطراب فی بیان طبیعته القانونیة لدى الفقهاء، الأمر الذی دفع بالفقه التقلیدی إلى ضرورة إلغاء الدفع بعدم القبول، لما یحیط به من مشاکل، وإدماجه داخل طائفة الدفوع الشکلیة.
إلا أن فلسفة هذا الاتجاه لم یلق التأیید من قبل أنصار الاتجاه الحدیث، الذین یرون أن إدماج هذا الدفع ضمن طائفة الدفوع الشکلیة، یعد مصادرة على المطلوب، والحل الأنسب – فی نظرهم – إجراء تفرقة دقیقة داخل الدفوع بعدم القبول، فما اتصل من هذه الدفوع بالإجراءات، سمی بالدفوع بعدم القبول المتعلقة بالإجراءات، وما تعلق بالموضوع من هذه الدفوع، سمی بالدفوع بعدم القبول المتعلقة بالموضوع.
4.إن الرأی المستقر علیه لدى أغلب الفقهاء، یعد الدفع بعدم القبول دفعاً مستقلاً وقائماً بذاته، ولا یؤثر فیه وجود بعض ملامح التشابه ما بین أحکامه وأحکام الدفوع الأخرى، فهذا الدفع یشکل نوعاً ثالثاً من الدفوع یقع فی مرحلة وسطى ما بین الدفوع الشکلیة والموضوعیة.
5.إذا کانت التشریعات قد أجازت للخصم إبداء الدفع بعدم القبول فی أیة حالة تکون علیها الدعوى، إلا أن هذا لا یعنی أن هذا الدفع یعد من قبیل الدفوع المتعلقة بالنظام العام، بل أن الأمر یتوقف على سبب عدم القبول، وهل هو مخالف لقاعدة مقررة لحمایة مصلحة خاصة، أو قاعدة من قواعد النظام العام.
6.إن الحکم الصادر بقبول هذا الدفع یتمیز عن الدفوع الأخرى من حیث عدم إمکانیة وضع حکم عام یتعلق بأثره، فأحیاناً یترتب على الحکم بقبوله عدم جواز تجدید الدعوى، وأحیاناً أخرى یقتصر أثر الحکم بعدم القبول على إلغاء إجراءات الدعوى ویکون من الممکن تجدیدها.
7.یعد الحکم فی موضوع الدعوى دون التعرض للدفع من جانب المحکمة قضاءاً ضمنیاً برفض الدفع بعدم القبول، إلا أن التعرض للموضوع من جانب الخصم الذی دفع بعدم القبول لا یعد رضاءاً ضمنیاً عن الحکم الصادر برفض الدفع.
ثانیاً: المقترحات :
1.لم یشر المشرع العراقی إلى تسمیة الدفع بعدم القبول فی قانون المرافعات بصریح العبارة، على عکس التشریعات المقارنة، وإنما اکتفى بالنص على صورة من صور هذا الدفع، وهی حالة عدم توجه الخصومة، إن هذا الموقف لا یتناسب مطلقاً مع الأهمیة التی یحتلها هذا الدفع والخلاف الحاصل بشأنه.
من هنا نقترح على المشرع العراقی إعادة النظر فی موقفه هذا، وإعطاء الموضوع الأهمیة التی یحتلها، من خلال بیان مفهوم هذا الدفع بشکل واضح والابتعاد عن النصوص المقتضبة والتی لا توضح معالمه بکافة تفاصیله من أحکام وآثار.
2.قد یسیء الخصم استعمال الدفع بعدم القبول، من خلال تأخره فی إبداء هذا الدفع فی وقت مبکر بقصد المماطلة والتأخر فی حسم الدعوى فی وقت قصیر نسبیاً، ومن ثم یتمسک بهذا الدفع فی وقت متأخر، مستفیداً من طبیعة هذا الدفع الأمر الذی یقضی معه على الجهد المبذول من قبل المحکمة، فضلاً عما یلحق الخصم الآخر من ضرر.
إزاء هذه الحالة نقترح على المشرع العراقی التعامل بصرامة مع الخصم المتعسف فی استعمال هذا الدفع، من خلال النص على ما یأتی:
"1- للمحکمة ولو من تلقاء نفسها، أن تحکم بعدم سماع الدفع بعدم القبول متى ما کان مبنیاً على أسباب غیر جدیة، أو کان الخصم قد أثار هذا الدفع بقصد المماطلة، وإطالة أمد الدعوى.
2- للخصم المتضرر من الدفع التعسفی المطالبة بالتعویض عما لحقه من خسارة وما فاته من کسب وذلک بتقدیمه عریضة إلى المحکمة المختصة مع الاحتفاظ بحقه فی المطالبة بالمصاریف التی أنفقها بذلک الشأن".
3.لم ینص المشرع العراقی على کیفیة الفصل فی الدفع بعدم القبول، على عکس الدفوع الشکلیة، حیث أفاض المشرع فی بیان إجراءات الدفع الشکلی، ونظم له أحکاماً خاصة فی کیفیة النظر ومن ثم الفصل فیه.
وأمام هذا النقص التشریعی فی کیفیة الفصل فی هذا الدفع، نقترح على المشرع العراقی إیراد النص الآتی:
"1- تفصل المحکمة المنظورة أمامها الدعوى فی الدفع بعدم القبول أولاً من أجل عدم التعرض للموضوع إن هی أجابت المتمسک بالدفع إلى ادعائه.
2- وإذا تعذر على المحکمة الحکم فی الدفع بعدم القبول على وجه الاستقلال، لوجود ارتباط بین الدفع والموضوع، عندها تحکم فیهما بقرار واحد، شرط أن تبین فی حکمها ما فصلت فیه من الدفع والموضوع".
4.ضرورة أن یحرص المشرع على تلطیف تأثیر الدفع بعدم القبول على الدعوى، بحیث لا یکون سیفاً مسلطاً بید المدعى علیه یستعمله کیفما یشاء، وبعبارة أخرى إمکانیة زوال هذا الدفع بتصحیح الإجراء المعیب.
من هنا نقترح ضرورة إیراد النص الآتی "لا یحکم بعدم قبول الدعوى إذا زال سبب عدم قبولها، وذلک فی الأحوال التی یجوز فیها تصحیح شکل الدعوى".
The Author declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English)
First: Legal books:
1. Dr. Ahmed Abu Al-Wafa - Theory of defenses in the law of pleadings - I 8 - Knowledge facility - Alexandria - 1988.
2. Dr. Ahmed Al-Sayed Sawi - Waseet in explaining the law of civil and commercial proceedings - Dar al-Nahda Arab - Cairo - 1981.
3. Dr. Ahmed Muslim - The Origins of Pleading - Arab Thought House - Cairo - No Publication Year.
4. Dr. Adam Wahib al-Nadawi - civil proceedings - printed University of Baghdad - 1988.
5. Dr. Amina Al-Nemer - The Principles of Civil Trials - University House - Beirut - No Publication Year.
6. Dr. Abbass Al-Aboudi - Explanation of the provisions of the Civil Procedure Law - Printing University of Mosul - 2000.
7. Dr. Abbass Al-Aboudi - Explanation of the provisions of the Iraqi Law of Evidence - I 2 - Printing University of Mosul - 1997.
8. Dr. Abdul Basset Ghali - Principles of Procedure - Arab Thought House - Cairo - 1980.
9. Dr. Abdel-Moneim El-Sharkawy, Dr. Fathi Wali, Civil Proceedings, First Book, Arab Renaissance House, Cairo, 1977.
10. Dr. Faris Ali Omar - The Fall of the Right to Initiate Judicial Proceedings - Comparative Study - Research published in Al-Rafidain Journal of Law - Issue (25) Volume (17).
11. Dr. Fathi Wali - Mediator in the Civil Judiciary Law, Dar Al-Nahda Al-Arabiya, Cairo, 1987.
12. Dr. Mohamed Mahmoud Ibrahim - Al-Wajiz in the pleadings - Arab Thought House - Cairo - 1983.
13. Dr. Mahmoud Mohamed Hashem - Civil Judiciary Law - C 2 - Dar Al-Fikr Al Arabi - Cairo - No publication year.
14. Medhat Al-Mahmoud - Explanation of the law of civil procedures and practical applications - I 1 - Baghdad - 2005.
15. Dr. Nabeel Ismail Omar - Payment of non-acceptance and its legal system - I 1 - Knowledge facility - Alexandria - 1981.
16. Hisham Taweel - Payment of non-acceptance of the lawsuit - Establishment Knowledge - Alexandria - No year published.
17. Dr. Wagdy Ragheb - Principles of Civil Civilizations - 1 - Arab Thought House - Cairo - 1978.
Second: Laws:
1. Egyptian Civil Law No. 131 of 1948.
2. Iraqi Civil Code No. 40 of 1951.
3. Egyptian Civil and Commercial Procedures Law No. 13 of 1968.
4. Iraqi Civil Procedure Law No. 83 of 1969.
5. The French Civil Procedure Act 1975.
6. Iraqi Evidence Law No. 107 of 1979.
7. Lebanese Civil Procedure Law No. 90 of 1983.