الملخص
إن حیاة الدول لا تسیر على وتیرة واحدة بل تتخللها بین الحین والآخر صور مختلفة من الظروف الاستثنائیة تهدد کیانها ووجودها تهدیداً خطیراً. فالنظام القانونی المطبق فی الظروف العادیة الذی تحکم به الدولة فی أوضاعها وظروفها العادیة قد یعجز فی أثناء الأزمات عن ضبط أمور الدولة وتقدیم الحمایة اللازمة لاستمرار کیان الدولة واستقرارها، لذلک فقد وجدت نظریة الظروف الاستثنائیة لتواجه تلک الظروف الشاذة فی حیاة الدولة التی تهدد کیانها وأمنها. ویترتب على هذه النظریة تخویل السلطة التنفیذیة اتخاذ کل الإجراءات والتدابیر اللازمة للإبقاء على الدولة وإعلاء سلامتها مهما تضمنت من اعتداء على الحریات والحقوق العامة، وقد یؤدی هذا الأمر إلى الانحراف فی استعمال هذه السلطة، والخروج عن الأهداف التی ینشدها إعلان حالة الظروف الاستثنائیة، وعدم مراعاة الضمانات الموضوعة للحریات فی هذه الظروف.
الكلمات الرئيسة
الموضوعات
أصل المقالة
الظروف الاستثنائیة وأثرها فی الحریات الشخصیة
Exceptional circumstances and their impact on personal freedoms
حارث أدیب إبراهیم کلیة القانون/ جامعة الموصل Harith Adeeb Ibrahim College of law / University of Mosul Correspondence: Harith Adeeb Ibrahim E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 9/7/2006 *** قبل للنشر فی 16/1/2007.
(*) Received on 9/7/2006 *** accepted for publishing on 16/1/2007.
Doi: 10.33899/alaw.2007.160515
© Authors, 2007, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
مقدمة:
إن حیاة الدول لا تسیر على وتیرة واحدة بل تتخللها بین الحین والآخر صور مختلفة من الظروف الاستثنائیة تهدد کیانها ووجودها تهدیداً خطیراً. فالنظام القانونی المطبق فی الظروف العادیة الذی تحکم به الدولة فی أوضاعها وظروفها العادیة قد یعجز فی أثناء الأزمات عن ضبط أمور الدولة وتقدیم الحمایة اللازمة لاستمرار کیان الدولة واستقرارها، لذلک فقد وجدت نظریة الظروف الاستثنائیة لتواجه تلک الظروف الشاذة فی حیاة الدولة التی تهدد کیانها وأمنها. ویترتب على هذه النظریة تخویل السلطة التنفیذیة اتخاذ کل الإجراءات والتدابیر اللازمة للإبقاء على الدولة وإعلاء سلامتها مهما تضمنت من اعتداء على الحریات والحقوق العامة، وقد یؤدی هذا الأمر إلى الانحراف فی استعمال هذه السلطة، والخروج عن الأهداف التی ینشدها إعلان حالة الظروف الاستثنائیة، وعدم مراعاة الضمانات الموضوعة للحریات فی هذه الظروف.
وانطلاقا من نظریة الظروف الاستثنائیة فقد أصدر مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء مجتمعین فی العراق فی السادس من تموز 2004 قانونا للطوارئ تحت اسم (قانون الدفاع عن السلامة الوطنیة) إذ جاء فی الأسباب الموجبة له أنه صدر (للظروف الأمنیة الخطیرة .. وضرورة التصدی الحازم للإرهابیین والعابثین بالقانون).
ومن المعروف أن هناک علاقة عکسیة بین الحریات والأمن، فکلما کانت التشریعات منصبة باتجاه تعزیز الأمن فإن ذلک یکون على حساب الحد من الحریات، ولهذا یجب عدم التوسع فی استخدام الذریعة الأمنیة، إذ إن کبت الحریات سرعان ما سیتحول فی ذاته إلى عنصر مقلق للأمن قد لا یکون أقل خطرا من الانفلات والحریة المطلقة.
إن من أهم الحریات التی غالبا ما تقید عند إعلان حالة الطوارئ هی الحریات الشخصیة بمختلف صورها، لذلک فإن بحثنا سیقتصر اهتمامه على هذا النوع من الحریات ومدى تأثره بحالة الطوارئ من خلال مقارنة تأثیرات قوانین دول محددة فی حالات الطوارئ على هذا النوع من الحقوق مع الحالة الموجودة حالیا فی العراق فی ظل قانون الدفاع عن السلامة الوطنیة المعمول به حالیا فی العراق.
وکذلک ما حصل من انتهاکات عدیدة للحریات الشخصیة فی العراق فی الآونة الأخیرة فی ظل هذا القانون وخاصة الاعتقالات والتوقیفات التعسفیة التی تعرض لها المواطنون العراقیون على أیدی أجهزة وزارتی الداخلیة والدفاع العراقیتین، وکذلک التعدی على الحق فی الکرامة والسلامة البدنیة والذهنیة وأکثر من ذلک التعدی على الحق فی الحیاة. کل ذلک تحت غطاء قانون الدفاع عن السلامة الوطنیة. ولیس أدل على ذلک ما نشرته المنظمة الإسلامیة لحقوق الإنسان فی تقریرها رقم (12) لسنة 2005 حول انتهاکات أجهزة الأمن العراقیة لحقوق الإنسان فی الموصل. کل ذلک وغیره دفعنا الى البحث فی مدى تأثیر الظروف الاستثنائیة فی الحریات الشخصیة للإنسان.
وبما أن إعلان حالة الظروف الاستثنائیة یترتب علیه فرض قیود جدیدة على الحریات الشخصیة لم تکن موجودة فی الظروف العادیة، لذلک کان لابد من التعرف على أشکال هذه القیود، على النحو الآتی:
المطلب الأول: ماهیة الظروف الاستثنائیة والأساس الذی ترتکز علیه.
المطلب الثانی: أثر الظروف الاستثنائیة فی الحریات الشخصیة.
المطلب الأول
ماهیة الظروف الاستثنائیة والأساس الذی ترتکز علیه
إن وجود حالة الظروف الاستثنائیة فی دولة ما یترتب علیه تخویل السلطة التنفیذیة اتخاذ کل الإجراءات والتدابیر اللازمة للإبقاء على الدولة وإعلاء سلامتها مهما تضمنت من اعتداء على الحریات والحقوق العامة. وتعطیل أو إلغاء مؤسسات دستوریة، ومنظمات مهمة لحیاة الناس فی الظروف الاعتیادیة.
وبالنظر لخطورة هذه الحالة والنتائج التی تترتب علیها، فقد حاول الفقهاء تعریفها بشکل دقیق، وبیان الأساس الذی تستند الیه من أجل تسویغ قیامها. ومن أجل ذلک قمنا بتناول بعض ما قیل بصددها من تعریفات، ومن ثم بیان الأساس الذی استُنِد إلیه لتسویغ وجودها وذلک على النحو الآتی:
الفرع الأول: ماهیة الظروف الاستثنائیة.
الفرع الثانی: أساس نظریة الظروف الاستثنائیة.
الفرع الأول
ماهیة الظروف الاستثنائیة
لقد تعددت الآراء بشأن بیان ماهیة الظروف الاستثنائیة، ولسنا هنا بصدد استعراض هذه الآراء وبیان حججهم وأدلتهم وردودهم ولذلک سنحاول الاکتفاء بسرد قسم من هذه التعاریف لنظریة الظروف الاستثنائیة من خلال تعریف هذه النظریة من ثلاثة مستویات فقهاً وقضاءً وقانوناً.
أولاً: التعریف الفقهی:
عرف البعض الظروف الاستثنائیة بأنها: (الحالة التی تتحقق إذا قامت ضرورة تحتم قیام السلطة الإداریة بالخروج على حکم الدستور أو حکم القانون، وذلک عن طریق ممارسة بعض الإجراءات الخطیرة الماسة بالحریات العامة. وکانت القواعد القانونیة المتبعة فی ظل الظروف العادیة عاجزة عن تمکین السلطة الإداریة عن مواجهة الظروف الاستثنائیة).
ومن أهم أشکال الظروف الاستثنائیة هی حالة الطوارئ أو نظام الطوارئ إذ عرفت عدة تعریفات فمن الفقهاء من یعرفها بأنها: (نظام استثنائی شرطی مسوغ بفکرة الخطر المحیق بالکیان الوطنی) . ویضیف البعض إلى هذا التعریف: (یسوغ اتخاذه تدابیر قانونیة مخصصة لحمایة البلاد کلاً أو جزءاً ضد الأخطار الناجمة عن عدوان مسلح داخلی أو خارجی، یمکن التوصل إلى إقامته بنقل صلاحیات السلطة المدنیة إلى السلطات العسکریة). ومنهم من یعرفها بأنها: (تدبیر قانونی مخصص لحمایة کل أو بعض أجزاء البلاد ضد الأخطار الناجمة عن عدوان مسلح). والبعض الآخر یعرف هذا النظام: (بأنه الحالة التی بواسطتها تنتقل صلاحیات السلطة المدنیة إلى السلطة العسکریة). وفی تعریف أخیر لهذه الحالة: (إنها نظام قانونی یتقرر بمقتضى قوانین دستوریة عاجلة لحمایة المصالح الوطنیة، ولا یلجأ إلیها إلا بصفة استثنائیة ومؤقتة لمواجهة الظروف الطارئة التی تقصر عنها الأداة الشرعیة، وتنتهی بانتهاء مسوغاتها).
وفی تقدیرنا أن التعریف الأخیر هو الأفضل وهو الذی نرجحه وهو الذی نرجحه من بین هذه التعاریف التی أوردت لکونه یحدد حقیقة هذه الظروف والمقدار الذی لا یجوز تجاوزه عند الأخذ بها.
ثانیاً: التعریف القضائی:
یمکننا أن نستنتج التعریف القضائی للظروف الاستثنائیة من خلال تعریف المحکمة الإداریة العلیا فی مصر للظروف الاستثنائیة، إذ وصفتها بأنها: (الظروف التی تقتضی توسعاً فی سلطات الإدارة وتقییداً فی الحریات الفردیة، ومن ذلک حالة تهدید سلامة البلاد إثر وقوع حرب أو التهدید بخطر الحرب أو اضطراب الأمن أو حدوث فیضان أو وباء أو کوارث. وفی مثل هذه الحالة تعلن الدولة الأحکام العرفیة وهی نظام استثنائی خطیر یوقف الحریات الفردیة ویعطل الضمانات الدستوریة المقررة لها. وتسوغه نظریة الضرورة وتقتضی منح الحکومة سلطات واسعة لمواجهة الظروف الطارئة ابتغاء المحافظة على سلامة الدولة) (956، 965 – 5 [14/ 4/ 1962]).
ثالثاً: التعریف القانونی:
یمکننا من خلال الإطلاع على المادة (16) من الدستور الفرنسی الحالی أخذ فکرة عن تعریف الظروف الاستثنائیة وما یترتب علیها من نتائج. فالظروف الاستثنائیة – حسب هذه المادة – هی الحالة التی تصبح فیها مؤسسات الجمهوریة أو استقلال الوطن أو سلامة أراضیه أو تنفیذ تعهداته الدولیة مهددة على نحو جسیم وحال وأدى ذلک إلى انقطاع السیر المنتظم للسلطات الدستوریة العامة.
وینتج عن إعلان هذه الحالة – حسب رأی الدکتور محمد سعید المجذوب – توسیع صلاحیات رئیس الجمهوریة بحیث یکون من حقه اتخاذ جمیع الإجراءات التی تفرضها هذه الظروف فی کل مجالات الحیاة الوطنیة بما فیها مجال الحریات العامة بحیث تعلق الضمانات التی یوفرها تدخل السلطة التشریعیة وتتوسع بشکل غیر محدود سلطات الضبط الإداری، وتباح الإجراءات التی تناقض القانون بحق الأفراد، وتضیق صلاحیات القضاء العادی لمصلحة القضاء الاستثنائی.
الفرع الثانی
أساس نظریة الظروف الاستثنائیة
تباینت الآراء التی قیلت بشأن أساس نظریة الظروف الاستثنائیة مثلما اختلفت بخصوص نشأتها، وربما یرجع السبب إلى حداثة تطبیق هذه النظریة فی التشریعات الوضعیة المعاصرة واختلاطها بغیرها من النظریات، کنظریة السلطة التقدیریة ونظریة أعمال السیادة.
ویمکننا أن نقسم أساس الظروف الاستثنائیة على أساس فلسفی وآخر دستوری وثالث دولی وسنتناولها تباعاً کما یأتی:
أولاً: الأساس الفلسفی:
تتطلب الظروف الاستثنائیة شرعیة متلائمة معها وتکون مرتکزة على نظریة (الضرورة)، على اعتبارها نظریة عامة فی القانون، وتجیز التصرف بأسلوب یستبعد القواعد الواجب اتباعها فی الظروف العادیة، بقدر ما تتطلبه هذه الضرورة.
ویرجع إلى مجلس الدولة الفرنسی تحدید الأساس الفلسفی للظروف الاستثنائیة، عندما قرر إبان الحرب العالمیة الأولى أن (الضرورة) المستمدة من ظروف الحرب تسمح للسلطة الإداریة باتخاذ قرارات مخالفة للقانون الذی ینظم الظروف العادیة. وقد صدر بناء على موقف مجلس الدولة الفرنسی قانون فی 31/ 7/ 1938م بشأن تنظیم الدفاع الوطنی، ویمنح الحکومة سلطات واسعة تقید ضمنیاً أغلب الحریات العامة. وأثناء الحرب العالمیة الثانیة طبق مجلس الدولة نظریته السابقة ثم صاغ نظریة عامة للظروف الاستثنائیة أسسها على فکرة (الضرورة) وأکد من خلالها حق السلطة التنفیذیة باتخاذ بعض التدابیر الاستثنائیة فی هذه الظروف إذ تعد هذه التدابیر غیر مشروعة فی معیار القواعد العامة التی تحکم الظروف العادیة متى ثبت أن اتخاذ هذه التدابیر أمر لازم لحمایة النظام العام وتحقیق الأمن العام.
إن نظریة الظروف الاستثنائیة لا تستبعد مبدأ المشروعیة بصفة مطلقة وإنما تمیز بین المشروعیة فی الظروف العادیة والمشروعیة فی الظروف الاستثنائیة. فالسلطة التنفیذیة ملزمة باحترام مبدأ المشروعیة فی حالة الظروف الاستثنائیة ولکن هذه المبدأ یأخذ معنى جدیداً. ویخضع تقدیر الظروف لمعرفة ما إذا کانت استثنائیة أم لا لرقابة القضاء الإداری.
وواضح مما تقدم، أن الأساس الفلسفی للظروف الاستثنائیة یستند إلى حالة (الضرورة) وبموجب هذه الحالة یحدد القانون السلطات الاستثنائیة التی یمنحها للسلطة التنفیذیة، وبقدرها یتم تحدید هذه السلطات الاستثنائیة ونطاقها.
ثانیاً: الأساس الدستوری:
إذا کانت نظریة الضرورة أساساً فلسفیاً لتسویغ سلطات الإدارة فی الظروف الاستثنائیة، فإن ذلک وحده لا یکفی ما لم تسمح الشرعیة الدستوریة بهذا الاستثناء. وإذا کان أساس هذا الاستثناء هو الموازنة بین مقتضیات حمایة النظام العام، وحمایة الحقوق والحریات، فإن هذه الموازنة نفسها هی أساس الشرعیة الدستوریة فی الظروف العادیة، ولا یختلف الأمر عنه فی الظروف الاستثنائیة إلا فی الانحیاز نحو حمایة النظام العام نظراً لما یتهدده من أخطار فی الظروف الاستثنائیة، وهذا الانحیاز لا یتحقق فی الظروف العادیة لأن النظام العام لا یتعرض للخطر نفسه الذی یمکن أن یتعرض له فی الظروف الاستثنائیة، ومن ثم فإن تحقیق الموازنة بین المصلحة العامة والحریات العامة یکون معیاراً موحداً للشرعیة الدستوریة فی کل من الظروف العادیة والاستثنائیة، ویکون الاختلاف فی شکل هذه الموازنة تقدیراً للظروف الاستثنائیة التی تفرض تحدیات معینة على المصلحة العامة.
وقد ظلت نظریة مجلس الدولة الفرنسی بخصوص الظروف الاستثنائیة هی الأساس الوحید فی تبریر شرعیة التدابیر الاستثنائیة التی تتخذها السلطة التنفیذیة فی حالة الحرب أو الکوارث أو الأزمات الوطنیة إلى حین صدور نصوص دستوریة فی دول عدیدة تخول جهات معینة کرئیس الجمهوریة سلطات اتخاذ التدابیر اللازمة لمواجه الأزمة الوطنیة التی تمر بها البلاد، وذلک بعد توافر شروط معینة وباتخاذ إجراءات محددة فی هذه النصوص.
ففی العراق نجد أن الدستور العراقی الحالی الذی تم الاستفتاء علیه فی 15 تشرین الأول 2005 قد تطرق للکلام عن الظروف الاستثنائیة فی حالتی إعلان الحرب والطوارئ فی معرض کلامه عن اختصاصات السلطة التشریعیة فی المادة (58) منه حیث نصت الفقرة تاسعا على:
(ب ـ تُعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثین یوماً قابلة للتمدید، وبموافقةٍ علیها فی کل مرة.
جـ ـ یخول رئیس مجلس الوزراء الصلاحیات اللازمة التی تمکنه من إدارة شؤون البلاد خلال مدة إعلان الحرب وحالة الطوارئ، وتنظم هذه الصلاحیات بقانونٍ، بما لا یتعارض مع الدستور.
د ـ یعرض رئیس مجلس الوزراء على مجلس النواب الإجراءات المتخذة والنتائج، خلال مدة إعلان الحرب وحالة الطوارئ، خلال خمسة عشر یوماً من تاریخ انتهائها)
أما فی مصر فیمکن أن تجد أساسا لهذه النظریة فی المادة (74) من الدستور المصری لعام 1971م، إذ تنص على أنه: (لرئیس الجمهوریة إذا قام خطر یهدد الوحدة الوطنیة أو سلامة الوطن أو یعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوری، أن یتخذ الإجراءات السریعة لمواجهة هذا الخطر، ویوجه بیاناً إلى الشعب، ویجری الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستین یوماً من اتخاذها).
کما أن هناک مواد أخرى فی هذا الدستور یمکن وصفها بأنها تطبیقات لنظریة الظروف الاستثنائیة مثل المادة (108) التی أعطت لرئیس الجمهوریة عند الضرورة وفی الأحوال الاستثنائیة، وبناء على تفویض من مجلس الشعب بأغلبیة ثلثی أعضائه الحق فی أن یصدر قرارات لها قوة القانون، ویجب أن یکون التفویض لمدة محدودة وأن تبین فیه موضوعات هذه القرارات والأسس التی تقوم علیها، ویجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب فی أول جلسة بعد انتهاء مدة التفویض، فإذا لم تعرض أو عرضت ولم یوافق المجلس علیها زال ما کان لها من قوة القانون. وکذلک المادة (148) من الدستور نفسه إذ تتناول حالة الطوارئ بکل ما تخوله من صلاحیات استثنائیة واسعة طبقاً لقانون الطوارئ.
ومن أمثلة الدساتیر العربیة الأخرى نلاحظ المادة (124) من الدستور الأردنی لعام 1952م تنص على أنه: (إذا حدث ما یستدعی الدفاع عن الوطن فی حالة وقوع طوارئ فیصدر قانون باسم قانون الدفاع تعطى بموجبه الصلاحیة إلى الشخص الذی یعینه القانون لاتخاذ التدابیر والإجراءات الضروریة بما فی ذلک صلاحیة وقف قوانین الدولة العادیة لتأمین الدفاع عن الوطن ویکون قانون الدفاع نافذ المفعول عندما یعلن عن ذلک بإرادة ملکیة تصدر بناء على قرار من مجلس الوزراء). کما نصت المادة (125) من الدستور نفسه على أنه: (فی حالة حدوث طوارئ خطیرة یعد معها أن التدابیر والإجراءات بمقتضى المادة السابقة من هذا الدستور غیر کافیة للدفاع عن المملکة فللملک بناء على قرار مجلس الوزراء أن یعلن بإرادة ملکیة الأحکام العرفیة فی جمیع أنحاء المملکة أو فی أی جزء منها).
ویلاحظ من خلال هذین النصین أن الدستور الأردنی أوجد نوعین من الأعمال التشریعیة لمواجهة حالة الظروف الاستثنائیة هما إصدار قانون الدفاع وإعلان الأحکام العرفیة.
أما الدساتیر الأجنبیة فیمکننا ملاحظة المادة (16) من الدستور الفرنسی لعام 1958م إذ تقرر انه عندما تصبح مؤسسات الجمهوریة أو استقلال الوطن أو سلامة أراضیه أو تنفیذ تعهداته الدولیة مهددة على نحو جسیم وحال وأدى ذلک إلى انقطاع السیر المنتظم للسلطات الدستوریة العامة، یتخذ رئیس الجمهوریة الإجراءات التی تتطلبها هذه الظروف بعد التشاور مع الوزیر الأول ورئیسی مجلسی البرلمان والمجلس الدستوری، ویوجه الرئیس إلى الشعب رسالة یخطره فیها بهذه الإجراءات ویجب أن تستهدف تمکین السلطات العامة الدستوریة من مباشرة مهامها فی اقرب وقت ممکن، ویجتمع البرلمان بقوة القانون ولا یجوز حل الجمعیة الوطنیة أثناء ممارسة هذه السلطات الاستثنائیة. کما نلاحظ المادة (36) من الدستور نفسه تشیر إلى صلاحیة مجلس الوزراء بإعلان الأحکام العرفیة، على ألا تتجاوز مدة اثنی عشر یوماً من دون تخویل من البرلمان .
کما نلاحظ أن الدستور الأمریکی هو الآخر قد أشار إلى حالة الظروف الاستثنائیة فی أکثر من مادة منه، کالفقرة الثانیة من المادة (1/ 9) التی تنص على أنه: (لن یوقف حق الحصول على الأمر القضائی بالتحقیق فی قانونیة سجن شخص معتقل إلا بقدر ما تتطلبه السلامة العامة فی حالات الثورة أو الغزو) .
ولم یخل الدستور السویسری – الصادر عام 1998 الذی دخل حیز النفاذ عام 2000 – من النص على مثل هذه الحالة، فقد جاء فی المادة (185) منه على أنه: (یمکن للمجلس الاتحادی استناداً على هذه المادة أن یصدر أوامر ویتخذ قرارات لمواجهة قلاقل حدثت أو قد تحدث مهددة للنظام العام أو للأمن الداخلی أو الخارجی. وتکون هذه الأوامر والقرارات ذات صلاحیة زمنیة محددة).
ونظراً إلى أن غالبیة النصوص الدستوریة المتعلقة بحالة الظروف الاستثنائیة قد خولت رئیس الدولة سلطة اتخاذ إجراءات معینة لمواجهة هذه الحالة، من ثم فإن نطاقها سیکون غیر محدود مما یؤدی إلى إطلاق هذا النطاق فی جمیع المجالات دون تحدید لمجال معین .
وربما کان من الأولى لو نصت الدساتیر على وجوب عرض إعلان حالة الطوارئ فوراً على السلطة التشریعیة – إلا إن کان البرلمان فی حالة عطلة – من أجل تقریر استمرارها أو تقییدها أو وضع أیة حدود لها، ولهذه السلطة أن تقرر إنهاء حالة الطوارئ أو الحد منها فی أی وقت.
کما نعتقد أنه من الواجب النص فی الدساتیر على الحریات التی یقید العمل بها عند إعلان حالة الطوارئ على سبیل الحصر، ویبقى ما عداها من الحریات قائماً لا یجوز المساس بها.
ثالثاً: الأساس الدولی:
یمکننا اکتشاف موقف القانون الدولی من نظریة الظروف الاستثنائیة من المادة (4/ 1) من الاتفاقیة الدولیة للحقوق المدنیة والسیاسیة، إذ نصت هذه المادة على أنه: (یجوز للدول الأطراف فی الاتفاقیة الحالیة فی أوقات الطوارئ العامة التی تتهدد حیاة الأمة، والتی یعلن عن وجودها بصفة رسمیة، أن تتخذ – فی أضیق الحدود التی یتطلبها الوضع – من الإجراءات ما یحلها من التزاماتها طبقاً للاتفاقیة الحالیة إلى المدى الذی تقتضیه بدقة متطلبات الوضع على ألا تتنافى هذه الإجراءات مع التزاماتها الأخرى بموجب القانون الدولی ودون أن تضمن تمییزاً على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدیانة أو الأصل الاجتماعی فقط).
ومن خلال نص هذه المادة نلاحظ أنها اشترطت عدة شروط لکی تتمکن الدولة الطرف فی الاتفاقیة أن تتحلل من التزاماتها وهذه الشروط هی:
والموقف نفسه نلاحظه فی بعض الاتفاقیات الإقلیمیة المعنیة بحقوق الإنسان، إذ نجد المادة (15/ 1) من الاتفاقیة الأوربیة لحقوق الإنسان تنص على أنه: (فی حالة الحرب أو الخطر العام الذی یهدد حیاة الأمة، یجوز لکل طرفٍ سامٍ متعاقد أن یتخذ تدابیر تخالف الالتزامات المنصوص علیها فی هذه الاتفاقیة فی أضیق الحدود التی یتطلبها الوضع وبشرط ألا تتناقض هذه التدابیر مع بقیة الالتزامات المنبثقة عن القانون الدولی) .
کما نصت المادة (4/ ب) من المیثاق العربی لحقوق الإنسان على أنه: (یجوز للدول الأطراف فی أوقات الطوارئ العامة التی تهدد حیاة الأمة أن تتخذ من الإجراءات ما یحلها من التزامها طبقاً لهذا المیثاق إلى المدى الضروری الذی تقتضیه بدقة متطلبات الوضع).
المطلب الثانی
أثر الظروف الاستثنائیة فی الحریات الشخصیة
إن وجود حالة الظروف الاستثنائیة قد تنتزع من الناس حقوقاً وحریات کانت لهم فی الظروف الاعتیادیة. من ذلک مثلاً فرض القیود على حریة الأشخاص فی الانتقال والمرور والتجوال والسفر إلى خارج القطر والعودة إلیه. وقد یتعرض الأشخاص للاعتقال والتفتیش، وکذلک تفتیش الأماکن. وإخلاء بعض الجهات وعزلها ومنع السفر منها وإلیها. وغیر ذلک من إجراءات تمس حریات الأفراد. کما أن وجود مثل هذه الحالة قد یوقف العمل بأحکام معینة من الدستور. وقد یعطل أو یلغی مؤسسات دستوریة، ومنظمات مهمة لحیاة الناس الاعتیادیة. وکلها بأوامر وقرارات تنظیمیة أو فردیة تصدرها السلطة القائمة بتنفیذ حالة الطوارئ .
لذلک فإننا سنتناول أثر هذه الظاهرة فی الحریات الشخصیة فی فرعین على النحو الآتی:
الفرع الأول: التدابیر الاستثنائیة المقیدة للحریات الشخصیة.
الفرع الثانی: وقف أو تعلیق النصوص الدستوریة المتعلقة بالحریات الشخصیة.
الفرع الأول
التدابیر الاستثنائیة المقیدة للحریات الشخصیة
یترتب على وقوع الظروف الاستثنائیة توافر حالة الضرورة التی تتیح للسلطة التنفیذیة أن تتخذ الإجراءات الاستثنائیة اللازمة لمواجهة هذه الظروف، مع مراعاة أن یکون ذلک بالقدر اللازم لمواجهتها، أی أن یتناسب الإجراء مع الظرف الاستثنائی. إذ تبرز الحاجة فی الظروف الاستثنائیة إلى تقیید ممارسة بعض الحریات ومنها الحریات الشخصیة.
وعلى هذا الأساس یکون من حق رئیس الدولة أن یقید بعض الحقوق التی أجاز الدستور تنظیمها بقانون، حیث یقوم رئیس الدولة بتنظیمها بقرارات لها قوة القانون.
وسنقوم فی هذا الفرع بالإشارة إلى بعض التدابیر التی تمارسها السلطة الإداریة فی حالة الظروف الاستثنائیة التی تقید من ممارسة الحریات الشخصیة، مع ملاحظة أنه لیس بالإمکان فرض قیود على جمیع هذه الحریات الشخصیة بسبب الظروف الاستثنائیة وإن کان بالإمکان تقییدها لأسباب أخرى مثل الحق فی الکرامة والسلامة البدنیة والذهنیة .
ولذلک فإننا سنحاول استعراض الحریات الشخصیة التی یمکن أن تتعرض ممارستها لبعض القیود بسبب الظروف الاستثنائیة:
أولاً: حق الأمن الفردی:
یعد حق الأمن الفردی من الحریات الشخصیة المهمة التی حرصت دساتیر الدول على حمایتها وکفالتها إلا أن هذه الحریة لیست مطلقة إذ قد تتعرض لبعض القیود خصوصاً فی حالة الظروف الاستثنائیة التی قد تمر بها الدولة من أجل حمایة المصلحة العامة. فیجوز للسلطة التنفیذیة فی حالة الظروف الاستثنائیة أن تترخص فی استعمال سلطتها وأن تفرض قیوداً على حق الأمن الفردی، وأبرز هذه القیود هو الاعتقال الإداری وهو إجراء أو تدبیر استثنائی تقوم به سلطة الضبط الإداری بسبب وجود حالة واقعیة تهدد الأمن والنظام العام، وتبدو خطورته فی انه یترتب علیه المساس بالحریة الشخصیة على نحو یعطل الانتفاع بباقی الحریات الأخرى الشخصیة والعامة، فهو ینطوی فضلاً عن مساسه بعناصر الحریة الشخصیة على المساس بحق الإنسان فی التعبیر عن الرأی وعدم إمکان مباشرته لحقوقه السیاسیة والعامة، وقد ربط المشرع المصری الاعتقال بإعلان حالة الطوارئ، إذ لا یجوز الاعتقال بغیر إعلانها وسریانها.
إذ نجد المادة (3) من قانون الطوارئ المصری رقم 162 لسنة 1958م قد نصت على أن: (لرئیس الجمهوریة متى أعلنت حالة الطوارئ أن یتخذ بأمر کتابی أو شفوی التدابیر الآتیة: (1) وضع قیود على حریة الأشخاص فی الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور فی أماکن أو أوقات معینة والقبض على المشتبه فیهم أو الخطرین على الأمن والنظام العام واعتقالهم والترخیص فی تفتیش الأشخاص والأماکن دون تقید بأحکام قانون الإجراءات الجنائیة).
ونصت المادة (6) من نفس القانون على أنه: (یجوز القبض فی الحال على المخالفین للأوامر التی تصدر طبقاً لأحکام هذا القانون والجرائم المحددة فی هذه الأوامر).
أما فی العراق فقد خولت المادة (3) من قانون الدفاع عن السلامة الوطنیة رقم (1) لسنة 2004 رئیس الوزراء فی حالة الطوارئ وفی حدود منطقة إعلانها - بعد استحصال مذکرة قضائیة للتوقیف أو التفتیش إلا فی حالات ملحة للغایة - وضع قیود على حریة المواطنین أو الأجانب فی العراق، فی الجرائم المشهودة أو التهم الثابتة بأدلة أو قرائن کافیة فیما یخص الانتقال والتجوال والتجمع والتجمهر والمرور والسفر من وإلى العراق وحمل أو استخدام الأسلحة والذخائر والمواد الخطرة، ویمکن احتجاز المشتبه بسلوکهم وتفتیشهم أو تفتیش منازلهم وأماکن عملهم، ولرئیس الوزراء تخویل هذه الصلاحیات او غیرها الى من یختاره من قیادیین عسکریین أو مدنیین. وله توقیف المتهمین بهذه الجرائم ممن توافرت أدلة کافیة قانونا لاتهامه .
وعلى الرغم من کون هذه الصلاحیات لا تمنح لرئیس الوزراء إلا فی حالة الظروف الاستثنائیة، إلا أنه کان على المشرع العراقی أن یبین الأسباب التی تبیح لرئیس الوزراء استخدام هذه الصلاحیات ومن دون ذکرها ستصبح الحریة الشخصیة لجمیع الأفراد تحت رحمة شخص واحد.
ولم یقتصر الأمر على القوانین فی إعطاء السلطة التنفیذیة سلطة واسعة فی تقیید حق الأمن الفردی فی الظروف الاستثنائیة بل شمل أیضاً الأحکام والقرارات القضائیة، ففی حکم لمحکمة القضاء الإداری المصری جاء فیه أن لجهة الإدارة سلطة تقدیریة فی اختیار الأسباب التی تقیم علیها قراراتها ما لم یقیدها المشرع بتحدید سبب معین لإصدار القرار. وقرارات الاعتقال التی تصدر فی حالة الطوارئ مقصورة على المشتبه فیهم والخطرین على الأمن والنظام العام، ویجب أن یرتکب الشخص بشکل فعلی وشخصی أموراً من شأنها أن تعمه بهذا الوصف.
الأصل أنه لا یجوز وضع قیود على حرمة المسکن أشد من تلک القیود التشریعیة التی أحیط بها استعمالها إلا فی الظروف الاستثنائیة التی تسوغ الخروج عن قواعد المشروعیة العادیة. ولئن کانت الظروف الاستثنائیة تعزز من سلطات الضبط الإداری إلا أنه لا یترتب علیها المساس بحرمة المسکن إلا من خلال إجراءات تتوافر فیها الضمانات القانونیة. إذ لا یتصور أن تکون حمایة المسکن قیداً على السلطة العامة أو معوقاً لها، لأن شرعیة السلطة قائمة على احترام حقوق الأفراد من ناحیة، ومن ناحیة أخرى فإن حرمة المسکن لا تعنی الحد من فعالیة اختصاصات السلطة العامة .
ومن خلال استعراض بعض النصوص التشریعیة المعنیة بتنظیم حالة الظروف الاستثنائیة نلاحظ العدید من الأمثلة التی تخول جهات معینة عدم مراعاة خصوصیة المسکن المحمیة فی الظروف العادیة. ومن هذه النصوص نجد المادة (3) من قانون الطوارئ المصری رقم 162 لسنة 1958م قد نصت على أن: (لرئیس الجمهوریة متى أعلنت حالة الطوارئ أن یتخذ بأمر کتابی أو شفوی التدابیر الآتیة: … الترخیص فی تفتیش الأشخاص والأماکن دون تقید بأحکام قانون الإجراءات الجنائیة) .
أما فی العراق فقد منحت المادة (3) من قانون الدفاع عن السلامة الوطنیة رقم (1) لسنة 2004 رئیس الوزراء فی حالة الطوارئ إمکانیة احتجاز المشتبه بسلوکهم وتفتیشهم أو تفتیش منازلهم وأماکن عملهم، ولرئیس الوزراء تخویل هذه الصلاحیات أو غیرها إلى من یختاره من قیادیین عسکریین أو مدنیین .
ونلاحظ من خلال هذه المادة أن سلطة إصدار أوامر التفتیش من دون ذکر أسبابها ، حتى فی ظل الظروف الاستثنائیة ، یعطی لرئیس الوزراء صلاحیات مطلقة فی انتهاک حریات الأفراد، لذلک نعتقد بأن على المشرع العراقی تلافی هذا القصور.
وتعد جمیع هذه الاستثناءات مؤقتة لأنها تعتمد على الظروف الاستثنائیة، فکلها تستند إلى الحاجة الشرعیة المتمثلة فی حمایة الآخرین. ومن ثم یتطلب حدوث هذه الظروف إجراء بعض القیود على هذا الحق .
ثالثاً: سریة المراسلات:
تجد حالة الظروف الاستثنائیة تطبیقاً لها فی إفشاء المخاطبات البریدیة والمکالمات السلکیة واللاسلکیة، عندما تضطر الدولة بحکم الضرورة أن تلجا لفض تلک الرسائل ورقابة المکالمات لدرء الخطر الذی قد یتهدد وجودها القانونی .
وتجیز بعض القوانین مراقبة وفتح المراسلات للاطلاع على مضمونها لدواعی الأمن والمصلحة العامة، فنجد فی مصر – على سبیل المثال – بأنه یجوز التجاوز على سریة المراسلات إذا هدد هذا الحق فی السریة کیان الدولة أو نظامها الاجتماعی. وهذا الإهدار للحق فی سریة المراسلات لا یکون إلا فی الظروف الاستثنائیة التی تستدعی إعلان حالة الطوارئ
إذ نصت المادة (3) من قانون الطوارئ المصری رقم (162) لسنة 1958م على أنه: (لرئیس الجمهوریة متى أعلنت حالة الطوارئ أن یتخذ التدابیر المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام وله على وجه الخصوص: … (ب) الأمر بمراقبة الرسائل أیاً کان نوعها…)
أما فی العراق فقد منحت المادة (3) من قانون الدفاع عن السلامة الوطنیة رقم (1) لسنة 2004 رئیس الوزراء فی حالة الطوارئ إمکانیة اتخاذ إجراءات احترازیة على الطرود والرسائل البریدیة والبرقیات ووسائل وأجهزة الاتصال السلکیة واللاسلکیة کافةً، إذا ثبت استخدامها فی الجرائم المشار إلیها آنفاً، ویمکن فرض المراقبة على هذه الوسائل والأجهزة وتفتیشها وضبطها إذا کان ذلک یفضی إلى کشف الجرائم المذکورة أو یمنع وقوعها وذلک بعد استحصال مذکرة من الجهات القضائیة المعنیة لفترة زمنیة محددة .
وفی الأردن منح قانون الدفاع الأردنی ونظام مراقبة المطبوعات لمراقب المطبوعات والمعین من قبل رئیس الوزراء رخصة فی أن یراقب المراسلات البریدیة والرسائل اللاسلکیة، ومنح أیضاً رخصة فی أن یفتح هذه المراسلات ویفحصها ویمتنع عن توزیعها إذا تبین أن نشر مثل هذه المراسلات یمکن أن یضر بالطمأنینة العامة أو بالدفاع عن الأردن .
ولم تقتصر هذه الرخص فی مراقبة المراسلات فی الظروف الاستثنائیة على التشریعات والدساتیر العربیة بل إن التشریعات الأجنبیة هی الأخرى أجازت هذا الأمر، فنجد فی فرنسا على سبیل المثال أن للسلطات الإداریة والتنفیذیة الحق فی فرض رقابة على المراسلات فی أوقات الاضطرابات الخطیرة وخاصة فی فترات الحرب، وهذا الحق الممنوح لمدیری الأقالیم یمکن أن یمتد إلى الحق فی حجز المراسلات، وقد أقیمت رقابة بریدیة فی فرنسا خلال الحربین العالمیتین وخلال حرب الجزائر أیضاً.
وفی الولایات المتحدة الأمریکیة أجاز قانون مکافحة جرائم السیارات العمومیة وأمن الشوارع للسلطة التنفیذیة ، فی حالة الطوارئ وحالة الجرائم الماسة بالأمن القومی، مراقبة المکالمات الهاتفیة دون الحاجة إلى الحصول على أذن بهذا الأمر من السلطة القضائیة.
رابعاً: الحق فی حریة التنقل:
لم یسلم الحق فی حریة التنقل هو الآخر من تأثیر الظروف الاستثنائیة على ممارسته. فقد أشارت عدة نصوص داخلیة ودولیة إلى إمکانیة فرض القیود على ممارسة هذا الحق فی حالة الظروف الاستثنائیة. ففی العراق فقد منحت المادة (3) من قانون الدفاع عن السلامة الوطنیة رقم (1) لسنة 2004 رئیس الوزراء فی حالة الطوارئ إمکانیة وضع قیود على حریة المواطنین أو الأجانب فی العراق، فی الجرائم المشهودة أو التهم الثابتة بأدلة أو قرائن کافیة فیما یخص الانتقال والتجوال والتجمع والتجمهر والمرور والسفر من وإلى العراق. وکذلک إمکانیة فرض حضر التجوال لفترة قصیرة محددة على المنطقة التی تشهد تهدیدا خطیرا للأمن أو تشهد تفجیرات أو اضطرابات وعملیات مسلحة واسعة معادیة. وله أیضا فرض قیود على وسائل النقل والمواصلات البریة والجویة والمائیة فی مناطق محددة ولفترة محددة .
أما فی مصر فإن المادة (3/ ف) من القانون 162 لسنة 1958م أعطت لرئیس الجمهوریة الحق فی وضع قیود على حریة الأشخاص فی الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور فی أماکن معینة. وأما الفقرة (و) من المادة نفسها فتعطی الحق فی إخلاء بعض المناطق أو عزلها. وتبیح الفقرة الأخیرة من هذه المادة أن تتخذ التدابیر السابقة فی الحالات العاجلة بموجب أوامر شفویة، واشترط القانون 37 لسنة 1972م تعزیز هذه الأوامر الشفویة کتابة خلال (8) أیام.
وحول موقف القضاء من الحق فی التنقل فی حالة الظروف الاستثنائیة یوجد حکم لمحکمة تمییز العراق تتلخص وقائع القضیة فیه بأن سلطة الطوارئ فی العراق، أصدرت قراراً بمنع أحد المحامین من السفر إلى القاهرة، فطعن أمام القضاء طالباً منع المعارضة فی سفره، وتعویضه عن الأضرار المادیة والأدبیة التی لحقت به، وقد قضت محکمة الدرجة الأولى برد الدعوى تأسیساً على عدم اختصاصها، ولما انتهت القضیة أمام محکمة تمییز العراق، أکدت القاعدة العامة التی استقرت علیها أحکام المحاکم، وهی أن الخطأ الذی یشوب قراراً إداریاً مخالفاً للقانون یوجب التعویض، أی أن المحکمة لم تقرر أن للقضاء سلطة إلغاء مثل هذه القرارات .
الفرع الثانی
وقف أو تعلیق النصوص الدستوریة المتعلقة بالحریات الشخصیة
إذا کان الدستور قد تضمن الأحکام العامة للمشروعیة العادیة والأحکام الخاصة للمشروعیة الاستثنائیة، فهو بذلک یکون قد نص على التنظیم القانونی الواجب الإتباع فی حالة الظروف الاستثنائیة، فلا یمکن القول بوجود سلطة استثنائیة لم تتقرر فی نص صریح للدستور عند تنظیمه لجانبی المشروعیة العادیة والاستثنائیة، ولا یوجد مسوغ للادعاء بقیام اختصاص استثنائی للسلطة التنفیذیة لیس منصوصاً علیه فی التنظیم الدستوری. لذلک کله فسلطة وقف بعض نصوص الدستور فی الظروف الاستثنائیة لا یمکن الاعتراف بها إلا فی حدود ما قرره التنظیم الدستوری فی جانبی المشروعیة العادیة والاستثنائیة. فمادام الدستور لم یقر هذه السلطة أو کان قد أقرها بقیود معینة، فالواجب أن یؤخذ بهذه الحدود الدستوریة المرسومة فی هذا الصدد .
إلا أنه فی بعض الأحیان قد تنص الدساتیر على منح السلطات المختصة الحق فی وقف أو تعلیق بعض نصوصها الخاصة بجانب من الحریات المضمونة بالدستور، وذلک فی حالات الظروف الاستثنائیة وبصورة مؤقتة.
وقد سارت الدساتیر – بشأن سلطة الوقف المؤقت لأحکام الدستور – باتجاهین هما:
أولاً: دساتیر أقرت بشکل صریح إمکانیة وقف أو تعلیق النصوص الدستوریة الخاصة ببعض الحریات المضمونة بالدستور من قبل جهات معینة، فی حالة الظروف الاستثنائیة، ومن أمثلة الدساتیر العربیة التی نصت على جواز وقف نصوص الدستور بصورة مؤقتة الدستور الإماراتی لعام 1970م الذی نصت المادة (145) منه على أنه: (لا یجوز بأی حال تعطیل أی حکم من أحکام هذا الدستور إلا أثناء قیام الأحکام العرفیة وفی الحدود التی یبینها القانون المنظم لتلک الأحکام). والمادة (132) من الدستور السودانی لعام 1998 التی نصت على أن: (لرئیس الجمهوریة أثناء حالة الطوارئ أن یتخذ بموجب قانون أو أمر استثنائی أیاً من التدابیر الآتیة:
أ. أن یعلق بعضاً أو کلاً من الأحکام المنصوص علیها فی فصل الحریات والحرمات والحقوق الدستوریة، ولا یجوز فی ذلک المساس بالحریة من الاسترقاق أو التعذیب، أو الحق فی عدم التمییز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدینیة، أو بحریة العقیدة، أو بالحق فی التقاضی أو حرمة البراءة وحق الدفاع). وکذلک الدستور الجزائری السابق لعام 1989م والذی نصت المادة (90) منه على أن: (یوقف العمل بالدستور مدة حالة الحرب، ویتولى رئیس الجمهوریة جمیع السلطات).
ومن أمثلة الدساتیر الأجنبیة التی سلکت هذا الاتجاه دستور یوغسلافیا – سابقاً – الصادر عام 1963م حین نص على أن: (یجوز لرئیس الجمهوریة فی أحوال الحرب أن یوقف بصورة استثنائیة نصوص الدستور الخاصة ببعض حقوق وحریات المواطنین کلما اقتضت مصلحة الدفاع القومی ذلک) .
ثانیاً: دساتیر لم تقر صراحة الوقف المؤقت لأحکام الدستور فی حالة الظروف الاستثنائیة، ومن أمثلة الدساتیر التی سارت على هذا الاتجاه نجد الدستور الفرنسی لعام 1958م فی المادة (16) منه المذکورة سابقا. والمادة (74) من الدستور المصری لعام 1971م. کذلک المادة (185) من الدستور السویسری .
وعلى الرغم من أن هذه المواد لم تقر صراحة سلطة وقف أو تعلیق بعض نصوص الدستور، إلا أن بعض الفقهاء یذهبون إلى أن مجرد إعلان حالة الظروف الاستثنائیة یؤدی إلى وقف العمل ببعض أحکام الدستور ومنها الأحکام المتعلقة بالحریات الشخصیة، ویطلقون علیه تسمیة الوقف الفعلی لأحکام الدستور. ففی فرنسا یذهب بعض الفقهاء مثل (لیروا) إلى أن المادة (16) من الدستور الفرنسی تخول رئیس الجمهوریة فی المجال الدستوری حق ووقف بعض النصوص الدستوریة. أما الفقیه (فواسیه) فیشترط أن یتم هذا الوقف المؤقت بقرار من رئیس الجمهوریة، لأن هذا الوقف لا یجوز أن یحصل تلقائیاً أو ضمنیاً بمجرد اللجوء الى المادة (16) من الدستور . کما أن الوقف لابد أن یکون له صلة بموقف الأزمة وطبیعة الخطر وأن یستهدف هذا الوقف الغایة التی قصدت إلیها هذه المادة، وهی إعادة مؤسسات الدولة إلى مهامها العادیة فی أقرب وقت ممکن، وسلطة هذا الوقف یجب أن تکون مقیدة وربما کان أهم قید هو أن الضرورة تقدر بقدرها أو قاعدة التناسب بین ما تقتضیه الضرورة من الخروج على أحکام الدستور والمدى الذی یکفی للتغلب على الأزمة .
کما ذهب البعض إلى أن المادة (74) من الدستور المصری ذات خطورة بالغة، وذلک لمنحها رئیس الجمهوریة فی حالة معینة سلطات مطلقة غیر خاضعة لأی قید، وهی تنقل الاختصاصین التشریعی والتنفیذی إلى ید رئیس الجمهوریة نقلاً کاملاً بحیث یمکن القول بوجود دستورین: الأول للظروف العادیة والثانی للظروف الاستثنائیة متمثلاً فی نص المادة (74) من الدستور والمواد الأخرى التی تنظم حالة الظروف الاستثنائیة .
ویستند الفقه فی تسویغ حق السلطات المختصة فی إیقاف العمل ببعض أحکام الدستور إلى المواد المذکورة سابقاً تفترض مشروعیة کل إجراء ضروری تتخذه هذه السلطات للقضاء على الأزمة التی تتعرض لها الدولة، حتى لو اقتضى هذا الإجراء المساس بالدستور بما فیه الحریات العامة .
وقد انتقد البعض هذا الاتجاه الذی یذهب إلى أن مجرد إعلان حالة الظروف الاستثنائیة یؤدی إلى وقف العمل ببعض أحکام الدستور معللین انتقادهم بأن هذا الوقف یتعارض مع المبادئ الأساسیة التی تقوم علیها الأنظمة الدستوریة لهذه الدول، إذ إن نظریة الظروف الاستثنائیة کما قررها القضاء فی حدود معینة لیس من بین صلاحیاتها المساس بالدستور على أی وجه. ولذلک فإن سلطة وقف الدستور أو بعض نصوصه لا تعدو أن تکون مجرد اجتهاد فقهی یستند إلى فکرة ترکیز السلطات .
وقد أکدت محکمة القضاء الإداری المصری هذا الاتجاه وذلک فی قولها بأنه: (لئن کان القانون یخول الحاکم العسکری فی ظل الأحکام العرفیة سلطة تقدیریة واسعة یواجه بها ما تقتضیه الحالات الاستثنائیة التی تعرض له من اتخاذ تدابیر سریعة حاسمة، إلا أنه ینبغی ألا تتجاوز سلطته التقدیریة الحدود الدستوریة المرسومة، وألا تخل بالتزاماته القانونیة، وألا تقید بوجه خاص الحریات العامة بدون مسوغ قانونی، وإلا شاب تصرفه عدم المشروعیة، وانبسطت علیها رقابة القضاء الإداری إلغاء وتعویضاً).
وفی حکم آخر أکدت المحکمة المبدأ نفسه بقولها: (إن نظام الأحکام العرفیة فی مصر أو نظام الطوارئ لیس نظاماً مطلقاً بل یخضع للقانون – أرسى الدستور أساس هذا النظام وبین القانون أصوله وأحکامه ورسم حدوده وضوابطه – فیجب أن یکون إجراؤه على مقتضى هذه الضوابط، وما یتخذ من تدابیر خارج هذه الحدود والضوابط یعد مخالفاً للقانون وتنبسط رقابة القضاء على هذه التدابیر والإجراءات إلغاء وتعویضاً) .
وربما کان من الأولى أن تنص الدساتیر على عدم جواز إعطاء حق وقف أو تعلیق بعض أحکامها فی حالة الظروف الاستثنائیة للسلطة التنفیذیة، بل یعطى هذا الحق للسلطة التشریعیة إن کان لابد منه.
الخاتمة :
بعد أن استعرضنا الحالة التی تکون علیها الحریات الشخصیة فی ظل قوانین الطوارئ یمکن أن نجمل ملاحظاتنا فی النقاط الآتیة:
The Author declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English) and References (English)
Arab Sources:
1. Ahmed Samir Abu Shadi, set of legal rules decided by the Supreme Administrative Court in ten years, 1955-1965, National House of Printing and Publishing, c.
2. Dr. Ahmed Fathi Sorour, Constitutional Protection of Rights and Freedoms, 1, Dar Al Shorouk, Beirut, 1999.
3. Dr. Ashraf Tawfiq Shams El-Din, Criminal Protection of Personal Freedom in Objectivity, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1996.
4. Dr. Bakr al-Qabbani, Freedoms and Public Rights in the State of Emergency, The Human Rights Crisis in the Arab World, A Selection of Selected Studies Introduction to the Arab Lawyers' Union, 1985-1989.
5. Hussein Jamil, Human Rights in the Arab World: Constraints and Practice, The Arab Future, Beirut, No. 62, Sixth Year, April 1984.
6. Hakki Ismail, Control of the Authority's Work Based on the State of Emergency, Encyclopedia of Justice and Jurisprudence of the Arab States, Cairo, 1982, c. 129.
7. Dr. Rafea Khader Saleh, Right to the sanctity of the home, PhD thesis, Faculty of Law / University of Baghdad, 1997.
8. Dr. Salem Al-Kiswani, Principles of Constitutional Law with Analytical Study of the Jordanian Constitutional System, 1, Al-Kiswani Press, Amman, 1983.
9. Dr. Sami Jamal Aldin, Necessity and Judicial Supervision Regulations, Knowledge Establishment, Alexandria, 1977.
10. Dr. Suad Al-Sharqawi, The Relativity of Freedom and Its Reflection on Legal Organization, Encyclopedia of Judiciary and Jurisprudence of the Arab States, C 76, Section 3, (b).
11. Ashour Sulaiman Saleh Shawail, The Responsibility of the Administration for the Actions and Decisions of Administrative Control, 1, University of Garyounis, Benghazi, 1997.
12. Dr. Abdullah Mohamed Hussein, Personal Freedom in Egypt, (P.
13. Ali Naguib Hamza, Administrative Control Authorities in Exceptional Conditions, Master Thesis, Faculty of Law / Babylon University, 2001.
14. Kazim Ali Al-Janabi, Powers of the Head of State of the State of the State under exceptional circumstances. Comparative study, Master's Thesis, Faculty of Law, University of Baghdad, 1995.
15. Dr. Mawdir Alwais, The Impact of Technological Development on Public Freedoms, Al-Ma'aref Establishment, Alexandria, 1983.
16. Dr. Mohamed Amin Medani and Dr. Nazih Kseibi, Human Rights European Documents Group, I, Dar al-Bashir, Amman, 1992.
17. Dr. Mohamed Said Al-Majzoub, Public Liberties and Human Rights, 1, Gros Press, Lebanon - Tripoli, 1986.
18. Mohammed Qasim Al-Nasser, The Right to Confidentiality of Correspondence, Master's Thesis, Faculty of Law / Babylon University, 2002.
19. Haitham Manna, Al-Imaan in Human Rights, 1, Al-Ahly for Printing and Publishing, Damascus, 2000.
20. Dr. Wagdy Thabet Gabriel, Special Powers of the President of the Republic, El-Ma'aref Establishment, Alexandria, 1988.
Translated sources:
1. David Beetham and Kevin Boyle, Democracy Questions and Answers, UNESCO, 1996.
2. Leah Levin, Human Rights Questions and Answers, I 1, Arab Future House, Cairo, 1986.
3. Conference c. Adler, The American Constitution and his Ideas, Translated by: Sadiq Ibrahim Odeh, Center of Jordanian Books, 1989.
Laws and Encyclopedias:
1. Iraqi Chronicle, No. 3987, September 2004.
2. The new Iraqi constitution for the year 2005
3. The Constitution of Egypt of 1971
4. The Constitution of the Kingdom of Jordan of 1952
5. The Constitution of France of 1958
6. The Swiss Constitution of 2000
7. The Modern Administrative Encyclopedia, I 1, The Arab House of Encyclopedias, Cairo, 1987.
Foreign sources:
Erica - Irene A. daes, Freedom of the Individual under Law, United Nation, New York, 1990