الملخص
إن أساس التعاقد هو حریة إرادة المتعاقدین، والعقد شریعة المتعاقدین، إذ لهما حق المناقشة والجدل فیما یتفقان علیه. ومتى تم الاتفاق أصبح العقد حجة على الطرفین، وعلى ذلک فحریة التعاقد هی التی تملی على الطرفین قانون العقد. ولکن قد یقف فی سبیل حریة التعاقد حوائل وموانع قد ترجع الى المنفعة العامة والنظام العام، بما یقرره المشرع فیهما من الأحکام الآمرة
الكلمات الرئيسة
الموضوعات
أصل المقالة
موضوعیة الإرادة التعاقدیة (دراسة تحلیلیة مقارنة)
the substantive of contractual will A Comparative analytical study
أکرم محمود حسین محمد صدیق محمد عبد الله کلیة القانون/ جامعة الموصل کلیة القانون/ جامعة الموصل Akram Mahmoud Hussein Mohammad Siddiq Mohammad Abdullah College of law / University of Mosul College of law / University of Mosul Correspondence: Akram Mahmoud Hussein E-mail: |
(*) أستلم البحث فی 14/9/2006 *** قبل للنشر فی 7/1/2007.
(*) Received on 14/9/2006 *** accepted for publishing on 7/1/2007.
Doi: 10.33899/alaw.2007.160513
© Authors, 2007, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license
(http://creativecommons.org/licenses/by/4.0).
مقدمة:
فی البدء نحمد لله سبحانه وتعالى ونشکره أن أتم فضله ونعمته علینا ووفقنا فی إنجاز هذا العمل، داعین إیاه أن یجعله فی میزان حسناتنا وبعد ...
إن أساس التعاقد هو حریة إرادة المتعاقدین، والعقد شریعة المتعاقدین، إذ لهما حق المناقشة والجدل فیما یتفقان علیه. ومتى تم الاتفاق أصبح العقد حجة على الطرفین، وعلى ذلک فحریة التعاقد هی التی تملی على الطرفین قانون العقد. ولکن قد یقف فی سبیل حریة التعاقد حوائل وموانع قد ترجع الى المنفعة العامة والنظام العام، بما یقرره المشرع فیهما من الأحکام الآمرة.
وإذا کانت حریة التعاقد هی قوام العقود، وهی التی تقرر قواعد العقد وأصوله وأحکامه، إلا أن هنالک اعتبارات من شأنها أن تقید هذه الحریة، وتجعل أحد العاقدین غیر متمتع بها تمام التمتع.
ومع اقرارنا بمسألة التدخل المتزاید للمشرع فی تنظیم العقد ، فان هذا التدخل ما هو الاتماشیا مع الفکرة التعاقدیة التی تقوم على اساس قیام العقد المتوازن بین المتعاقدین ، ولا یعنی ذلک تدهور او انتکاس الارادة التعاقدیة ، بل موضوعیة هذه الارادة ، والتی لایقتصر ضرورة وجودها فی ابرام العقد ، بل تمتد الى مابعد الانعقاد وصولا الى انتهاء العقد ، وکل ذلک سیعمل على تحقیق العدالة القانونیة ، وتحقیق التوازن بین الاطلاق لمبدأ سلطان الارادة ، والعقد شریعة المتعاقدین ، وبین التوجه نحو التقییدات التی یفرضها المشرع ، مما یدل على أن الارادة التعاقدیة لم تعد مطلقة وانما یجب القول بموضوعیة الارادة . وفقا لمقتضیات الحاجة الاجتماعیة فی اعطاء المشرع الدور الکبیر والبارز فی الاشراف علىالتعاقد ،تکون الغایة الرئیسیة منه ، هو تحقیق العدل والموازنة بین المصالح المختلفة للافراد .
وأمام هذه الحقائق ارتأینا توضیح ومناقشة وتحلیل الحدود التی یسمح بها القانون للأفراد فی استخدام الإرادة الحرة والتعاقد. وفقا للخطة التالیة:
المبحث الأول: التعریف بموضوعیة الإرادة التعاقدیة
المبحث الثانی: القیود المفروضة على الإرادة التعاقدیة فی إبرام العقد.
المبحث الثالث: القیود المفروضة على الإرادة التعاقدیة فی تحدید مضمون العقد.
المبحث الأول
التعریف بموضوعیة الإرادة التعاقدیة
تشتمل حریة التعاقد على جملة حریات، وهی حریة الفرد فی التعاقد أو فی امتناعه عن التعاقد، وفی اختیار المتعاقد معه، وفی تحدید مضمون العقد، فاستناداً الى مبدأ سلطان الإرادة، للفرد حریة التعاقد أو عدم التعاقد مع حریة تحدید مضمون العقد.
وقد أدت الإرادة دوراً بارزاً، ولمدة طویلة فی تکوین العقد وتحدید مضمونه، فکان للمتعاقدین أن ینظما علاقاتهما التعاقدیة وتحدید حقوقهما والتزاماتهما فی حدود النظام العام والآداب. ولکن هذه الحریة فی التعاقد تغیرت کثیراً بحیث أصبحت محدودة ومقیدة بنصوص قانونیة آمرة.
ومن أجل توضیح هذه التقییدات والوصول إلى تعریف المقصود من موضوعیة الإرادة التعاقدیة، یجب علینا أولاً إعطاء نظرة عامة فی سلطان الإرادة التعاقدیة، وذلک من أجل محاولة الوصول إلى تعریف موضوعیة الإرادة التعاقدیة. وبهذا سیقسم هذا المبحث إلى المطلبین الآتیین:
المطلب الأول: ((نظرة عامة فی سلطان الإرادة التعاقدیة))
المطلب الثانی: ((تعریف موضوعیة الإرادة التعاقدیة))
المطلب الأول
نظرة عامة فی سلطان الإرادة التعاقدیة
إذا کان العقد یبنى أساساً على الإرادة وما تتمتع به من سلطان، فإن ذلک یعد ترجمة لمبدأ سلطان الإرادة. هذا المبدأ الذی یعنی أن الإرادة هی صاحبة السلطان الأکبر فی إنشاء العقود وفی تحدید آثارها.
فللإرادة الحق فی إنشاء ما تشاء من العقود غیر متقیدة فی ذلک بأنواع العقود التی نظمها المشرع فی القانون المدنی (ویطلق علیها العقود المسماة). کما یکون للإرادة الحریة فی تحدید آثار العقد، فلا تتقید بالآثار التی یرتبها المشرع على عقد من العقود فقط، وإنما یکون لها بما لها من سلطان، الحریة فی تضییق هذه الآثار أو توسیعها أو حذفها. کما یکون للإرادة أخیراً الحریة فی تعدیل هذه الآثار بعد قیامها، وکذلک فی إنهاء العقد بعد إبرامه.
فیقوم مبدأ سلطان الإرادة التعاقدیة إذاً على أساسین هما ، الحریة والمساواة.
فالحریة أساس النشاط، وإذا کان مظهره الإرادة، فالحریة أساسها، وإن الإرادة الحرة لقادرة على أن تزن المصلحة القائمة، وهی مقدرة لهذه المصلحة فعلاً ما دمنا نطلق لها الحریة. وإذا تم التوفیق بین إرادتین کل منهما تقرر المصلحة القائمة، ففی هذا التوفیق تحقیق للمصلحة العامة، إذ لیست المصلحة العامة إلا مجموع المصالح الفردیة.
أما الأساس الأخر وهو المساواة، فلا یقصد بها المساواة الفعلیة، إذ هذه لا یمکن تحقیقها، بل یقصد بها المساواة أمام القانون، فالمساواة القانونیة لا المساواة الاقتصادیة هی التی تکفل فی النهایة تحقیق المصلحة العامة لأن المصلحة الخاصة – وهی أساس المصلحة العامة – لن تتحقق إلا إذا اعتبر الناس متساوین أمام القانون فی مظاهر نشاطهم.
فإذاً یترتب على الأخذ بمبدأ سلطان الإرادة التعاقدیة على إطلاقه النتائج الآتیة:
ونشیر فی هذا المجال إلى استبعادنا لتناول التطورات التاریخیة فی هذا البحث وذلک لقلة الاستفادة من هذا الطرح فی بحث قانونی یوجب على الباحث أن یواکب فیه الظروف والحاجات التی یعیشها فی عصر متیقن فیه الجمیع بأن لا سلطاناً کاملاً للإرادة إلا بالحدود التی یرسمها القانون، ووفق متطلبات الحفاظ على النظام العام.
إلا أن موضوع البحث یقتضی البت فی أمر مهم ألا وهو تمییز مبدأ سلطان الإرادة عن مبدأ الرضائیة.
فقد قلنا إن مقتضى مبدأ سلطان الإرادة فی إطار القانون المدنی هو أن إرادة الإنسان تشرع بذاتها لذاتها، تنشئ بذاتها لذاتها التزامها، فإذا ما ألزم شخص بتصرف قانونی (وبخاصة العقد)، فإنما یلتزم لأنه أراد، وبالقدر الذی أراد.
فإذا کان هذا هو مقتضى مبدأ سلطان الإرادة، فهل سینطبق مضمون هذا المبدأ مع مبدأ الرضائیة، أم أن لکل من المبدأین استقلالهما عن بعضهما؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من إیضاح السبب الفعال الذی جعل الباحث یتساءل، فمن خلال الرجوع إلى العدید من مصادر الفقه القانونی یلاحظ الإشارة إلى المسائل الآتیة:
بمعنى أن مبدأ الرضائیة سیکون جزءاً متداخلاً مع مبدأ سلطان الإرادة.
وبعد بیان هاتین النقطتین سنقوم بإیراد معنى مبدأ الرضائیة. إذ یتلخص فی أن العقد ینعقد بتوافق إرادتین على إنشاء التزامات، ولا یکتمل معنى المبدأ إلا إذا فسر بأن توافق الإرادتین یلزم ویکفی للانعقاد.
إن کفایة هذا التوافق هو الذی جعل أساس المبدأ لا یتطلب أوضاعاً خاصة لانعقاد العقد، وجعل العقد بإرادة الطرفین، فأصبحت العبرة بهذه الإرادة بقطع النظر عن طریقة التعبیر عنها.
إلا أنه یجب القول إن مبدأ الرضائیة لم یبقَ مطلقاً أو بمعنى أخر أن توافق الإرادات قد لا یکفی بمفرده أحیاناً لتکوین العقد، وذلک بسبب تقیید المشرع لبعض أنواع التعاقدات من حیث التکوین.
ونتفق مع جانب من الفقه فی وجوب التمییز ما بین مبدأ سلطان الإرادة ومبدأ الرضائیة. حیث یتعلق مبدأ سلطان الإرادة بقدرة الإرادة على اختیار التعاقد أو عدم التعاقد، لا بمجرد کفایة الإرادة کما فی مبدأ الرضائیة "فالرضائیة هی کفایة الإرادة لإنشاء التصرف".
أو بتعبیر أخر، یؤدی المبدأ الأول إلى إطلاق سراح الإرادة وفک قیودها، أما المبدأ الثانی فهو یؤدی إلى إظهار جوانب النشاط التی تتسع لتلک الإرادة الطلیقة.
فتقدیر مسألة حریة الشخص بالدخول فی تعاقدات مع أشخاص آخرین أو تقییده بعدم السماح له بالدخول فی هذه التعاقدات یتحدد بما للإرادة من سلطان فی المجال العقدی.
أما بعد أن یقوم الشخص بالتعبیر عن رغبته بالتعاقد، ففی هذه الحالة فإن مبدأ ال
أ الرضائیة سیحدد مدى کفایة هذا التعبیر فی إبرام العقد استناداً إلى أحکام القانون فی مدى اعتبار العقود عقوداً رضائیة أم شکلیة أم عینیة.
وخلاصة لما سبق ذکره فی مجال التمییز بین مبدأ سلطان الإرادة وبین مبدأ الرضائیة، فإن المبدأ الأول سیعتبر الأساس أو القاعدة العامة فی التعاقدات، أما المبدأ الثانی وهو مبدأ الرضائیة وتحدید مدى کفایة الاتفاقات أو التوافق بین الإرادتین فسیعتبر الإطار القانونی المحدد لکیفیة أو کفایة انعقاد العقد فلو افترضنا أن القانون اشترط الشکلیة فی إبرام عقد معین فسیعتبر هذا الاشتراط إحدى الحالات الاستثنائیة التی تدرج ضمن القیود المفروضة على الإرادة التعاقدیة فی أثناء تکوین العقد.
فمدى اشتراط الشکلیة فی العقود الشکلیة أو وجوب التسلیم (تسلیم محل العقد) فی العقود العینیة هی عبارة عن إلزام قانونی یحدده المشرع شعوراً منه بأن ذلک هو من متطلبات التعاقد.
واستزادة للتوضیح سنستعیر التعبیر المجازی فی وصف مبدأی سلطان الإرادة والرضائیة.
حیث یمکن تشبیه المبدأین وکأنهما مصفاتان للتنقیة المتطلبة قانوناً. فعندما یرغب أحد الأشخاص بالتعاقد فی عقد ما. یجب علیه مراعاة القیود التی یفرضها مبدأ سلطان الإرادة. فإذا کان العقد لا یخالف النظام العام والآداب فسیعبر قد اجتاز مصفاة التنقیة الأولى. وبعد ذلک علیه مراعاة القیود التی قد یفرضها القانون على المتعاقد من شکلیة ما أو تسلیم محل العقد، فإذا لم یشترط القانون قیداً معیناً وإنما اکتفى باعتبار أن العقد رضائی فسیکون المتعاقد وکأنه قد اجتاز مصفاة التنقیة الثانیة. ومن ثم یکون قرار الدخول فی العملیة التعاقدیة مسألة شخصیة یقدرها المتعاقد فی إطار الحریة الکاملة له.
ومن العقود الأخرى التی یلزم فیها المشرع طرفی العقد أو أحدهما بتحدید متطلبات التعاقد هو "العقد المأذون".
ففی العقد المأذون یترک المشرع للسلطات المختصة مهمة إجازة العقد أو منعه، ولا یکون للعقد أیة قیمة قانونیة إلا بعد الحصول على أذن هذه الجهات التی یعینها المشرع مسبقاً. حینئذٍ لا ینشأ العقد من إرادة أطرافه فحسب، بل من انضمام إراداتهم إلى رخصة المشرع.
أی أن ما یکوّن العقد على حد تعبیر سافاتیه، هو إرادة الأطراف ممزوجة برخصة المشرع، وبعبارة أخرى، أن المشرع یوشک أن یدخل فی العقد کمتعاقد ثالث. فتستطیع السلطة المختصة، عن طریق تخویلها منح الأذن، أن تمنع إنشاء العقد، أو على الأقل تؤجل إبرامه إلى وقت أخر.
وهناک بعض الأمثلة التشریعیة فی العراق التی تشترط استحصال الأذن المسبق. من ذلک ما نصت عله المادة الثانیة من قانون تأمین السکن للمواطنین رقم (125) لسنة 1963 الملغی الصادر فی 15/9/1963 إذ جاء فیها "لا یجوز بیع أو رهن أو هبة أو فرز أو إجراء أی تصرفات أخرى على القطعة – التی وزعت وفق أحکام هذا القانون – ترتب علیها حقوق عینیة أو تؤدی إلى خروج التصرف فیها ممن ملکت له خلال عشر سنوات من تاریخ صدور سند الطابو، إلا إذا کانت هناک أسباب اضطراریة تدفع المنتفع إلى هذا التصرف فیجوز له ذلک (بموافقة وزیر المالیة)". وقرار رقم (117) لسنة 2000 الخاص بالقید التشریعی على حریة التصرف بالعقارات المملکة من قبل الدولة .
وقد اعتبر القضاء العراقی البیع الذی یتم دون موافقة وزیر المالیة باطلاً، حیث یعتبر المحل غیر قابل للتعامل فیه، ما لم یقترن بموافقة الجهة التی حددها القانون المذکور.
وهذا یعنی أن الأفراد لا یستطیعون بإرادتهم المنفردة ودون رخصة إبرام عقد من هذا النوع.
المطلب الثانی
تعریف موضوعیة الإرادة التعاقدیة
یعد مبدأ سلطان الإرادة من نتائج المذهب الفردی الذی یقدس الحریة الفردیة، ویعتبر الفرد محور المجتمع. فالهدف من تنظیم المجتمع، فی نظر هذا المذهب هو حمایة الفرد وتحقیق مصلحته الخاصة. فطالما کان الإنسان حراً فإن إرادته یجب أن تکون کذلک. وهذه الإرادة الحرة هی التی تملک إنشاء العقد وهی التی تملک أیضاً تحدید آثاره بمنأى عن أی قید یرد فی القانون".
ومن القوانین المدنیة التی تأثرت إلى حد کبیر بالمبدأ المذکور، القانون الفرنسی (تقنین نابلیون الصادر عام 1804) فالمادة (1134) منه قد جاءت عنواناً لمبدأ سلطان الإرادة فی إنشاء التصرفات القانونیة، حیث نصت على "أن الاتفاق إذا تم شرعاً فإنه یقوم مقام القانون لمن تعاقد".
کما ذهب إلى هذا الاتجاه القانون المدنی المصری لعام 1948م، إذ نصت المادة (147) فقرة (1) منه على ما یلی "1-العقد شریعة المتعاقدین، فلا یجوز نقضه ولا تعدیله إلا باتفاق الطرفین، أو للأسباب التی یقررها القانون".
ولم یشذ القانون المدنی العراقی رقم (40) لسنة 1951 عن القوانین المذکورة آنفاً فی التأثر بمبدأ سلطان الإرادة وما لها من دور فی تکوین أو إنهاء أو تعدیل التصرفات القانونیة، فاعتبر العقد شریعة المتعاقدین وقد نصت المادة (146) فقرة (1) على ذلک بأنه "1-إذ نفذ العقد کان لازماً، ولا یجوز لأحد العاقدین الرجوع عنه ولا تعدیله إلا بمقتضى نص فی القانون أو بالتراضی".
والواقع أن ما قررته التشریعات المدنیة (مصری، عراقی) من إبراز لقوة الرابطة العقدیة وإلزامها بفعل الإرادة یعود الى نص المادة (1134) من القانون المدنی الفرنسی، لأن تلک القوانین قد تأثرت بصورة مباشرة بما وضعه المشرع الفرنسی فی تلک المادة.
وتجدر الإشارة فی هذا المجال إلى أن القوانین المدنیة المقارنة فی موادها المشار إلیها آنفاً، لم تکن الغایة منها الأخذ بمفهوم المذهب الفردی على إطلاقه، بل حاولت تلک القوانین مسایرة الاتجاهات المعاصرة لمبدأ سلطان الإرادة.
فقد أصبحت الاتجاهات المعاصرة تسیر نحو تقیید دور الإرادة فی نطاق العقد، ذلک أن حریة الإرادة ترتبط بالفلسفة الفردیة، ولما کانت الأفکار السائدة فی المجتمعات الحدیثة هی الأفکار الاجتماعیة، فقد أدى ذلک إلى ازدیاد القیود على سلطان الإرادة، "فالأفکار الاجتماعیة تنادی بضرورة تدخل الدولة عن طریق أحکام القانون لتنظیم علاقات الأفراد فی معاملاتهم الخاصة، تنظیماً إجباریاً لا یترک لإرادتهم کثیراً من الحریة فی تنظیم تلک المعاملات".
فقد تغیرت الظروف الاقتصادیة والاجتماعیة التی نشأ فی رحابها مبدأ سلطان الإرادة، وسارت تشریعات الدول نحو الاشتراکیة التی ترى الاعتداد بمصالح الجماعة قبل مصلحة الفرد، فظهر أنصار المذهب الاجتماعی.
فالاعتداد بمصلحة الجماعة یقتضی منع تسلط الطرف القوی فی التعاقد على الطرف الضعیف، بل ینبغی تقیید إرادة الأول لمصلحة الأخیر. فالعامل وصاحب العمل کلاهما یملک الإرادة الحرة فی التعاقد (وکذلک المؤجر والمستأجر) إلا أنهما لیسا على قدم المساواة، فإحداهما طرف قوی یملک إملاء شروطه على الطرف الأخر الضعیف، ولذلک یجب تقیید إرادة صاحب العمل (والمؤجر) لمصلحة العامل (والمستأجر).
وکذلک الحال بالنسبة للعقود التی تبرم بین جمهور المستهلکین وبین الشرکات الاحتکاریة، فأین المساواة فی الإرادة الحرة بین شرکة کبیرة ومستهلک ضعیف؟ إن هذه هی مساواة نظریة فحسب، فهل نجد مشترکاً (مستهلکاً) یستطیع مناقشة الشروط التی یضعها مرفق المیاه أو الکهرباء؟ الواقع أن تحقیق العدل الاجتماعی یقتضی تقیید إرادة هذا المحتکر لمصلحة المستهلک.
ومن الناحیة الاجتماعیة لم یعد یسمح للأفراد بالاتفاق أو بالتعاقد على أشیاء قد تخالف النظام العام والآداب أو مقتضیات الخطة الاقتصادیة أو الاتجاه العام للمجتمع، فالمصلحة العامة تعلو المصلحة الفردیة.
فحریة التعاقد لم تعد مبدأً مطلقاً، فقد یأتی القانون ویجبر الفرد على إبرام تعاقد معین أو یحرمه من تعاقد یریده.
وکذلک لم تعد الإرادة حرة فی تحدید مضمون الالتزامات العقدیة، فقد أصبح الآن تدخل المشرع فی تحدید هذا المضمون أمراً عادیاً.
کما لم تعد إرادة الأفراد حرة فی إنهاء العقد بالاتفاق أو فی تعدیله، لذلک قد یتدخل القانون ویضع تنظیماً معیناً لعقد من العقود، بحیث لا یجوز لإرادة الأفراد الخروج عن هذا التنظیم بالتعدیل، "فالصالح العام یخول الدولة أن تتدخل لإقامة مساواة حقیقیة بین المتعاقدین، لمنع تحکم فریق بالاستناد إلى قوة اقتصادیة جبارة أو الاستفادة من ظروف العرض والطلب المواتیة ..... وتطبیقاً لهذا المذهب صدرت فی مختلف الدول قوانین تجبر الملاک على التأجیر بأجر معین، وتقرر تجدید عقود الإیجار بعد فوات مدتها جبراً على المؤجرین، وتحدد شروط عقد العمل، وتخضع کثیراً من السلع للتسعیر الجبری. مما یؤکد منطق المذهب الاجتماعی فی تغلیب صالح الجماعة".
وهذه التطورات تؤکد أن إبرام العقد لم یعد مجرد عمل خاص، فقد یخضع للقانون أو یکون من إملائه أو من ضغط الظروف والعوامل الاقتصادیة، وقد تجبر المحاکم على إتباع تفسیر خاص، أو مستمد من قواعد تفسیر القوانین. فقد انتهى تطور المجتمع إلى أن جعل وضع العقد فی ذاته یتغیر إلى حد أن قیل إن العقد الحر فی طریقه إلى أن یصبح عقداً موجهاً.
وإزاء تدخل المشرع فی العقود بنصوص آمرة، وظهور ما یسمى بالعقد الموجه، فذهب جانب من الفقه بالقول إلى اختفاء الصفة الإرادیة للعقد، وتحوله إلى مجرد (نظام شرطی)، خاضعاً تماماً فی إبرام وترتیب آثاره للشروط التی یتحکم فیها القانون. لذلک یرى بعض الفقهاء أن نظام العقد الحر لم یعد هو السائد الیوم، فقد وجد نظام العقد المقید، ثم نظام العقد المنظم، فنظام عقد الإذعان.
ومع إقرارنا بمسألة التدخل المتزاید للمشرع فی تنظیم التعاقدات، فإننا نتفق مع جانب من الفقه. بأن هذا التدخل ما هو إلا تماشیاً مع نفس أساس الالتزام العقدی ومع الفکرة التعاقدیة الصحیحة التی تقوم على أساس قیام العقد المتوازن بین المتعاقدین، بعیداً عن غبن أو استغلال أحد الأطراف للأخر. ولا یعنی ذلک تدهور العقد واضمحلال أهمیته، بل سیبقى أسلوبا ضروریاً للتبادل بین ذمتین.
ویمکننا أن نعزو ما ینتج عن هذه القیود من تزاید سلطان القانون وضعف سلطان الإرادة إلى علاقة التدرج التی یجب أن تقوم بین قواعد النظام القانونی فالتشریع باعتباره قانوناً موضوعیاً یعلو العقد بحسبانه مصدراً للحقوق الشخصیة، ولهذا فالعقد یتقید بالتشریع الذی یتقدمه فی سلم التدرج.
فوصف العقد حقیقة لن یکون إلا بالخضوع لمقتضیات النظام العام، وخضوع الإرادة وقدرتها على خلق الالتزام لهذه المقتضیات، لأن الواقع العملی والمنطقی یقضی أن تکون الغلبة فی تکوین العقد للنظام العام، لأجل ترتیب أثار الالتزام، نظراً لمساسها لحقوق الغیر وتأثیرها فی نظام المبادلات وتبادل الثروات المادیة.
لذلک فقد ابتدأ ظهور العقد الموضوعی، الذی هو لیس خلقاً جدیداً من قبل الأفراد، بل هو العقد منذ القدم، ولکنه أخذ یخضع لمقتضیات النظام العام، وأن "دور الإرادة الذی أصبح مشکوکاً فیه فی کثیر من العقود، قد جعل جانب من الفقه یقول بتسمیة مبدأ موضوعیة الإرادة بدلاً من سلطان الإرادة، ویحافظ بذلک على الأساس الإرادی فی إنشاء الالتزام مع إعطاء هذا الأساس الإرادی مفهوماً نسبیاً یخضعه للتنظیم الموضوعی للقانون".
والخلاصة، هی أن الفقه المعاصر والقوانین المدنیة المعاصرة تقر بمبدأ سلطان الإرادة فی إنشاء التصرفات القانونیة، ولکن فی حدودها المعقولة، تتوازن فیها الإرادة مع العدالة والمصلحة العامة. وهذا ما یقصد به بموضوعیة الإرادة التعاقدیة.
لذلک یمکن تعریف "موضوعیة الإرادة التعاقدیة" بأنها (إمکانیة الإرادة فی الدخول أو عدم الدخول فی العملیة التعاقدیة وفی تحدید مضمون العقد، وفقاً للحدود التی یرسمها القانون، بالاستناد إلى المصلحة العامة والنظام العام والسیاسة الاقتصادیة العلیا للدولة، وباستخدام معیار العدالة).
المبحث الثانی
القیود المفروضة على الإرادة التعاقدیة فی إبرام العقد
إذا کان الأصل هو حریة التعاقد، إلا انه فی المجال الواقعی قد اتسعت دائرة النصوص الآمرة، مما أدى إلى أن تنحصر تلک الحریة فی حدود ضیقة. إذ إن هذه النصوص الآمرة التی لا یجوز الاتفاق على مخالفتها تحمی النظام العام والآداب فی المجتمع، ومن ثم فهی تخرج عن الدائرة التی تنطلق فیها حریة الإرادة.
فلیس للإرادة أن تنشئ تصرفاً یخالف سببه أو محله النظام العام والآداب، فإذا تجاوز المتعاقدان هذه الحدود التی رسمها النظام العام والآداب یکونا قد عرضا عقدهما للبطلان، حسب أحکام المادة (130) فقرة (1) من القانون المدنی العراقی، التی نصت على أنه "یلزم أن یکون محل الالتزام غیر ممنوع قانوناً ولا مخالفاً للنظام العام والآداب، وإلا کان العقد باطلاً".
فإذاً هنالک عوامل مختلفة تؤدی إلى قیام الدولة (المشرع) بفرض قیود على الإرادة التعاقدیة، وإن هذه القیود، إما ستمنع الأفراد من الدخول بالعملیة التعاقدیة کمثال ذلک، عندما تمنع الدول استیراد سلع معینة، فتحرم بذلک أی تصرف قانونی علیها. أو أن تتدخل الدولة فی تحدید مضمون العقد قبل إبرام العقد، کمثال ذلک عندما تحدد الحکومة أسعاراً رسمیة لبعض السلع، بحیث تحد من حریة الثمن فی عقود البیع، وهو یحدث أیضاً فی حالة الاستیلاء، حینما تستولی الدولة على کمیة من القمح أو الأرز مقابل سعر محدد سلفاً.
بمعنى أن سیاسة الدولة فی توجیه الاقتصاد الوطنی ستنعکس آثاره على العقود، وفضلاً عن ذلک، سیتدخل المشرع فی حالة الضرورة إلى مراعاة العدالة وتحقیق المساواة القانونیة.
وأمام کل هذه الأمور قد لا تقتصر هذه القیود على منع التعاقد أو تحدید مضمونه، بل قد تصل إلى حد تدخل القانون لإنشاء علاقات قانونیة لم تکن لتنشأ إلا بتوافق إرادتی طرفیها، فحریة الإنسان فی ألا یتعاقد لیست بدورها مطلقة بل ترد علیها قیود.
وتجدر الإشارة إلى أن العقود التی تبرم بناءاً على الالتزام القانونی "یسمیها بعض الشراح بالعقود الإلزامیة أو العقود الاضطراریة".
وتسمیة "العقود الإلزامیة" هی التسمیة التی نعتقد بأنها تتلاءم مع طبیعة تکوینها عند الإبرام. ففی هذه العقود لا یؤدی الرضا دوراً کبیراً فی مناقشة شروط العقد عند إبرام العقد، وإنما یطبق طرفا العقد نظاماً رسمیاً مفروضاً علیهما بمقتضى القانون.
حیث یلاحظ أن المشرع یجبر أحد الطرفین باتخاذ خطوات معینة، والقیام بإجراءات محددة بغیة إبرام عقد یریده المشرع – وهذا ما سیتوضح لنا لدى تناولنا التطبیقات التشریعیة فی هذا المبحث – أی أن المشرع یجبر أحد الطرفین بالقیام بأعمال إیجابیة لدفع إجراءات التعاقد إلى الأمام لظهور عقد جدید إلى الوجود. هذا العقد هو ما یستهدفه المشرع فی الظاهر، ولکن الأهداف الاجتماعیة والاقتصادیة والإنسانیة هی التی تقف وراء ما استهدفه المشرع من إبرام العقود المذکورة.
ویرى بعض الفقهاء أن هذا الإلزام القانونی بالتعاقد یعد قیداً خطیراً على حریة التعاقد وعلى حریة التجارة، وهو یبرز خاصیة الوظیفة الاجتماعیة التی یقوم بها قطاع التوزیع فی الاقتصاد الموجه، وعلى الرغم من اتفاقنا على بروز الوظیفة الاجتماعیة للألزام القانونی، إلا أننا نعتقد أن هذا القید هو من القیود المهمة التی یجب أن یمارسها المشرع، وذلک منعاً لحالات الاستغلال والغبن التی قد تترتب على بعض الأشخاص فی حالة عدم وجود العقود الإلزامیة. ومن ثم یترتب على هذا الإلزام القانونی بالتعاقد أن یکون الملزم بالبیع فی حالة إیجاب جبری، فإذا امتنع عن إبرام العقد عّد التعبیر الصادر عمن یرید الشراء قبولاً للإیجاب، وتکتفی المحکمة عندئذٍ بتقریر أن العقد قد انعقد، فمصدر الرابطة العقدیة هنا لیس الإرادة الفردیة، بل القانون ذاته.
إن لفکرة الإلزام القانونی، تطبیقات تشریعیة عدیدة متناثرة فی نصوص عدد من القوانین العراقیة، ولکن تجمعها فکرة واحدة، هی فکرة الإجبار القانونی فی تکوین العقد "حیث یتلاشى دور الإرادة إلى حد کبیر فی التنظیم العقدی وتحل محلها إرادة المشرع الذی یتولى فرض العقد على الطرفین والنص على قواعد ملزمة لهما، بحیث لیس بوسعهما مناقشة هذه القواعد والنصوص الآمرة بل یحتم علیهما الانصیاع لأمر المشرع".
ومن تطبیقات الإلزام القانونی ما ورد من صور للعقد الجبری فی قانون إیجار العقار رقم (87) لسنة (1979م) المعدل. وخاصة ما ورد فی المادة الحادیة عشــــرة فقرة (2) التی نصت على أنه "إذا کان الإیجار من الباطن أو التنازل عنه قد تم قبل العمل بهذا القانون، سواء أکان بموافقة المالک التحریریة أو بدونها، حل المالک محل المستأجر الأصلی فی العقد الذی أبرمه هذا مع المستأجر من الباطن أو المتنازل إلیه".
ففی هذه الحالة لا توجد فی الأصل علاقة مباشرة بین المالک والمستأجر من الباطن أو المتنازل له، بل إن وجود الأخیر فی المأجور، قد یکون دون رضا المؤجر، فی الأحوال التی لا یستند فیها التأجیر من الباطن أو التنازل عن الإیجار إلى إذن تحریری من المؤجر، ومع ذلک، وبالرغم من عدم مشروعیة إشغال المستأجر من الباطن والمتنازل له عن الإیجار، نجد أن المشرع بهذا النص قد أضفى على هذا الأشغال صفة المشروعیة، وأصبح المؤجر ملزماً بالدخول فی علاقة عقدیة مع المستأجر من الباطن أو المتنازل له، ومصدر هذه العلاقة کما هو واضح هو نص القانون.
کما أجاز المشرع فی حالة البیوع الجبریة التی تجریها الدوائر المختصة للمالک أو الشریک، البقاء فی العقار بصفة مستأجر، وبموجب ذلک یدخل مشتری العقار فی علاقة تعاقدیة جبریة، ویصبح مؤجراً، ولو دون إرادته، فقد نصت المادة الخامسة عشرة من القانون المشار إلیه سابقاً على أنه "لا یجبر المالک أو الشریک الذی یشغل العقار، إذا بیع قضاء أو بواسطة أی جهة مختصة أخرى على تخلیته إذا رغب فی الاستمرار على شغله بصفة مستأجر.
کما جاءت المادة السادسة عشرة من القانون المشار إلیه آنفاً، بصورة أو حالة أخرى للعقد الجبری إذ نصت على أنه " یجوز لمن نقل من العاملین فی الدولة أو لدى الأشخاص المعنویة العامة أو نسب للعمل فی مدینة أخرى أن یشغل المسکن الذی کان یشغله سلفه بشروط عقد الإیجار السابق نفسها، طبقاً لأحکام هذا القانون، على أن یتحمل الأجرة من تاریخ إخلاء المأجور فعلاً".
ففی هذه الصورة نجد أن إرادة المؤجر تصبح معدومة، فلا یستطیع أن یرفض قبول المستأجر الجدید. ویلزم بالبقاء فی الرابطة العقدیة السابقة، ولکن بعد أن تغیر أحد أطراف هذه العلاقة وهو المستأجر.
کما جاء فی مضمون المادة العشرین من القانون المذکور آنفاً، صورة أخرى للعقد الجبری، إذ نصت على ما یأتی " یلزم مالک العقار المعد للإیجار لغرض السکنى بإخبار دائرة العقار بخلوه خلال مدة خمسة عشر یوماً من تاریخ الخلو، ولا یجوز أن یبقى خالیاً بدون عذر مشروع مدة تزید على تسعین یوماً من تاریخ إکمال بنائه أو خلوه، وإذا امتنع مالکه عن إیجاره خلال المدة المذکورة، تتولى السلطة المالیة إیجاره وفقاً لأحکام هذا القانون".
فمالک العقار المعد للسکنى مجبر أولاً على الدخول فی علاقة تعاقدیة خلال (90) یوماً، فإن امتنع فإن دائرة ضریبة العقار هی التی تقوم بتأجیره. وفی هذه الصورة یکون الإلزام القانونی بالتعاقد أکثر وضوحاً من الصور السابقة، ذلک أن المؤجر فی هذه الحالة لیس هو المالک، بل السلطة المالیة "ومع هذا فإن المالک یستفید من حقوق العقد، کاستیفاء الأجرة، وطلب التخلیة عند تحقق أحد الأسباب المنصوص علیها فی القانون، وغیر ذلک من الحقوق التی یضمنها له عقد الإیجار، کما أن له طلب فسخ العقد إن کانت الدائرة المختصة قد تعسفت فی تأجیرها للعقار، کأن یکون ترک العقار خالیاً لعذر مشروع".
ویلاحظ على نص المادة (20) من قانون إیجار العقار رقم (87) لسنة (1979م) المعدل ما یأتی:
ونتفق مع جانب من الفقه فیما ذهبوا إلیه، بأن المشرع عندما نص على تلک الأحکام المتضمنة إلزام المالکین بتأجیر عقاراتهم المعدة للإیجار، وعدم جواز إبقائها لمدة تزید على تسعین یوماً بدون عذر مشروع، قد استهدف عدة أهداف منها، توفیر عقارات معدة للسکنى مساهمة فی حل أزمة السکن، والقضاء على جشع المالک، الذی یرید تصید المستأجر لکی یفرض علیه أجرة أعلى من الأجرة القانونیة.
ومن التطبیقات الأخرى التی توضح التقییدات أو القیود التی یفرضها المشرع على المتعاقدین أثناء إبرام العقد، والتی لا یکون فیها المتعاقد حراً فی اختیار العاقد الأخر، بل إنه یُلزم بالتعاقد مع شخص آخر أو جهة معینة من السلطة العامة، هی حکم الشفعة، إذ تخص تملک الشفیع العقار بالشفعة، حیث یجبر مالک العقار المشفوع على إبرام عقد البیع مع الشفیع بقوة القانون. وهکذا یقوم مقام المتعاقد الذی اختاره المالک متعاقد آخر مفروض من السلطة العامة.
وفی العراق، نجد أن المشرع قد قرر فی القانون المدنی رقم (40) لسنة (1951م) حق الشفعة، حیث أجازت المادة (1129) للشریک فی العقار الشائع وللخلیط فی حق ارتفاق للعقار المبیع وللجار الملاصق أن یتملکوا العقار المبیع ولو جبراً على المشتری بما قام علیه من الثمن والنفقات المعتادة.
غیر أن المشرع العراقی عاد وضیق من نطاق حق الشفعة کما کان مقرراً فی القانون المدنی، وذلک بقرار مجلس قیادة الثورة (المنحل) المرقم (211) الصادر بتاریخ (14/2/1978) الذی نص على أن "تلغى المادة 1129 من القانون المدنی ویحل محلها ما یأتی (ینحصر حق الشفعة فی الشریک بالعقار الشائع غیر الزراعی المملوک ملکاً صرفاً)".
ثم ضیق المشرع العراقی من نطاق حق الشفعة مرة ثانیة، وذلک بقرار مجلس قیادة الثورة (المنحل) المرقم (978) الصادر بتاریخ (24/7/1978م) الذی قضى بإلغاء المادة الأولى من قرار مجلس قیادة الثورة (المنحل) المذکور آنفاً، وأحل محلها ما یأتی "أ- ینحصر حق الشفعة بالشریک فی دار السکن الشائعة شرط أن لا یملک داراً للسکن على وجه الاستقلال. ب- تعتبر الشقة السکنیة بحکم دار السکن لأغراض هذا القرار".
واستناداً الى النص المذکور، یلزم الشریک الذی باع حصته لأجنبی، على التعاقد مع شریکه إذا أبدى الأخیر رغبته فی شراء الحصة الشائعة. ولا عبرة بعقد البیع السابق الذی أبرمه البائع مع المشتری الأجنبی، ولا عبرة أیضاً بعدم رغبة البائع فی التعامل مع شریکه الذی قد یکون فی خلاف معه إلى بیع حصته إلى الأجنبی.
وفی بعض الأحیان یرى القضاء الفرنسی أن هناک التزاماً بالتعاقد على عاتق الفرد، إذا کانت السلع التی ینتجها أو یبیعها تعد من البضائع التی تعتبر من السلع الضروریة للفرد – کالخبز مثلاً – فقد صدر قرار عن محکمة النقض الفرنسیة – الغرفة الجنائیة – بصدد رفض خباز بیع منتجاته، وأعلنت المحکمة أنه "لیس للخباز الذی یبیع مواد غذائیة ضروریة التمسک بحریة التجارة، فهو على العکس من الباعة الآخرین الذین یستطیعون باسم حریة التجارة أو الصناعة أن یرفضوا بیع السلع التی یتاجرون بها، لا یستطیع أن یرفض التعاقد".
کما قد یحصل إلزام قانونی بالتعاقد فی القسمة، وهی تعیین الحصة الشائعة وإفرازها. إذ قد تکون برضاء المتقاسمین أو بحکم القضاء. فإذا کانت القسمة بحکم القضاء، فهنا سیتم اعتبار إفراز الحصص بحکم القانون، وإن لم یکن أحد المتقاسمین أو جمیعهم متراضین على ذلک.
وتجدر الإشارة فی هذا المجال إلى أن قسمة القضاء فی العقار یشترط فیها طلب بعض الشرکاء القسمة، فلا تصح القسمة جبراً من الحاکم بدون طلب من أحد أصحاب الحصص، لأن قسمة القضاء حکم، والحکم محتاج إلى سیق الدعوى.
وأیضاً من تطبیقات الإلزام القانونی الأخرى، البیع بناءاً على حجز الدائن، فقد نصت المواد (71-74) و (91-106) من قانون التنفیذ العراقی رقم (45) لسنة (1980م) على إجراءات بیع الأموال المنقولة وغیر المنقولة، إذ تنتقل ملکیة هذه الأموال إلى من ترسو علیه المزایدة العلنیة بعد دفع الثمن. وبالنسبة للأموال غیر المنقولة، على مدیریة التنفیذ بعد الإحالة واستلام الثمن أن تطلب من دائرة التسجیل العقاری المختصة تسجیل العقار المباع باسم من أحیل علیه نهائیاً (م.103 تنفیذ)، فالمدین المحجوز علیه یتمتع بصفة البائع لکونه یملک الأموال المحجوزة، کما أن البیع هو نقل جبری للملکیة یحل فیه تدخل القضاء محل رضاء المدین.
کما توجد حالات یبدو فیها التعاقد بوجه غیر مألوف، حیث تنعدم إرادة بعض المتعاقدین، کما هو الحال بالنسبة للشرکات المساهمة، إذ یتعذر الحصول على توافق کل إرادات المساهمین، وهو ما یدعو إلى خضوع الأقلیة لرأی الأغلبیة، فتقرر الأغلبیة ما تراه ضمن حدود القانون ونظام الشرکة ما دامت الشرکة قائمة.
ففی هذه الحالة قد تقرر الأغلبیة الدخول فی تعاقدات معینة تراها من مصلحة الشرکة، ومن ثم فإن الأقلیة سیعتبرون أطرافاً فی عقد لم یکونوا راغبین فیه، فیتحقق الإلزام القانونی بحقهم ویجبرون على الوفاء بالتزاماتهم المتولدة فی هذا العقد.
أما فی میدان قانون التجارة العراقی رقم (149) لسنة (1970م) الملغی، فقد أوجب التعاقد على بعض الأشخاص، وذلک فی المادة (247) منه، حیث نصت على أنه "إذا کان الناقل محتکراً نوعاً من النقل أو استثمار خطوط معینة، التزم بقبول کل ما یقدم له من طلبات، إلا إذا کان الطلب مخالفاً للشروط المقررة للنقل، أو تعذر على الناقل تنفیذه لأسباب لا شأن له فی إحداثها".
کما یتحقق الإلزام القانونی عند الاتفاق الجماعی المبرم بین جماعة الدائنین من جهة، والمدین المعسر من جهة أخرى، وهذا ما یسمى (بالصلح الواقی من الإفلاس) ففی هذا الاتفاق یلتزم المدین بدفع جزء من الدیون التی بذمته، وجدولة المبالغ الباقیة، لیتسنى له دفعها فی المستقبل، مقابل السماح له بالعودة إلى إدارة أمواله من جدید.
ویتم هذا الاتفاق، فی الغالب على إثر اجتماع عام للدائنین یدعو له حاکم التفلیسة، ویحضره أیضاً أمین التفلیسة، والمدین المفلس.
وفـــــــــــــی هـــــــذا الاجتمــــــــاع یعــــرض علــــــــى الدائنیــــــن مشـــــــروع للصلــــح، فـــــــإن تمـــــــت الموافقــــــــــــــــة علیــــه مـــــــن أکثریـــــــــــة الدائنیــــــــن بتصویـــــــــت عـــــــــــــــــام،
فإن الصلح یصبح نافذاً حتى بالنسبة للأقلیة المعارضة.
وقد نصت المادة (681) من قانون التجارة العراقی الملغی، على أن الصلح لا یقع " إلا بموافقة أغلبیة الدائنین الذین قبلت دیونهم. بشرط أن یکونوا حائزین لثلثی هذه الدیون، ولا یحسب فی هاتین الأغلبیتین الدائنون الذین لم یشترکوا فی التصویت، کما لا تحسب دیونهم". ونصت المادة (689) على أنه "یسری الصلح فی حق الدائنین الذین تتألف منهم جماعة الدائنین، ولو لم یشترکوا فی إجراءاته أو لم یوافقوا علیه". کما نصت المادة (688) فقرة (4) على أنه "یصبح الصلح نافذاً بمجرد صدور قرار التصدیق علیه" من حاکم التفلیسة.
ومن التطبیقات الأخرى لحالات الإلزام التی تعتبر قیوداً موضوعیة على إرادة المتعاقد، الحالات التی یعتبر فیها أن العقد منعقدُ قانوناً على الرغم من غیاب إرادة أحد المتعاقدین، ومن ثم فإن أساس هذا الانعقاد سیکون هو التعویض العینی.
ولأهمیة هذا الموضوع، وللاختلافات الفقهیة التی تنصب علیه، سنتناول عن طریق تقسیم حالات (التعویض العینی بإبرام العقد على الرغم من غیاب إرادة أحد المتعاقدین) إلى قسمین. نوضح أولاً حالة الإیجاب القائم الملزم، ومن ثم نوضح ثانیاً السکوت فی معرض الحاجة بیان.
أولاً: الإیجاب القائم الملزم
إذا صدر الإیجاب باتاً وحدد الموجب مدة للطرف الأخر لیقبل خلالها أو یرفض، فإنه یکون ملزماً بالبقاء على إیجابه حتى نهایة المدة التی حددها. فإذا عدل عن إیجابه ثم صدر القبول خلال المدة المحددة. فلا عبرة بعدوله ویتم العقد، ویکون کل من المتعاقدین ملزماً بتنفیذ الالتزامات التی یولدها العقد على عاتقه، وأساس التزام الموجب بالبقاء على إیجابه هو الإرادة المنفردة بنص القانون، وفقاً للمادة (84) من القانون المدنی العراقی.
وقد یثار السؤال الآتی: ما هو الحل إذا رجع الموجب عن إیجابه فی فترة الإلزام وأصدر الموجه إلیه الإیجاب قبوله خلال تلک الفترة. أیحق للقاضی – فی حالة قیام نزاع – أن یعتبر العقد قد تم أم أن للمسألة وجهاً أخر؟
ذهب البعض من الشراح إلى أن للموجب الرجوع عن إیجابه فی حالة تحدید مدة للقبول، إلا أن رجوعه سیعتبر خطأ یؤدی إلى سقوط الإیجاب، ومن ثم لا یمکن بأیة حال من الأحوال الحکم بقیام العقد على سبیل التعویض وإنما یقتصر التعویض فی مثل هذه الحالة على التعویض بمقابل.
بینما یرى اتجاه أخر أن رجوع الموجب عن الإیجاب الملزم یفسر، للقاضی حریة اختیار طریقة التعویض (عینیاً أو نقدیاً) تبعاً لأهمیة الضرر، لذلک فإن القاضی لا یعد العقد قائماً إلا إذا کان الضرر مهماً ویکفی تبریر هذا الحکم.
بینما یذهب اتجاه ثالث بحق إلى القول : "یعد رجوع الموجب فی الإیجاب القائم الملزم خطأ لکونه سابقاً لأوانه، وقد یکون خیر تعویض عن الضرر الذی یصیب الموجب له، هو اعتبار العقد قائماً على سبیل التعویض العینی".
فالتعویض العینی أکثر مطابقة لروح القانون، وذلک لحمایة الآخرین. إذ لا أثر للرجوع عن الإیجاب الملزم، ومن ثم فإنه یبقى صالحاً لنشوء الرابطة العقدیة إن صادفه قبول موافق له.
ولهذا نؤکد أن الحاجة الاجتماعیة ملحة لإیجاد مناخ اقتصادی متوازن تسوده الثقة بالوضع الظاهر المستقر، فالشخص الموجه إلیه إیجاب قائم ملزم یکون مطمئناً لهذا الإیجاب، ومن ثم سیکون اعتماده فی تسییر أموره على هذا الأساس. فهنا تظهر ضرورة اتباع المشرع للإلزام القانونی بالتعاقد.
ثانیاً: السکوت فی معرض الحاجة بیان.
إذا سکت من وجه إلیه الإیجاب، ولکن ظروف الحال کانت توجب علیه أن یفصح عن إرادته بالقبول أو الرفض، فالشارع یعد سکوته دلیلاً على موافقته وقبوله. وقد عبر المشرع العراقی فی القانون المدنی عن ذلک بالمادة (81) إذ جاء فیها ".... ولکن السکوت فی معرض الحاجة إلى البیان یعد قبولاً". وقد نص المشرع العراقی فی الفقرة الثانیة من المادة نفسها على حالات ثلاث، یعد السکوت فیها قبولاً، وهذه الحالات هی:
ولیس فیما تقدم إلا أمثلة، لا على سبیل الحصر، فکل سکوت تلازمه ملابسات تدل على الرضا فهو سکوت ملابس، ویعد قبولاً.
وبهذا الصدد إذا کان الموجب لم یتلق رفضاً من الموجب له، بمعنى أن هذا الأخیر ظل صامتاً. وقد قام الموجب استناداً إلى القاعدة المقررة فی النص سالف الذکر بتصنیع البضاعة وإرسالها إلى الموجب له، ولکن الموجب یفاجأ برفض البضاعة، أی رفض العقد. فهنا یتضرر الموجب من فعل الموجب له هذا، وعندئذٍ کیف یعوض الموجب عن خسارة حالة وکسب فائت؟
إن خیر تعویض فی هذه الحالة، الحکم بإبرام العقد على أنه تعویض عینی یجبر الضرر الذی لحق بالموجب، استناداً إلى نص المادة (81) من القانون المدنی العراقی.
إن الأصل فی التعاقد أنه لا ینسب إلى ساکت قول، ولکن إن صمت الموجب له استثناءاً یعد قبولاً بالإیجاب، فإن رفض هذا الإیجاب لا بد أن یکون باتخاذ وضع إیجابی، وإلا فإنه یرتکب خطأ، ویکون التعویض لهذا الخطأ منسوباً إلى إرادة الموجب له. "ویعود السبب فی ذلک إلى فکرة الالتزام القانونی للجواب".
ولأجل إبرام العقد بهذا الصدد، فإننا نفترض وجود الإرادة بمعنى قبول الموجب له الضمنی، کما أننا نهدف من ذلک الى إبطال (إحباط) حساب الموجب له الذی یرید أن یبقی الإیجاب قائماً لیعطی لنفسه القدرة على قبول العقد أو رفضه تبعاً لتقلبات الأسعار فی السوق.
وبذلک یکون الالتزام القانونی للموجب له هو التزام الجواب (بمعنى التصریح برفض الإیجاب)، ولیس التزام الموافقة (لأن الموافقة فی هذه الحالة تصدر عن مجرد وضع سلبی یتخذه الموجب له، وذلک هو السکوت).
کما یلاحظ أن اتباع فکرة التعویض العینی بإبرام العقد فی هذا الصدد، یوسع فکرة التعویض العینی. إذ تحتوی هذه الفکرة على معنى مزدوج (الأول) على أساس التزام حفظ الجهد الذی قام به الموجب، و (الثانی) جزاء لعدم تنفیذ الموجب له لالتزامه، إذ إن مجرد سکوته عن الإیجاب یعده متعاقداً، ویلتزم بتنفیذ العقد. إذ "إن انقضاء المیعاد المعقول أو المناسب هو الذی یحدد وقت تحقق السکوت النهائی الذی یعدل القبول ویکون له حکمه، وفی هذا الوقت یتم العقد".
وبعد أن تناولنا فیما سبق التطبیقات التشریعیة للإلزام القانونی، یثار هنا تساؤل حول الأثر الذی یترکه الإلزام القانونی على رضا المتعاقد، فهل لا یزال الرضاء الصادر من المتعاقد فی هذه الحالة کافیاً لاعتبار التصرف عقداً؟ أم أننا أمام مجرد التزام قانونی مجرد عن وصف العقد؟
أثار هذا التساؤل جدلاً فقهیاً شدیداً، وانقسم فیه الفقه القانونی إلى عدة اتجاهات. حیث ذهب جانب من الفقه إلى رفض الاعتراف بالصفة العقدیة لهذه الأعمال، وبرروا ذلک على أساس "أن العنصر الإرادی مفقود، وهذا یعنی أنه لا وجود للعقد. ولهذا فإن هذه الأعمال مجرد حالات قانونیة تتخذ شکلاً عقدیاً".
بینما ذهب جانب أخر من الفقه بالقول : إن المتعاقد وإن کان مکرهاً على التعاقد، إلا أنه یبقى له قدر من الحریة یمکنه من رفض التعاقد وتحمل الجزاء الذی یفرضه القانون فی هذه الحالة، وهذا یکفی قانوناً لاعتبار أن العقد قد تم برضاه إذا أقدم علیه.
وقد اتجه جانب أخر من الفقه اتجاهاً خلیطاً أو وسطاً بین الاتجاهین المذکورین آنفاً، حیث ذهبوا الى القول إنه فی العقود المفروضة لا نکون أمام تصرف قانونی إرادی، ولکن أمام عملیة قانونیة محققة بأثر القانون فقط، ولکن ما زال المبدأ أن الالتزامات التی تولدها هذه العملیة بین الطرفین هی التزامات ناتجة عن عقد تم فیه التراضی بحریة، مع التحفظ بأن من لا ینفذ التزاماته القانونیة بإبرام العقد یکون معرضاً لجزاءات إداریة أو جنائیة مستقلة عن المسؤولیة العقدیة.
وفی رأینا نتفق مع جانب أخر من الفقه ، بأننا لو نظرنا للأمر من منظار مبدأ سلطان الإرادة بصورة مجردة لأصبح من العسیر جداً اعتبار التصرفات الصادرة عن المتعاقد عقوداً رضائیة على النحو المعروف، نظراً لانتفاء الرضاء. فالمتعاقد یعتبر مکرهاً على الإقدام بإبرام العقد.
أما إذا نظرنا إلى الأمر وفق التصورات الحدیثة للعقد ووفق المفهوم المعاصر لمبدأ سلطان الإرادة، حیث أصبحت الإرادة مقیدة بحدود وقیود یفرضها المشرع مراعیاً تحقیق العدل والمصلحة العامة، فعند ذاک یختلف الأمر.
ففی ضوء التطورات الاقتصادیة والاجتماعیة ینبغی التخفیف من صرامة مبدأ سلطان الإرادة.
وإن القول بتدهور العقد (سقوط هیبة العقد) ینطوی على شیء من المبالغة ولا یتفق مع حقیقة الواقع، بل إن دائرة العقد، بدلاً من أن تضیق وتحد، قد اتسعت حتى أصبحنا من یوم لأخر نجد صوراً جدیدة لعقود لم تکن معروفة قبل ذلک، "ففی حدود القیود الواردة على الحریة التعاقدیة یمکن القول بأن النظریة التعاقدیة قد تغیرت، ولکن القول بتدهور العقد شیء والقول بتقیید الحریة التعاقدیة شیء أخر".
وخلاصة لما سبق ذکره فی هذا المبحث ، فإن کان الأصل فی تکوین أو إبرام العقد هو تراضی المتعاقدین، إلا أن مقتضیات الحاجة الاجتماعیة فی إعطاء المشرع الدور الکبیر والبارز فی الإشراف على نوعیة التعاقد أمر مهم لا یمکن تجاهله. ومن ثم یکون المشرع هو صاحب الید العلیا فی منع التعاقدات التی تتعارض مع النظام العام والآداب، ودوره فی تقیید المتعاقدین فی شروط العقد عند التعاقد بما یتلاءم مع الحاجة الاجتماعیة، ودوره فی إلزام المتعاقدین أو أحد أطراف العقد فی الدخول بعملیة تعاقدیة تکون الغایة الرئیسة منها، تحقیق العدل والموازنة بین المصالح المختلفة للأفراد.
المبحث الثالث
القیود المفروضة على الإرادة التعاقدیة فی تحدید مضمون العقد
لم ینل أی مبدأ قانونی شهرة وشیوعاً أکثر مما ناله مبدأ (العقد شریعة المتعاقدین) فقد کانت له قدسیة خاصة عند أنصار مبدأ سلطان الإرادة، ولا زال هذا المبدأ یحتل مکاناً مرموقاً فی المؤلفات القانونیة المدنیة.
إلا أنه قد فقد هذا المبدأ بمفهومه التقلیدی کثیراً من أهمیته، وذلک بسبب تدخل المشرع فی الکثیر من المجالات فی تحدید مضمون العقد، مراعاةً منه للتوازن الذی کثیراً ما تؤدی الظروف الاقتصادیة إلى اختلاله، وبذلک نتفق مع جانب من الفقه بأن "العقد شریعة المتعاقدین بشرط أن یکونا متکافئین متعادلین، أما إذا اختلفت قوة کل منهما فی العقد، فمن الظلم القول بأنه شریعتهم".
وإزاء تحقیق الهدف المتوخى وهو العدل والتکافؤ بین المتعاقدین، أخذت النصوص الآمرة تحل مکان النصوص المفسرة والمکملة. حتى بدأ المشرع وکأنه یشترک مع الطرفین فی تنظیم العقد بما یفرضه من التزامات على المتعاقدین.
ومع ذلک وحتى فی الأحوال التی لا تکون الإرادة منشئة للآثار القانونیة للعقد کافة، فإن الحریة العقدیة لا تختفی، لأنها ما زالت موجودة فی اتجاه الإرادة إلى خلق حالة قانونیة جدیدة، وهی إبراز العقد إلى الوجود ومن ثم تدخل المشرع فی تنظیم هذا العقد.
وتدخل المشرع قد یکون مباشراً، عندما یصدر نصوصاً آمرة یحتم على المتعاقدین مراعاتها. وقد یکون تدخله غیر مباشر، عندما یخول المشرع القاضی صلاحیة التدخل فی العقد بالتعدیل، أو بإلغاء بعض الشروط والالتزامات أو إعادة التوازن الاقتصادی بین المتعاقدین. لذلک سیقسم هذا المبحث إلى المطلبین الآتیین:
المطلب الأول: تدخل المشرع المباشر فی تحدید مضمون العقد.
المطلب الثانی: تدخل المشرع غیر المباشر فی تحدید مضمون العقد.
المطلب الأول
تدخل المشرع المباشر فی تحدید مضمون العقد
سنتناول فی هذا المطلب، القیود التی یفرضها المشرع مباشرةً، أی بمعنى القیود التی یوردها المشرع بنص قانونی آمر ومن ثم یجب على المتعاقدین التقید بها فی تحدید مضمون العقد.
ونشیر فی هذا المجال الى هذه التقییدات قد ترد إما على التنظیم الکامل من حیث المضمون للعقد برمته، أو قد ترد على جزئیة من جزئیاته کتحدید مدة العقد.
ففی (الحالة الأولى) یعد المتعاقد کأنه مقیداً تقییداً کاملاً فی تفاصیل العقد، ومثال ذلک تنظیم المشرع لعقد العمل بکامله، نتیجة لما کانت تعانیه الطبقة العاملة من ظلم اجتماعی واقتصادی. حیث إن معظم المسائل الجوهریة فی عقد العمل هی محل تنظیم تشریعی، کالأجور وساعات العمل وشروط السلامة والشروط الصحیة والعطل والإجازات والضمان الاجتماعی، فأصبح عقد العمل مجرد إقرار للنصوص القانونیة أو الاتفاقیات الجماعیة وحتى فسخ العقد أصبح محل تنظیم تشریعی.
ففی هذه الأحوال نجد أن التنظیم القانونی أخذ یضیق الخناق على حریة التعاقد، ولم یبق للفرد من حریة إلا فی قدر ضیق ینحصر فی قبول إبرام العقد أو الامتناع عن إبرامه.
أما فی (الحالة الثانیة) فسیقید القانون کلا المتعاقدین أو أحدهما فی جزئیة معینة من جزئیات التعاقد. مثال ذلک، هو القید الذی یرد على حریة المتعاقد فی إنهاء عقده. فالعقد الذی انعقد بالتراضی یمکن کذلک أن ینتهی بالتراضی، على أنه لیس للمتعاقدین أن یحددا مدة تزید عما یجیزه القانون، فإن فعلا، تعین إنقاص المدة إلى الحد الجائز.
وهذا ما یفهم من نص المادة (139) من القانون المدنی العراقی التی جاء فیها بأنه "إذا کان العقد فی شق منه باطل فهذا الشق وحده هو الذی یبطل. أما الباقی من العقد فیظل صحیحاً باعتباره عقداً مستقلاً، إلا إذا تبین أن العقد ما کان لیتم بغیر الشق الذی وقع باطلاً".
وقد جاءت المادة (724) من القانون المدنی العراقی بتطبیق لهذه القاعدة إذ "لیس لمن لا یملک إلا حق الإدارة أن یعقد إجارة تزید مدتها على ثلاث سنوات. فإذا عقدت الإجارة لمدة أطول من ذلک، أنقصت المدة إلى ثلاث سنوات. ما لم یوجد نص یقضی بغیره".
أما التطبیق الأخر للقاعدة التی أوردها المشرع العراقی فی نص المادة (139) هو ما ورد فی نص المادة (172) فقرة (1) من القانون المدنی العراقی إذ "یجوز للمتعاقدین أن یتفقا على سعر أخر للفوائد على أن لا یزید هذا السعر على سبعة فی المائة. فإذا اتفقا على فوائد تزید على هذا السعر وجب تخفیضها إلى سبعة فی المائة، وتعین رد ما دفع زائداً على هذا المقدار".
أما التطبیق الأخر فهو إبطال شرط عدم المسؤولیة فی النقل البری.
ومن القیود الأخرى التی یفرضها المشرع مباشرةً على الإرادة التعاقدیة، هو القید الذی یحدد مقدار الأجرة فی بعض العقود. وإن إبرز تدخل للمشرع العراقی فی مجال تطویع العقد فی ظل تقلبات الأسعار هو ما أصدره فی میدان إیجار العقار. فقد أصدر القانون المرقم (145) فی (21/5/1991م) الذی یخص تطویع الالتزام بدفع أجرة العقار. ویتلخص حکم هذا القانون فیما یتعلق بالتطویع، من أنه استلزم إعادة تقدیر قیمة العقار کل (5) سنوات) ثم تحدد الأجرة حسب هذه القیمة بنسبة (5) بالمائة منها لإیجار البیوت و (7) بالمائة منها للشقق و (8) بالمائة منها للشؤون الأخرى.
ویلاحظ على هذا الحکم أنه یهمل بصورة مطلقة مبلغ الإیجار الذی یتفق علیه المتعاقدان، مع أنه یصلح لتحدید النسبة التی یطوع بموجبها بدلاً من النسبة الثابتة فی هذا القانون.
کما أصدر المشرع فی کثیر من الدول، قوانین خاصة تعطی الحق للمستأجر بالبقاء فی المأجور بعد انتهاء المدة المحددة لعقد الإیجار رغم إرادة المؤجر، ولم تجز للأخیر طلب التخلیة إلا لأسباب محددة فی القانون على سبیل الحصر، وهو ما یسمى بالامتداد القانونی لعقد الإیجار.
وهذا ما نص علیه قانون إیجار العقار المرقم (87) لسنة (1979م) المعدل فی المادة الثالثة منه، التی قضت بأنه "1- یمتد عقد الإیجار بعد انتهاء مدته ما دام المستأجر شاغلاً للعقار، ومستمراً بدفع الأجرة طبقاً لأحکام القانون مع مراعاة أحکام الفقرة (14) من المادة السابعة عشر منه".
وعلى الرغم من نص المشرع العراقی على الامتداد القانونی، فإنه قد أورد قیداً فی أثناء الفقرة (14) من المادة السابعة عشرة، التی عدلت بموجب القانون المرقم (56) لسنة (2000م)، ثم أصبح نص المادة السابعة عشرة مع فقرتها (14) على الشکل الآتی "لا یجوز للمؤجر أن یطلب تخلیة العقار الخاضع لأحکام القانون إلا لأحد الأسباب الآتیـة ..... 14- إذا مضت على عقد الإیجار مدة (12) اثنی عشر سنة".
فیلاحظ أن المشرع العراقی قد أورد مدة محددة للتمدید القانونی، إذ إنه لا یستمر إلى ما لا نهایة. وهذا إن دل على شیء فإنه یدل على أن هنالک اتجاهاً نحو التخفیف من أثر الامتداد القانونی لیکون ضمن مدة محددة ولیس مطلقاً.
فالامتداد القانونی للإیجار یجعل من المتعاقدین، بعد أن کانا فی مرکز اتفاقی، یصبحان فی مرکز قانونی، وذلک أن إرادة المشرع قد حلت محل إرادتهما، فقد لا یرغب المؤجر فی الاستمرار بالعقد ولکنه فی ظل الامتداد القانونی یصبح مجبراً ومکرهاً على ذلک. فالمستأجر فی هذه الحالة یستمد حقه لا من عقد الإیجار الذی انتهى بل من القانون، حیث ینشئ الأخیر علاقة قانونیة جدیدة بین الطرفین، فمصدر هذه العلاقة هو القانون لا عقد الإیجار. کما أن هذه العلاقة القانونیة أو الامتداد القانونی سیسری بحق من یستحق الإقامة فی المأجور بعد وفاة المستأجر وطبقاً للمدد التی حددها المشرع.
والواقع أن المشرع لا یلجأ إلى امتداد الإیجار بعد انتهاء مدته إلا عندما تکون هنالک أزمة مساکن بحیث یتعذر على المستأجر الذی یخرج من العین المؤجرة بعد انتهاء الإیجار أن یجد مسکناً مماثلاً بنفس الأجرة التی کان یدفعها.
وبدیهی أن المؤجر لیست له بوجه عام مصلحة فی إخراج المستأجر إلا أنه سیؤجر للغیر بإیجار أعلى. ومعنى ذلک أن المتوقع هنا أن المستأجر الحالی سیضطر إلى استئجار مسکن أخر بأجر مرتفع، والمستأجر الجدید سیستأجر تلک العین بأجر مرتفع، والمؤجرون فی کلا الحالین یستغلون قدرتهم الذاتیة کملاک وفرض الإکراه الناشئ عن نقص العرض إلى زیادة القیمة الایجاریة، وهی زیادة لا حق لهم فیها، لأن قیمة المسکن ومنفعته لم تتغیر، وما کان فی استطاعتهم زیادة الإیجار لولا ضعف المستأجرین إزاءهم، فلتفادی هذه النتیجة المتوقعة – وهی تقاضی المؤجرین أکثر من القیمة العادلة – یلجأ المشرع إلى الوسیلة الملائمة فیقضی بامتداد الإیجار رغم انتهاء مدته.
ویسند جانب من الفقه هذا الحل إلى نظریة التعسف فی استعمال الحق بمقولة أن المؤجر یعتبر متعسفاً فی استعمال حقه فی إنهاء عقد الإیجار لأنه استعمال یخالف المصلحة العامة. لذلک یمکن القول إن الأخذ المطلق بمبدأ العقد شریعة المتعاقدین فی مجال عقد الإیجار یؤدی إلى عدم توازن کفة المتعاقدین فی إدراج شروطهم فی تحدید المدة، إذ سیکون المؤجر فی موقف اقتصادی قوی یختلف عن المستأجر، ومن ثم یستطیع تحدید المدة کیفما یشاء. کما أن الأخذ المطلق بالامتداد القانونی فی عقد الإیجار سیجعل العقد لا نهایة له ومن ثم سیکون المتضرر الوحید من ذلک الامتداد هو المؤجر، خاصة فی العراق الذی شهد اختلالاً اقتصادیاً کبیراً فی الآونة الأخیرة، ومن ثم فإن التوازن الاقتصادی مطلوب هنا، فکان المشرع العراقی موفقاً فی تحدید مدة الامتداد القانونی وجعلها لمدة (12) سنة بموجب القانون المرقم (56) لسنة 2000م.
وخلاصة لما سبق ذکره فی هذا المطلب فإن کان للمتعاقدین الاتفاق على مضمون العقد وتحدید شروطه، إلا أن هذه الحریة قد تتقید فی توجیه الإرادات إلى تحقیق غایة اجتماعیة نبیلة للمشرع، وهی تحقیق التوازن والعدل القانونی لکلا الطرفین. وإن کثرة تدخل المشرع بنصوص آمرة توضح لنا أن الإرادة التعاقدیة لیست مطلقة فی فضاء شاسع بل مطلقة فی فضاء القانون. وهو ما یؤکد لنا بوجوب القول بموضوعیة الإرادة التعاقدیة بدلاً من سلطان الإرادة والعقد شریعة المتعاقدین.
المطلب الثانی
تدخل المشرع غیر المباشر فی تحدید مضمون العقد
ویکون هذا التدخل عندما یخول المشرع القاضی صلاحیة تعدیل أو إلغاء بعض الشروط التعسفیة أو إعادة التوازن الاقتصادی بین طرفی العقد.
فالقاضی یستطیع أن یغیر ویحد من أثر الإرادة الفعلیة للأفراد، فتارة نراه یوسع من مضمون العقد، لیضیف إلیه التزاماً لم یفکر فیه الطرفان، وتارة ینتقص مما اتفق علیه العاقدان، هذه هی بصورة عامة الصورة التی انتهى إلیها مبدأ سلطان الإرادة.
ومثالاً على الحالة الأولى (وهی التوسع فی مضمون العقد) ما وصل إلیه القضاء من مرحلة أکثر إیجابیة، وذلک بفرضه على أحد المتعاقدین التزاماً بضمان سلامة المتعاقد الأخر، خصوصاً فی عقد النقل، فأصبح الناقل ملزماً حتى دون اتفاق مسبق بضمان سلامة المسافر، وهذا یعنی أن القضاء یضیف إلى العقد التزاماً لم یکن محل اتفاق المتعاقدین أو حتى لم یفکر به.
وقد اختلف الفقهاء فی تعیین السند القانونی الذی یعتمده القضاء عند فرض الالتزام بالسلامة على أحد أطراف العقد، فرأى جانب من الفقه أن هذا الالتزام مصدره الإرادة الضمنیة المشترکة للمتعاقدین بینما ذهب جانب أخر من الفقه الى القول إن فی الرجوع بشکل دائم إلى إرادة العاقدین سواء إرادة حقیقیة أو محتملة، لتحدید مضمون العقد شیئاً من التحکم وهذا غیر صحیح، وإنما الأقرب إلى الواقع، هو الاستناد فی الاعتراف بالالتزام بالسلامة إلى نص المادة (150) فقرة (2) من القانون المدنی العراقی – إذ تقابل نص المادة (148) فقرة (2) من القانون المدنی المصری والمادة (1135) من القانون المدنی الفرنسی، وهذا الاتجاه هو ما یمکن الاتفاق معه.
ففی المادة (150) فقرة (2) من القانون المدنی العراقی متسع لاحتواء هذا الالتزام، فقد نصت المادة المذکورة على ما یأتی "ولا یقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فیه، ولکن یتناول أیضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبیعة الالتزام". فمن السهل القول إن الالتزام بالسلامة هو من مستلزمات عقد النقل. وبمقتضى هذا النص یستطیع القاضی أن یضیف إلى مضمون العقد ما یقتضی العرف أو العدالة بإضافته إلیه.
أما من الأمثلة على الحالة الثانیة (وهی الانتقاص مما اتفق علیه العقدان) هو فیما یخص الشرط الجزائی. ففی بعض الأحیان یخضع المشرع بعض شروط العقد لرقابة القضاء خشیة من تعسف المتعاقدین. فبالرغم من أن المشرع العراقی قد أجاز للمتعاقدین مثلاً الاتفاق على الشرط الجزائی (التعویض الاتفاقی) فی المادة (170) من القانون المدنی العراقی، إلا أنه لم یترک ذلک لمحض إرادة المتعاقدین، بل ربط بین استحقاق التعویض الاتفاقی ومقدار الضرر، فلا یکون التعویض الاتفاقی مستحقاً إذا أثبت المدین أن الدائن لم یلحقه أی ضرر، ویجوز تخفیضه إذا أثبت المدین أن التقدیر کان فادحاً، أو أن الالتزام الأصلی قد نفذ فی جزء منه.
کما تولى القضاء مهمة تقویم بعض السلبیات التی تنجم عن فقدان التوازن الاقتصادی بین طرفی العقد فی عقود الإذعان، وانفراد أحد أطراف العقد فی وضع صیغته وإملاء شروطه، وأعلن أنه ما دام صاحب الاحتکار، وهو الأقوى اقتصادیاً قد وضع العقد بعد دراسة دقیقة لکافة بنوده وشروطه آخذاً بنظر الاعتبار الظروف والملابسات کافة، فلیس له بعد ذلک التمسک بتفسیر الشروط الغامضة لمصلحته.
ففی عقد الإذعان تنعدم إرادة المتعاقد فی التفاوض بشأن العقد المراد إبرامه، ویقتصر مبدأ سلطان الإرادة على جانب واحد یتعلق بقبول التعاقد أو رفضه، حتى إن هناک شکاً فی مدى توافر هذا الجانب أیضاً، إذ إن الاحتیاج إلى السلعة أو الخدمة محل العقد یدفعه إلى قبول بنود العقد کما وضعها الشخص المحتکر دون مناقشة.
ولهذا اتجه القضاء إلى تفسیر العبارات الغامضة فی عقود الإذعان لمصلحة الطرف المذعن. وقد حدد المشرع العراقی فی المادة (167) فقرة(3) الطریق للقضاء لتفسیر العبارات الغامضة عندما قرر أنه "لا یجوز أن یکون تفسیر العبارات الغامضة فی عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن، ولو کان دائناً".
کما خول المشرع، القاضی صلاحیة تعدیل الشروط التعسفیة التی تتضمنها عقود الإذعان، بل حتى إعفاء الطرف المذعن منها. وهذا ما عبرت عنه المادة (167) فقرة (2) من القانون المدنی العراقی التی نصت على أنه "إذا تم العقد بطریق الإذعان، وکان قد تضمن شروطاً تعسفیة، جاز للمحکمة أن تعدل هذه الشروط أو تعفی الطرف المذعن منها، وذلک وفقاً لما تقضی به العدالة، ویقع باطلاً کل اتفاق على خلاف ذلک".
بمعنى على القضاء أن یوازن ما بین مبدأ سلطان الإرادة وما بین أن تکون هذه الإرادة حرة وغیر خاضعة لعوامل النفوذ الاقتصادی والاستغلال الأحادی من قبل أحد الأطراف. أی إجبار أطراف العقد على الالتزام بموضوعیة الإرادة التعاقدیة.
فموضوعیة الإرادة التعاقدیة لا یقتصر ضرورة وجودها فی إبرام العقد فقط، بل تمتد إلى ما بعد الانعقاد وإلى انتهاء العقد. وهذا ما أکده القضاء، حیث جاء فی حیثیات قرار إحدى الأحکام التی أصدرها القضاء البلجیکی "بأن کثرة الاتفاقات التی تحتوی على بنود موضوعة سلفاً من جانب أحد المتعاقدین دفعت بالقضاة، إلى البحث عن الوسائل التی بها یوفقون بین أوضاع المتعاقدین. ولم تقف محکمة النقض البلجیکیة إطلاقاً أمام هذه الرغبة لدى القضاة بل طورتها فی حدود اختصاصها. وهی الیوم الحارس الیقظ المراقب لمدى احترام القضاة لمبدأ سلطان الإرادة من ناحیة، والقوة الملزمة للاتفاقات المبرمة بحریة بین الأفراد من ناحیة أخرى، ورفضت من جانبها الأحکام التی أهملت احترام هذین المبدأین أم تلک التی شجعت عدم التعادل بین طرفی العقد".
ومن التطبیقات الأخرى التی یتوضح فیها تدخل القاضی فی تعدیل آثار العقد، نظریة الظروف الطارئة، فقد کانت هذه النظریة خروجاً عن مذهب الإرادة "واستثناءاً عن قاعدة أن العقد شریعة المتعاقدین، ومبدأ القوة الملزمة للعقد، لأن هذه النظریة تهدف إلى تعدیل مضمون العقد على غیر الإرادة المشترکة للمتعاقدین، برد الالتزام الذی جعله الحادث الطارئ مرهقاً إلى الحد المعقول".
وقد رفض المشرع الفرنسی فی قانون نابلیون الاعتراف للقاضی بهذه الصلاحیة نظراً لما کان یبدیه من احترام کبیر لمبدأ سلطان الإرادة، والذی یؤکد على وجوب تنفیذ العقد تنفیذاً دقیقاً، ولا عبرة بما یلحق المدین من خسارة تصیبه لا من خطئه، بل من تغییر الظروف، فهذه أمور تخصه وحده، ولا شأن للدائن بها، وعلى الرغم من ذلک، فإن القضاء الإداری الفرنسی متمثلاً فی مجلس الدولة، على عکس القضاء المدنی کان یأخذ مسألة تغییر الظروف بعین الاعتبار، ویندفع لتعدیل العقد بما یتلاءم والظروف الجدیدة التی لم تکن متوقعة من المتعاقدین.
أما فی العراق فقد خول المشرع العراقی، القاضی صلاحیة تعدیل العقد وفق ما تقتضیه العدالة فی المادة (146) فقرة (2) من القانون المدنی العراقی التی نصت على أنه "إذا طرأت حوادث استثنائیة عامة لم یکن فی الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفیذ التزام المتعاقدین، وإن لم یصبح مستحیلاً، صار مرهقاً للمدین، بحیث یهدده بخسارة فادحة. جاز (للمحکمة) بعد الموازنة بین مصلحة الطرفین أن تنقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلک. ویقع باطلاً کل اتفاق على خلاف ذلک".
بمعنى أن القاضی سیعمل على إعادة التوازن الاقتصادی فی حالة اختلاله، وکل ذلک یصب فی سبیل تحقیق العدالة القانونیة وتحقیق التوازن بین الإطلاق لمبدأ سلطان الإرادة والعقد شریعة المتعاقدین وبین التوجه نحو التقییدات التی یفرضها المشرع بتدخله بصورة غیر مباشرة للضرورات الاجتماعیة. مما یدل على أن الإرادة التعاقدیة لم تعد مطلقة، وإنما یجب القول بموضوعیة الإرادة التعاقدیة.
الخاتمة :
إذا کانت حریة التعاقد على کل حال قوام العقود، وهی التی تقرر قواعد العقد وأصوله وأحکامه، إلا أن هنالک اعتبارات من شأنها أن تشوه هذه الحریة، وتجعل أحد العاقدین غیر متمتع بها تمام التمتع.
فعلى الرغم من أن الإرادة قد أدت دوراً بارزاً ولمدة طویلة فی تکوین العقد وتحدید مضمونه، ولکن هذه الحریة فی التعاقد قد تغیرت کثیراً بحیث أصبحت محددة ومقیدة بنصوص قانونیة آمرة. وقد تم طرح الموضوع محل البحث بطریقة حاول الباحث أن تکون واضحة محاولاً التوصل إلى مجموعة من النتائج والتوصیات وکما یأتی :
أما إذا نظرنا إلى الأمر وفق التصورات الحدیثة للعقد ووفق المفهوم المعاصر لمبدأ سلطان الإرادة، حیث أصبحت الإرادة مقیدة بحدود وقیود یفرضها المشرع مراعیاً تحقیق العدل والمصلحة العامة. فعند ذاک یختلف الأمر. ففی ضوء التطورات الاقتصادیة والاجتماعیة ینبغی التخفیف من صرامة مبدأ سلطان الإرادة، ومن ثم یتوجب التسلیم بوجود عقد، إذ إن العلاقة بین الأطراف تبقى محتفظة بطبیعتها التعاقدیة. فالقول بتدهور العقد شیء والقول بتقیید الحریة التعاقدیة شیء أخر.
The Authors declare That there is no conflict of interest
References (Arabic Translated to English) and References (English)
First: Legal books:
1. Dr. Ahmed Hishmat Abu Setit, Sources of Commitment, Dar Al-Fikr Al-Arabi, Egypt, 1963 AD.
2. Dr. Hassan Ali Al-Dinon, General Theory of Obligations, C1, Sources of Commitment, Freedom House for Printing, Baghdad, 1976.
3. Hilmi Bahjat Badawi, The Origins of Commitments, First Book in Contract Theory, Nuri Press, Cairo, 1943.
4. Dr. Ramadan Abu Al-Saud, Principles of Commitment in Egyptian and Lebanese Law, University House, Cairo, 1984.
5. Dr. Shafiq Shehata, General Theory of Obligations, C1, Parties of Commitment, Egypt, without a year of printing.
6. Dr. Shams El-Din El-Wakil, Lessons in Obligations, El-Ma'aref Establishment, Alexandria, no year printed.
7. Dr. Abdul Razzaq Ahmed Al-Sanhoury, the mediator in explaining the civil law, the theory of commitment in general, sources of commitment, publishing house of the Egyptian universities, Cairo, 1952.
8. Dr. Emad El-Sherbini, Legal Person (Relationship, Rights, Obligations), Ain Shams Library, Cairo, 1973.
9. Munther Al-Fadhel, The General Theory of Civil Law Obligations, C1, Sources of Obligation, I, 1991.
10. Mohammed Abu Zahra, The Royal and Contract Theory, Dar Al-Fikr Al-Arabi, Cairo, without a year printed.
11. Dr. Abdel Moneim Farag Al-Sada, Lectures in Civil Law (The Theory of Contract in the Laws of the Arab Countries), 1, Al-Tawadi, Cairo, 1958.
12. Dr. Abdul Hai Hijazi, General Theory of Commitment, C1, Sources of Commitment, Nahdet Misr Press, Cairo, 1953
13. Dr. Hamam Mohamed Mahmoud / Dr. Mohamed Hussein Mansour, Principles of Law, Knowledge Establishment, Alexandria, 1986.
14. Dr. Abdul Rahman Ayyad, the basis of commitment Akkadi, the Egyptian Office of modern printing and publishing, Alexandria, 1972.
15. Dr. Mohammed Labib Shanab, Lessons in the Theory of Commitment, Dar al-Nahda al-Arabiya, Cairo, 1976.
16. Dr. Mohammed Wahid El-Din Swar, General Trends in Civil Law, The Legal Library, Amman, 2001.
17. Dr. Fathi Abdel Rahim Abdullah, The Components of the Contract as a Source of Commitment, Cairo, 1979.
18. Dr. Mohammed Saeed Al-Mahasani, Summary in Civil Law, C1, Babil Press, 1937.
19. Dr. Abd El-Salam Zehni Bey, Obligations, General Theory, Library of the Faculty of Commerce, Cairo, without a year printed.
20. Dr. Mohammed Saleh, The Origins of Pledges, I 4, Al-Amad Printing Press, Cairo, 1933.
21. Dr. Abdul Majid al-Hakim, summarized in the Civil Law, I 2, Sources of Obligation, Baghdad, 1963.
22. The Egyptian Civil Law Preparation Group, Dar Al-Kitab Al-Arabi Press, C2, Egypt, no year printed.
23. Dr. Mohammed Kamel Morsi, Obligations, C1, Al Alamia Press, Cairo, 1954.
24. Dr. Mustafa Magdy Harja, rental of furnished places, medical facilities, lawyers' offices, and the end of leases to non-Egyptians, i 1, Dar al-Thaqafa for printing and publishing, 1984.
Second: Legal Research:
25. Dhamas Abdul Razzaq Majali Al-Saidi, Role of Will in the Transformation of the Decade, Research published in the Journal of Legal Studies, No. 2, Third Year, Between Wisdom, Baghdad, 2001.
26- Dr. Essmat Abdul Majid Bakr, The Concept of Legal Obligation to Contract and its Application in Iraqi Law, Research published in the Journal of Comparative Law, No. 13, 9th Year, Baghdad, 1981.
27. Dr. Mohamed Abdel-Zaher Hussein, Legal Aspects of the Pre-Contract Stage, Research published in the Journal of Law, Second Issue, Twenty-Second Year, Kuwait, 1998.
28. Dr. Sabri Hamad Khater, Adaptation of Contract in Light of Price Fluctuations, Research published in Nahrain University Journal, vol. (3.2), November 1998.
29. Mohamed Sedeeq Mohamed Abdullah / Khalil Ibrahim Mohamed, The Effect of the Tenant's Death on the Lease Contract, Research published in Al-Rafidain Journal of Law, Volume 8, Issue 28, Year 11, Ibn al-Atheer Publishing House, Mosul, 2006.
Third: Letters and University Notes:
30. Abdul Rahman Abdul Razzaq Daoud Al-Tahan, Contract under the Socialist System, Master's Thesis submitted to the Faculty of Law and Politics, University of Baghdad, 1981.
31. Hussein Abdullah Abdul-Rida Al-Kalabi, General Contractual System, Master Thesis submitted to the Faculty of Law - Nahrain University, 2002.
32. Sulaiman Barak Al-Jumaili, The Struggle Negotiations, Master Thesis submitted to the Faculty of Law, Nahrain University, 1998.
33. Mohamed Sadiq Mohammed Abdullah, Council of Contract, Master Thesis submitted to the Faculty of Law - University of Mosul, 2005.
34. Naseer Sabar Lefta, In-kind Compensation, Master's Thesis submitted to the Faculty of Law, Nahrain University, 2001.
35. Dr. Abbas Zaboun Al-Aboudi, Contracting through the means of immediate communication, PhD thesis submitted to the Faculty of Law - University of Baghdad, 1994.
Fourth: Laws:
36. Iraqi Civil Code No. (40) for the year 1951 amended.
37. Law on Renting Iraqi Property No. (87) for the year 1979.
38. Iraqi Execution Law No. (45) for the year 1980.
39. Iraqi Trade Law No. (149) of the year 1970 abolished.
40. Housing Insurance Law for the Iraqi citizen No. (125) for the year 1963.
41. Iraqi Law No. (56) for the year 2000 amending the law of rent of real estate.
42. Egyptian Civil Code No. (131) for the year 1948 amended.
43. Jordanian Civil Law No. (43) for the year 1976 amended.
44. The French Law of 1804 AD edition 2003.
Fifth: Foreign sources:
45. Shoshir / Feffot / Vermonston, Provisions of the Contract in English Law, I 9, House of Generation, Beirut, 1976.
46. Aubert, notions et roles de, offer et de, acceptation dans la formation du contuact, Paris, 1970.